السهم الذي يتجاوز الغرض كالسهم الذي لا يصل إليه فيصيبه كلاهما طائش ومن أهل الأديان من انتهى به الغلوّ في الدين إلى الخروج منه , ولذلك قال الله تعالى: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: ١٧١) , ومن هؤلاء الغالين من عظم رؤساء الدين من الأنبياء والصلحاء تعظيم إطراء , فزعم أنهم عند الله كالحجاب والوزراء عند السلاطين يتوسلون إليه بإيذاء من يغاضبهم أو يناصبهم أو يقصر في تعظيمهم , وبنفع من يتقرب منهم , ويتخذهم شفعاء أو نصراء , مع أن الثابت في أصول العقائد أن أفعال الله - تعالى - إنما تكون بإرادته , وإرادته إنما تكون بحسب علمه , وأن علمه قديم متعلق في الأزل بكل ما يفعله الله تعالى في الأبد. وهذا الغلو إنما يكون على أشده في العامة الجهلاء الأميين لا سيما أهل البادية ومن في معناهم من أهل القرى الصغيرة. ثم إن هؤلاء إنما أخذوا الدين على ظواهره بالتقليد , فإذا اقتضت الأحوال أن يقلدوا بترك الدين؛ يغلون في التقليد الثاني كما غلوا في الأول , فيكونون في كل حال من الأحوال أشد الناس كفرًا وضلالاً , وهذا هو معنى قوله تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (التوبة: ٩٧) وأما أهل المدن والحضارة والمتعلمون فإنهم أرق طباعًا , وأقرب إلى الاعتدال , وأبعد عن الغلو في ضلالهم وهداهم. يفتتن أهل الثروة في الأرياف بتقليد المترفين من المفتونين بالمدنية الغربية من أهل المدن فيسبقونهم في كل مفسدة. ومن ذلك أن أحد هؤلاء الأغنياء حاول إلزام ولده بأن لا يصوم في رمضان فلم يطعه , فجاء يشكوه إلى ناظر مدرسته في مصر ويستعين به على إلزامه بالإفطار متوهمًا أنه يعظم بذلك في عين الناظر , ولكنه صغر وتضاءل وأهين. ومنهم من جلس أمام (بار) في رمضان , وطلب قدحًا من الكنياك , فسأله مسيحي في البار عن دينه , فقال: مسلم فأهانه وشتمه وطرده , وقلما تجد متعلمًا حضريًّا بهذا التهتك.