شيخ الأزهر في الضحوة الكبرى من يوم الجمعة لأربع خلون من شهر ذي الحجة الحرام تُوفي الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر عن عمر ناهز المائة سنة وقيل جاوزها، وكان قبل يومين من وفاته سليمًا معافى، وقد نعته إدارة المعاهد العلمية في الأزهر إلى رؤساء الحكومة والجرائد اليومية، بما نصه: أصيب المسلمون في مصر بفقد شيخ المسلمين وكبير علماء الدين حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر ورئيس المجلس الأعلى للمعاهد العلمية والدينية الإسلامية. توفي إلى رحمة الله قبيل ظهر اليوم (الجمعة ٢١ سبتمبر ١٩١٧) بعد ما لزم الفراش يومين، كان من قبلهما ينهض بأعباء المعاهد الدينية ويلقي دروسه العالية في الأزهر بعزم فتيّ، لا تنال منه الشيخوخة، ولا يدركه هرم. وستشيع جنازة الفقيد غدًا السبت ٢٢ سبتمبر ١٩١٧، الساعة ١١ صباحًا من محطة كُبري الليمون مارة بشارع كامل، فشارع الموسكي إلى الجامع الأزهر، حيث يجتمع وفود المشيعين من العلماء والطلاب وغيرهم للصلاة عليه. ثم تسير الجنازة إلى مدافن السادات المالكية بقرافة الإمام مارة بشارع الغورية فشارع المغربلين فشارع محمد علي ويلقي صاحب العزة حافظ إبراهيم بك على قبر الفقيد مرثاة من نظمه. أحسن الله عزاء المسلمين في فقيدهم الجليل وتولاه برضوانه ورحمته. كانت وفاته في داره بالحلمية من ضواحي مصر وبدئ الاحتفال بتشييع جنازته في الوقت الذي ذُكر في النعي، وقد وصفت ذلك جريدتا الأهرام والمقطم بالتفصيل، قالت الأهرام: فجيء بالجثة من الحلمية إلى كبري الليمون بقطار خاص يصحبها أنجال الفقيد وأحفاده وآله وجمهور من العلماء والأعيان. وكان في انتظارها في محطة كبري الليمون نفسها من الداخل جمهور عظيم من كبار العلماء والموظفين الملكيين والعسكريين والأعيان والتجار والمحامين، يتقدمهم حضرة صاحب السعادة حسن عبد الرازق باشا وكيل الديوان العالي السلطاني بالنيابة عن صاحب العظمة السلطانية، والكولونِل ر. ف. هربرت بالنيابة عن القومسير العالي البريطاني، وحضرة صاحب المعالي إبراهيم فتحي باشا وزير الأوقاف العمومية بالنيابة عن رئيس الوزراء والميجر هـ. م. جريفس أحد أركان الحرب في الجيش البريطاني بالنيابة عن القائد العام، فاللواء السيد علي باشا مساعد الأدجونانت الجنرال بالنيابة عن وزير الحربية، فالقائم مقام إدواردس بك بالنيابة عن سردار الجيش، فحضرة صاحب المعالي محمود شكري باشا رئيس الديوان العالي السلطاني، فحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية. (ثم ذكرت وكلات الوزارات بأسمائهم وكبار الموظفين الوجهاء بالإجمال وخيَّالة البوليس، فجمهور الطلاب الأزهريين وطلبة مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة ماهر باشا) . ثم وصفت الجريدة السير بالجنازة إلى الأزهر والصلاة عليها فيه وتأبين الفقيد كما بلغت، ومنه أن المؤذنين كانوا يرتلون في المآذن التي مرت فيها الجنازة - وكذا في صحن الأزهر - آيات الأبرار، أي الآيات التي وردت في وصفهم من سورة الإنسان، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} (الإِنسان: ٥) ... إلخ. وأقول: إن هذا من البدع الخاصة بكبار رجال العلم الديني، ومَن يُنزلونه منزلتهم؛ ولذلك يظن الكثير من غير المسلمين ومن المسلمين الجاهلين الذين لا يعرفون السنن والبدع أنه من شعائر الدين. وللمؤذنين في قراءة هذه الآيات طريقة رديئة، لو لم تكن قراءتها والاجتماع لها في المآذن والمساجد بدعًا لكانت هذه الطريقة في التلاوة كافية في وجوب الإنكار عليهم ووجوب منعهم من ذلك على القادر؛ ذلك أنهم يقطعون الآيات قطعًا، يقرأ بعضهم كَلِمًا منها، يسكت في غير مواضع الوقف منها، فيتم بعض آخر ما بدأ كما يفعل الممثلون للقصص في الملاهي، فيفصلون بين الصفة والموصوف، والعامل والمعمول، يقول بعضهم: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: ٥) ، فيقول آخرون: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} (الإِنسان: ٥) ، ثم يقول بعضهم: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإِنسان: ٦) ، فيقول آخرون: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} (الإِنسان: ٦) ، وهكذا يفرقون في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (الإِنسان: ٧) بين (يومًا) وما وصف به، ولو تدبروا الآية لخافوا أن يعذبهم الله تعالى في ذلك اليوم على هذا التمزيق في قراءة كتابه. ومن غريب الاتفاق أننا اقترحنا في جزء المنار الماضي على شيخ الأزهر أن يسعى لإبطال البدع من المساجد، ولم يكد نوزع الجزء إلا وقد قضى الشيخ نحبه، فعسى أن يقوم بذلك خلفه. ثم قالت الأهرام: وكان الناس من وطنيين وأجانب وقوفًا بالعشرات والمئات على جانبي الطريق، يحيون الفقيد في مشهده، ويترحَّمون عليه. ثم ذكرت وصول الجنازة إلى الجامع الأزهر في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر والصلاة عليه وقراءة الشيخ محمد الحملاوي قصيدة من نظمه في رثاء الفقيد. وتلاه الشيخ محمد أبو العيون بتأبين منثور، أشير إليه بأن يختصره لأجل التعجيل بالدفن المطلوب شرعًا، ففعل. ثم حملت الجنازة من الأزهر، والمؤذنون يكررون الآيات التي تقدم الكلام عليها إلى مقابر المالكية من قرافة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبعد مواراتها التراب أنشد محمد حافظ بك إبراهيم مرثيته، وتلاه الشيخ محمد فراج المنياوي بتأبين نثري، أساء فيه الإطراء، فجعل فيه الفقيد من الخلفاء الراشدين، بل فضَّله عليهم في التعبير. ثم عزى جمهور المشيعين أبناء الفقيد، وانصرفوا. *** (مرثية محمد حافظ بك إبراهيم) أيدري المسلمون بمن أُصيبوا ... وقد واروا سليمًا في التراب هوى ركن الحديث فأي خطب ... لطلاب الحقيقة والصواب موطأ مالك عزى البخاري ... ودع لله تعزية الكتاب فما في الناطقين فم يوفي ... عزاء الدين في هذا المصاب قضى الشيخ المحدث وهو يملي ... على طلابه فصل الخطاب ولم تنقص له التسعون عزمًا ... ولا صدته عن درك الطلاب وما غالت قريحته الليالي ... ولا خانته ذاكرة الشباب أشيخ المسلمين نأيت عنا ... عظيم الأجر موفور الثواب لقد سبقت لك الحسنى فطوبى ... لموقف شيخنا يوم الحساب إذا ألقى السؤال عليك ملقٍ ... تصدى عنك برك للجواب ونادى العدل والإحسان أَنَّا ... نزكي ما يقول ولا نحابي قفوا يا أيها العلماء وابكوا ... ورووا لحده قبل الحساب فهذا يومنا ولنحن أولى ... ببذل الدمع من ذات الخضاب عليك تحية الإسلام وقفًا ... وأهليه إلى يوم المآب *** التعازي: ونشرت جريدتا الأهرام والمقطم تعزية برقية من نائب الملك لمدير المعاهد الدينية، وأخرى للشيخ طه البشري أكبر أبناء الفقيد، صرح فيهما بأن نعي الفقيد قد شق عليه كثيرًا، ودعا له بالرحمة والرضوان، وبرقيتان أُخريان بمعناهما من كبير الوزراء، صرح فيهما بأنه أسف جدًا لعدم إمكان تشييعه الجنازة بشخصه. وقد تألف وفد من أنجال الفقيد ومراقب الأزهر رأسه المدير العام للمعاهد الدينية الشيخ عبد الرحمن قراعة لأداء الشكر لرؤساء الحكومة وكبراء البريطانيين الذين اشتركوا في تشييع الجنازة بالذات، أو بإنابة الوكلاء عنهم والمعزين، فبدءوا بقصر عابدين، وسجلوا أسماءهم في (دفتر التشريفات) ، ثم نائب وزير الحربية، وإدواردس بك لشكر السردار، ثم الجنرال كليتون لشكر القائد العام للقوات البريطانية بمصر على إرساله مندوبًا لتشييع الجنازة، ثم وكيل الأوقاف لشكره وشكر الوزير، وأرسلوا برقيات شكر إلى نائب الملك ورئيس الوزراء وقومندان المحروسة ومحافظ العاصمة وحكمدارها. *** (ترجمة الفقيد) نشرت جريدة الأهرام ترجمة وجيزة للفقيد، قيل إنها مستمدة من أهل بيته ملخصها: أنه (وُلِدَ حوالي سنة ١٢٤٣ أو ١٢٤٤ في محلة بشر بمركز شبراخيت، ولما شبَّ حضر إلى مصر لتلقي العلم، وأقام تحت رعاية شيخه الشيخ بسيوني البشري من شيوخ المسجد الزينبي، وأنه تعب في طلب العلم تعبًا شديدًا، ولقي من الدهر مقاومات عظيمة، وأنه كان يتعبد في المسجد الزينبي ليلاً، ويذهب إلى الأزهر نهارًا لتلقي الدروس، وأن خاله عُين أمينًا لكساوي المحمل في أول ولاية سعيد باشا، فخرج معه إلى الحجاز حاجًّا، وبعد أن أدى فريضة الحج عاد إلى مصر، وبقي يشتغل بالتدريس حتى سنة ١٢٧٣ تقريبًا) . وإن أول عهده بالوظائف أن (عُين إمامًا لمسجد إينال بمرتب ٩٠ فضة في الشهر) ، وفي سنة ١٢٩١ مات الشيخ علي العدوي فنِيط به التدريس في المسجد الزينبي بدلاً منه بمرتب مئة قرش في الشهر، وعين وكيلاً عن شيخ المسجد الزينبي لحداثة سنه، وهو الشيخ أحمد الصفتي الشيخ الحالي، وبقي كذلك إلى آخر ولاية إسماعيل باشا، ثم عين إمامًا وخطيبًا لمسجد زين العابدين، ثم شيخًا للمالكية بعد وفاة الشيخ عليش، ثم شيخًا للأزهر لأول مرة في سنة ١٩٠١، وكانت مدتها أربع سنين. وذكر من حبه للعلم وإيثاره له أن تلميذه قدري باشا عرض عليه وظيفة بثلاثين جنيهًا، فأبى مفضلاً الانقطاع إلى تعليم العلم. ولم يذكر تلك الوظيفة، فالظاهر أنه لم يكن يمكن الجمع بينها وبين التعليم. وذكر مسألتين من خلائقه: إحداهما أنه كان اختار الشيخ أحمد المنصوري شيخًا لرواق الصعايدة، فأبى قاضي مصر إقامته ناظرًا على أوقاف الرواق، فأصر صاحب الترجمة على تعيينه دون غيره (ورأى في العدول إهدارًا لرأيه، وبالغ في التشبث برأيه حتى فضَّل ترك المشيخة على التجاوز عن حقه المفروض بحكم القانون) ، والثانية أنه لما جدد المسجد الزينبي رأى رئيس مهندسي الأوقاف أن ينقل القبر المنسوب إلى السيدة زينب بما فيه، فعارضه الشيخ، وأعلمه أن ذلك مخالف للشرع من وجوه عديدة، وانتهى الخبر إلى الخديو محمد توفيق باشا، فأمر بإبقاء القبر في مكانه، وترضَّى الشيخ، فتم له ما أراد، ولما كانت نشأة الشيخ الدينية قد كانت في جوار ذلك الضريح وصار قيِّمًا له عدة سنين ظل محافظًا على تكريمه طول عمره، ولا ندري أكان يعتقد أن السيدة زينب مدفونة في هذا المكان كما يظن عامة المصريين أم كان يرى أن نسبة القبر إليها كدفنها فيه؟ وفي هذه الترجمة أغلاط وقصور. وقد علمنا من عالم من أكبر تلاميذ الفقيد وأعلمهم بترجمته أنه سمع منه أنه وُلد في سنة ١٢٣٧، وأنه جاء مصر في سنة ١٢٤٥ أو ١٢٤٧، وأقام عند خاله الشيخ بسيوني شلتوت المؤذن في مسجد السيدة زينب. ثم قضت الحال أن أرسله الخال إلى الأزهر. وقد رأينا في جريدة وادي النيل التي تصدر في الإسكندرية - وهي أرقى جريدة للمسلمين في هذا القطر - نعيًا للفقيد، وشيئًا من حاله، يبلغ زهاء نصف عمود، بدأه بقوله: (نعت العاصمة الأستاذ الشيخ سليمًا البشري شيخ الجامع الأزهر عن عمر طويل، قضى شطره الأكبر في خدمة العلم، وقضى أواخره في ولاية المشيخة الأزهرية غير مرة. وكان رحمه الله في ولاية المشيخة ذا أنصار يحفون من حوله، وخصوم كثيرين يأخذونه بأمور ليس من المناسب ذكرها ... ) ، ثم ذكر أن علماء الأزهر متفقون على أنه أعلمهم بالحديث وأن طريقته في قراءته أنه كان يقرأ الحديث أولاً على سبيل التبرك، ثم يقرؤه أحد الطلبة بصوت جهوري، ثم يشرحه الشيخ بما شاء الله من علمه. أقول: وهذه المزيَّة له مشهورة سمعتها من كثيرين، وعليها بنى حافظ مرثيته، وهي أعظم مزية تُذكر له في هذا العصر، الذي أهمل الأزهريون فيه العناية بعلم السنة روايةً ودرايةً؛ حتى صار طلبة العلوم الدينية في ديوبند وغيرها من بلاد الهند يفضلون أكبر شيوخ الأزهر في علوم الحديث. وإنما كان الشيخ سليم البشري على حظ من علم الحديث؛ لأنه طلب العلم قبل هذا الجيل بجيلين، وكانت كتب السنة لا تزال تدرس في الأزهر. وقد أدركنا من أقران الشيخ في الطلب شيخ شيوخنا الشيخ محمود نشابه فألفيناه منفردًا بعلوم الحديث، وقد كنت أقرأ عليه صحيح مسلم، فيصحح لي أسماء الرواة وغريب الحديث، ويجيبني عن كل ما أسأله عنه من المشكلات على البداهة من غير مراجعة شرح ولا كتاب آخر، فإذا رجعت إلى تلك الكتب رأيت ما قاله هو الصواب. ولكن صاحب الترجمة لم يعمل شيئًا لإحياء ما اندرس من علوم الحديث في الأزهر في أيام رياسته ومشيخته. وعندنا أن أعظم ما يُذكر في تاريخ مشيخته للأزهر قبوله للقانون الذي وضعته الحكومة له ولمعاهد التعليم الديني التابعة له وتنفيذه إياه، وقد بيَّنَّا رأينا فيه في المجلد الرابع عشر من المنار، ولا مجال لبيان ذلك، ولا لما كان بين المترجم وبين الأستاذ الإمام من الوفاق والخلاف في إدارة الأزهر، وإنما أقول: إن المترجم كان حريصًا على نيل رضاء السلطة العليا في كل وقت، وقد فصَّلنا ذلك بعض التفصيل في تاريخ الأستاذ الإمام. (للترجمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))