حبه للمنار وإيذاؤه فيه قلنا: إن المودة بيننا وبين الفقيد كانت موروثةً ثم قويت بما كان بيننا من المشاكلة في حب العلم والتصوف، ثم ازدادت قوةً بتصدينا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي في طرابلس الشام، حيث كان - رحمه الله وأحسن مثوبته - أقوى المدافعين والأنصار، فلما أنشأنا المنار وتصدت الحكومة الحميدية لمقاومته وإيذاء قرائه بدسائس بعض المقربين من السطان - كان هو أقوى الثابتين على الانتصار له والمجاهرين بولاء صاحبه. منعت الحكومة الحميدية إدخال المنار إلى ممالكها منذ سنته الأولى بإرادة سلطانية، فكان يرسَل في البُرُد الأجنبية ويقرأه الناس في زوايا بيوتهم سرًّا منفردين ثم يخفون نسخه في المخابئ، وكان هو وحده يقرأه على من يسمر معه في حجرة الضيوف والسمار ويحمله في جيبه إلى دار الحكومة، ويضعه في درج مكتبه لينظر فيه عند سنوح فرصة فترات العمل، فلما اشتد الضغط والإيذاء لقرائه وفتشت بيوت المتهمين بقراءته كان نصيبه من الجزاء أن حبس في دار الحكومة مع بعض إخواننا، فصبر على هذه المحنة صبر الكرام، ولم يداهن الحكومة الظالمة بقول ولا فعل. وقد سيم قبل ذلك أن يرد على المنار، أو ينكر على صاحبه مسلكه في شرح خرافات أهل الطريق ومفاسد الظلمة وتقصير العلماء فيما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأبى مصرحًا بأن هذا الذي يقوله المنار هو الحق وأنه أدى به النصيحة التي هي روح الدين وقوامه، وأوعز بمثل هذا الرد إلى كثير ممن يرون رأيه في المنار وصاحبه، ومنهم من يدعي صحبته ومودته فسمعوا وأطاعوا، وكانت جريدة طرابلس ميدانًا واسعًا لجولان أقلامهم، وكل منهم يعتذر لمثل الفقيد من إخواننا الصادقين بأنه مُكره لا مختار يخشى إيذاء رئيس زبانية الجلاوزة، وغضب المتصرف، فإن أمن شرهما في نفسه وماله وشرفه لمكانة له في بلده فلا يأمن من شر المحرك لهما من ضفاف البسفور، ومنهم من زعم أنما كُتب عن لسانه في تلك الجريدة كذب وأنه لا يجرؤ على التكذيب. وكان في جميع الأوقات والأحوال راضيًا عن جميع مباحث المنار وآرائه الدينية والأدبية والاجتماعية والسياسية مؤيدًا له فيها مناضلاً كل ما يسمعه من نقد أو اعتراض عليها، وكان يرجح ما يحققه المنار من قواعد العقائد ومشكلات الفقه ومسائل التصوف على جميع ما خالفه من أقوال المتقدمين والمتأخرين، وإن عظمت شهرتهم وضخمت ألقابهم. ولما جئت طرابلس عقب إعلان الدستور العثماني بذل منتهى طاقته واجتهاده في الحفاوة بي، وكانت مدة إقامتي في داره أضعاف مدة إقامتي في دار أمي وأبي، وكان يتفنن لي كل يوم باختيار أطايب الطعام، وأنواع الحلوى، وأصناف الفاكهة، لتجديد الرغبة فيها، وإثارة الشهوة لها، وأمن الملل من المتكرر منها، وكان فوق ذلك كله يغتنم فرص خلو المكان من الزائرين - وقلما كان يتفق ذلك إلا عند المنام وبعد صلاة الفجر - فيطرح علي مشكلات المسائل العلمية التي تعرض له في مطالعته لأشهر الكتب، وغير ذلك مما يفكر فيه من الأمور السياسية تارةً والروحية أخرى. إنني لم أعرف أحدًا من الناس أشد من هذا الرجل حرصًا على العلم، وحبًّا للحق، وإخلاصًا في القلب، وصفاءً في النفس، وبعدًا عن الهوى، وبغضًا للدعوى، وسلامةً من الشكوى، فهو على مخاللته إياي، ومكاشفته لي بكل ما يجول في ذهنه، ويعلق بقلبه لم أره في يوم من الأيام شكا إليّ بغض أحد له، أو بغضه لأحد إلا ما كان يؤلمه من غفلة الناس وإعراضهم عن الحق، وعدم قبولهم دعوة الإصلاح؛ حبًّا فيهم وحرصًا على هدايتهم. فمن كان متحليًا بهذه الصفات لا يستغرب منه الرغبة المخلصة في الاستفادة من كل من يراه أهلاً للإفادة العامة أو الخاصة، وإن كان يفضله في كل ما عدا ما يستفيده منه، فكيف يكثر منه طلب الفائدة بمنتهى الصفاء والإخلاص ممن غرس في قلبه حسن الاعتقاد فيه من أول نشأته، ولم يزل ذلك الغرس ينمى ويترعرع حتى صار شجرةً عظيمةً ثابة الأصل سامية الفرع يانعة الثمر الذي هو أحب الثمار إليه وإن كرهه من يخالفه في ذوقه ولم يتح له مثل عنقوده. كتبت هذا، وأنا في خجل من كتابته حتى كاد يصدني عنه، وما كان أشد تريثي في المضي فيه ولولا النية الصالحة في كتابته لما غلبت خجلي بقوة الإرادة التي يغلب بها الرجل كل ما يتعارض فيه الشعور النفسي والمصلحة الراجحة، وإنني لأشد خجلاً من تنفيذ شيء آخر يتعلق بترجمة هذا الرجل الكامل مما يقتضيه تاريخ الإصلاح ورجاله، وهو نشر مقال من مكتوباته إلي، وسأراجع طائفةً منها، ثم أرى هل يمنعني الخجل مما فيها من الإطراء عن نشرها أم لا. وجملة القول في الفقيد أنه لا يختلف أحد ممن يعرفه في أنه أفضل أسوة في الخير، وأكمل مثال في هذا العصر للفضيلة، فهو من شهداء الحق على الخلق، وقد حدث بفقده فراغ لا يملأه ألوف الرجال، فنسأله تعالى أن يحشرنا وإياه مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.