للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى

{قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (الأنعام: ٦٥) [.
{إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: ٦-٧) وإنه ليبغي أن
رآه اعتز واستعلى، وإن مدّ الطغيان لإلى جزر، وإن غناه لإلى فقر، وإن البغي
مصرعه وخيم، وإن علوّ الجبارين لإلى هبوط ذميم.
كانت المسألة الشرقية فزّاعة أوربا إذا فزعت من سوء العواقب، ومشأمتها إذا
تطيرت من أمارات النوائب، وكانت ترى أن مشكلتها أعقد من ذَنَب الضَّب، وأن
حلها أعسر من تربيع الدائرة. وقد أنذرها داهية ساستها (البرنس بسمارك) بأن
شرارة واحدة من نار حرب بلقانية تكفي لإحراق ممالك أوربة كلها، ولكنهم تماروا
بالنذر، وغرهم ما كانوا يسمونه التوازن الأوربي بين وفاق مثلث وحلاف مثلث.
وألفت دولة الروسية بين المختلفين من الدول البلقانية، فجعلت البلغار واليونان
والصرب والجبل الأسود إلبًا واحدًا على الدولة العثمانية. بعد أن أغارت إيطاليا
على مملكة كبيرة من ممالكها وهي طرابلس الغرب وبرقة.
ثم سمحت الدول الكبرى كلها للبلقانيين بقتال الدولة العثمانية، ولكنهن
صرحن بأنهن لا يسمحن بتغييرٍ ما في خريتة البلقان؛ لأن التنازع على تلك
الأرض مثار البغي والعدوان، فاشتعلت نيران الحرب، وأظهر البلقانيون فيها من
القسوة والوحشية والفظائع والفواحش ما لا مزيد عليه، ولم ينبض في قلوب رجال
الدول الكبرى عِرق من عروق الرأفة والرحمة، ولا احتج أحد منهم على تلك
المذابح والفظائع بكلمة، وإنما كان همهم محصورًا في حصر الحرب في البلقان،
ومنع شررها أن يصل إلى ممالكهم الكبار.
ثم شرع البلقانيون في قسمة ما استولوا عليه من البلاد العثمانية، فسمحت لهم
الدول بذلك متناسية وعدها بعدم السماح. فوقع بينهم التنازع والتقاطع، وحل
الخلاف محل الحلاف، ولم يُرضهم ما حكم به في القسمة مؤتمر السفراء، فأوقدوا
نار القتال بينهم، ونقضوا ما أبرمته الدول لهم. ثم دخلت رومانية في الأمر معهم،
وضربت من الغنيمة بسهم، وكانت القسمة ضئزى، غبن بها البلغار، وكان القدح
المعلى لليونان، واغترّت الصرب أي اغترار، وكانت النمسة مسعر نار الفتنة
بينهن، لتأمن مغبة اغترار الروسية بهن.
وقعت الواقعة، وفتح باب المسألة الشرقية، وسوَّل الغرور للدول الكبرى
عملها، وظنت أن ساستها قدروا بدهائهم على حصر نيرانها في مواقدها، ومنع
شررها أن يتعدى إلى ما حولها، وأن أوربة المملوءة من البارود والديناميت، أمنت
أن تصيبها الشرارة التي أنذرها بسمرك فيعمها الحريق. ونسوا عدل الله العام في
جميع الأمم والأقوام، وأنه يعاقب المقر للشر كمجترحه، ويجزى الساعي بالخير
كفاعله {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر: ٤٧) .
غرَّ الصرب ما أوتيت من نصر ومن سعة في الملك، ومن عود الصربيين
العثمانيين إليها، فطمعت في صرب النمسويين وفيما يسكنونه من البلاد أيضًا،
فزادت جمعياتها السرية الساعية إلى ذلك جرأة وإقدامًا، حتى اغتال بعض الفدائيين
منهم ولي عهد النمسة وقرينته في ٢٨ يونيو الماضي، في مدينة بوسنة سراي
عاصمة البوسنة عند زيارتهما لها. وقد ثبت لدى حكومة النمسا والمجر أن هذه
الجناية كانت إثر مكيدة دبرت في بلغراد عاصمة الصرب. وأن بعض الضباط
وعمال الحكومة من الصربيين هم الذين أعطوا الجناة ما كان معهم من السلاح
والقذائف النارية، وكلهم من جمعية صربية ثورية. فأرسلت حكومة النمسة والمجر
بلاغ تهديد وإنذار لحكومة الصرب اشتمل على ما يرهقها ويذلها.
فما كلفتها إياه تصريحًا أو ضمنًا أن تعترف باشتراك بعض ضباطها وموظفيها
في جناية قتل ولي العهد وزوجه، وتتبرأ من عملهم وتصرح بالأسف لوقوعه، وأن
تنشر الاعتراف والبراءة في جريدتها الرسمية وجريدتها العسكرية، وأن تتبرأ من
أعمال الجمعيات الصربية المحرضة على عداوة النمسة، وأن تحل جمعية (نارونا)
أو (إبرانا) وأن تضبط جميع المطبوعات الصربية المشتملة على التحريض
على النمسة والتنفير منها لهذا الجمعية ولغيرها، وأن تعزل جميع الضباط
والمستخدمين الذين تثبت لدى حكومة النمسة تهمة تحريضهم على عداوتها - وأن
تعاقب الشركاء في جناية اغتيال ولي العهد من الصربيين المقيمين في بلادهم،
ومنهم بعض الضباط والموظفين المعينين بأسمائهم، ومنها أن تحذف من كتب
التعليم كل ما يعد دعوة إلى معاداة النمسة، وتعزل المعلمين الذين يبثّون هذه الدعوة،
ومنها أن تمنع تهريب السلاح والمواد المفرقعة إلى ما وراء الحدود، ومنها أن
تقبل من تندبهم حكومة النمسة لمساعدة حكومة الصرب على تنفيذ هذه الاقتراحات.
كتب إنذار النمسة في ٢٣ يوليو الماضي، وكلفت الصرب أن تجيب عنه في
مدة ٤٨ ساعة. أما الصرب فلم تقبل مطالب النمسة، وبلغت الدول الإنذار وطلبت
منها التوسط في الأمر، وأما الدول فقد اختلف رأيهم: فروسيّة عدَّت
بلاغ النمسا وسيلة منها إلى قتال الصرب وإذلالها، وصرّحت بأنها لا تسكت
على ذلك، وبادرت إلى مذاكرة فرنسا وإنكلترا ومطالبتهما بالاتحاد معها على الحرب
والقتال، فأسرعت فرنسا إلى وعدها بالقيام بجميع عهودها التي تفرضها عليها
المحالفة. ولكن إنكلترا ترددت في الأمر، ولم تعد بالمساعدة على الحرب، وطفقت
تخاطب سفراءها بلسان البرق، مجتهدة في رتق الفتق. وأما ألمانيا فقد أظهرت
العطف على حليفتها وارتأت وجوب حصر الخلاف بين النمسة والصرب دون
سواهما، حتى لا يتعدى لهيب النار إلى أوربة كلها، وتبادل عاهل الألمان وقيصر
الروس البرقيات في وجوب صيانة السلم في أوربا، وصرّح الأول للثاني بأن ذلك
موقوف على عدم تصدي روسيا للاستعداد للحرب؛ ولكن روسيا بادرت إلى تعبئة
جيشها تعبئة عامة، وبلغ ناظر خارجيتها سفير إنكلترة أن عند حكومته براهين قاطعة
على أن ألمانيا تستعد برًّا وبحرًا لمهاجمتها. فروسيا بدأت بالتعبئة
جهرًا، متهمة ألمانيا بأنها تستعد سرًّا، وأنها لا تدعها تسبقها في الاستعداد.
والمتبادر مما دار بين الدول في هذه المسألة أن ما كانوا يقولونه ويكتبونه كان
له ظاهر وباطن، والظاهر منه أن إنكلترة وفرنسة كانتا حريصتين على منع الحرب
الأوربية؛ ولكن روسيا وألمانيا لم تدعا لهما طريقًا يسلكانه لذلك. ففي ٢١ يوليو قر
قرار الروسية على التعبئة العامة رسميًّا، وألمانيا وفرنسا أمرتا بذلك في أول
أغسطس. وأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في ٢ منه بناءً على اجتياز بعض
الجنود الروسية للحدود، وتتايعت [١] سائر الدول الكبرى على الحرب ماعدا إيطاليا
فإنها لزمت الحياد.
نعم إن وراء الأسباب الرسمية للحرب أسبابًا أخرى تقدمتها ترجع إلى أصل
واحد في السياسية، وهو تعارض الدول الكبرى في المصالح والمنافع والسيادة
والعظمة في الأرض، فروسيا ترمي إلى أن تكون ذات السيادة العليا بضم عصبية
الشعوب السلافية في البلقان والنمسة إليها، والتوسل بذلك إلى النفوذ من زقاقي
الآستانة (البوسفور والدردنيل) إلى البحر الأبيض المتوسط، الذي هو بين أوربة
وآسية وإفريقية بمنزلة القلب من جسد الإنسان.
وألمانيا تود أن تكون ذات السيادة العليا في أوربة كلها؛ بل في العالم كله،
بالجمع بين القوتين البرية والبحرية على أكمل ما يصل إليه ارتقاء العلوم الطبيعية،
والفنون الآلية. وكانت إنكلترة قد سبقت الدول كلها بالقوة البحرية التي جعلت لها
السيادة العليا في الاستعمار، فهي ترى أنه يجب عليها أن تحافظ على ما آتاها الله
بجدها وتدبيرها، فكانت كلّما رأت ألمانيا أنشأت بارجة حربية تنشئ بارجتين مثلها؛
لأنها إذا لم تفعل ذلك لا تلبث أن تسلبها ألمانيا ملكها.
وأما فرنسا فهي على ما كان لها من السبق في الفنون والأعمال الحربية، من
برية وبحرية، لم تكن هذا في العهد الذي عظمت فيه المباراة بين إنكلترا وألمانيا،
مجتهدة في الاستعداد للحرب الأوربية بحسب ما تخولها ثروتها ومعارفها؛ بل
اكتفت من العظمة بتوسيع مساحة مستعمراتها، بالاستيلاء على مملكة المغرب
الأقصي بعد إضعافها بإيقاع الفتن والحروب الداخلية فيها. وانصرفت إلى التمتع
بسعة الثروة ونعمة الحضارة، واكتفت من اتقاء زحف ألمانيا عليها بتحصين
حدودها، وبمحالفة روسيا ثم مودة إنكلترا لها، فكانت تمد روسيا بالقناطير المقنطرة
من الذهب وتغريها بما يوافق هواها من الاستعداد للحرب، وتوغر صدرها
وتستثير دفين حقدها، وتستخرج كمين ضغنها على النمسا وألمانيا معًا. وكان من
سياستها أن تعطي روسيا المال الذي تقتضي الحال إنفاقه على الاستعداد الحربي
مباراة لألمانيا، فتستفيد بذلك فائدتين: استغلال المال بدلاً من إضاعته في زيادة
أُهبة الحرب، وإعداد جند غريب للدفاع عن فرنسا بدلاً من تعريض معظم شبابها
للقتل، مع ما منيث به من قلة النسل؛ ولكن إنكلترا حملتها بعد الاتفاق معها على
تعزيز قوتها البحرية، كما حملت هي روسيا على زيادة العناية بجميع المعدات
الحربية.
بذلك كله أصبحت هذه الدول العريقة في العلم والصناعة والثروة والحضارة،
تنفق مئات الملايين ممّا تمصه من ثروة البشر وثمرات كسبهم، على الاستعداد
لإراقة دمائهم، وتدمير حضارتهم، وكلها مشتركة في هذا الوزر الكبير، ومُصرة
على هذا الحنث العظيم، الذي لا باعث له إلا الطمع في الكسب، وحب العلو في
الأرض وإن كانت تموهه بدعوى تأييد السلم بالاستعداد للحرب، وعدم استعمال هذا
السلاح في غير المتوحشين، الذين تريد تهذيبهم بالمدنية والدين!!
وإنما تراهم يخصون ألمانيا أو عاهلها غليوم الثاني بمزيد الذم، ويرمونه
بتعمده إغراق أوربة في بحر من الدم؛ لأن أمته قد صارت بسعيه أشد أمم الأرض
عناية بالفنون والأعمال العسكرية، واستعدادًا للحروب البرية والبحرية، حتى
اضطرت سائر الدول اضطرارًا لمجاراتها في ذلك، فإذا كانت ألمانيا لم ترض من
الدول التي سبقتها إلى الاستعمار بمساواتهن لها في حرية التجارة والكسب في
بلادهن ومستعمراتهن، ولا بما بَذَّتْهُنَّ به من النماء النسبي في تجارتها وصناعتها
فقامت تستعد لسلبهن ما في أيديهن، أو الاستعلاء عليهن، فكيف يرضين بأن
يعرضن ملكهن للضياع والخضوع لقوة الشعب الجرماني العسكرية القاهرة؟
هذه حجة الأمم الأوربية على ألمانيا التي أرادت أن تعامل الدول التي جارتها
أو سبقتها بالحضارة، بمثل ما عاملن به الأمم التي غلب عليها الجهل والبداوة،
وهي السيادة بقوة العلم والصناعة. على أن الجرائد المصرية الرئيسة كالمقطم
والأهرام نقلت لنا عن لندن وباريس وبطرسبرج أن جميع الشعوب تلقت نبأ
إعلان الحرب بالسرور والابتهاج، والهتاف في الشوارع والأسواق؛ واستثنوا
الشعب الألماني فزعموا أنه كاره للحرب، مسوق إليها بتأثير العاهل غليوم الثاني
والحزب العسكري. فإن صح قولهم هذا - ولن يصح - فهو فضيلة لهذا الشعب على
سائر الشعوب الأوربية. ولكنهم أرادوا أن يهونوا أمره، ويبالغوا في ذم عاهله،
فمدحوه بغير قصد، وسيرجعون عن هذا المدح.
حسبنا هذه الجملة الوجيزة من بيان أسباب هذه الحرب ومقدماتها، ونختم
المقال بعبرة المؤمنين بالله فيها، فنقول: إن هذه الحرب تربية من الله تعالى للبشر
الذين بغى أقوياؤهم على ضعفائهم، ولم يشكروا نعم الله عليهم بتسخير الطبيعة لهم،
وتمكينهم بسعة العلم بسننه فيها، من جميع أنواع الانتفاع بها؛ بل كفروا هذه
النعم بالبغي في الأرض، واستعلاء بعضهم على بعض، حتى إنهم حقروا أخاهم
الإنسان الذي لم يصل إلى درجتهم في العلم، فجعلوه - وقد كرمه الله - أدنى منزلةً
من الحيوانات العجم، فلو أنهم رأوا قطيعًا من الأنعام أو أسرابًا من الطير يفتك
بعضها ببعض، وتسرف في الظلم والعدوان كما فعل جيرانهم في البلقان، لحالوا
بينها ومنعوها من التمادي في ظلمها.
أما وقد فعلوا ما فعلوا ورضوا بما رضوا، وجعلوا جل همهم الاستعداد لسفك
الدماء ودك صروح العمران، فلا بد أن ينتقم الله تعالى منهم لكفرهم بنعمته،
ويزلزل قواهم بما استعلوا وبغوا به على الضعفاء من خلقه - وكذلك فَعَل - فقد
جعل الآلات الحربية التي بها يتحكمون وبالاً عليهم، وعذابًا يأتيهم من فوقهم ومن
تحت أرجلهم، فتفتك بهم مناطيدهم وطيراتهم، وبوارجهم وغواصاتهم، وألغامهم
وبنادقهم ومدافعهم، وتُفني من جموعهم أكثر مما أفنوا من إخوانهم البشر بأيديهم،
أو بمساعدتهم وإقرارهم. وأذاق بعضهم بأس بعض، فجعل محالفاتهم واتفاقاتهم
وبالاً عليهم، وسببًا لتعميم الانتقام بهم. فصدق قول الله الذي صدرنا به الكلام
عليهم. وسيصدق وعده أيضًا بجعل العاقبة للمتقين، الذين يحررون الشعوب
المظلومة من استعباد الظالمين، وإنما يرحم الله الراحمين (الراحمون يرحمهم
الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .