يوم الجمعة ٢٣ جمادى الأولى ١٣ فبراير خلوت البارحة بالأمير فيصل ساعتين فصَّلنا فيهما الكلام في المسائل الثلاث، السورية والعربية والإسلامية، فسمع مني في حقائق سياسة أوربة وخفايا مسائل الأحزاب في الشام ومنها حزب جمعيته ما لم يكن يظن أنني أعرفه كما صرح لي بذلك، وبأنه يعترف بأنه ليس كثيرًا على شهرتي ... وذكرت له في هذا السياق خلاصة تقريري الذي أرسلته إلى وزير إنكلترة الأكبر لويد جورج في رمضان العام الماضي (١٣٣٧) وما حدثت به موسيو مرسيه مدير السياسة الفرنسية في بيروت بمعناه قبل مجيئي إلى الشام (وموضوعهما سياسة الدولتين وعلاقتهما بالعرب وبالإسلام) فتعجب وقال: إنه خاطب الإنكليز بهذا المعنى كأننا كتبنا عن تشاور واتفاق. ثم فصل لي رأيه في المشتغلين بالسياسة العربية وخلاصته أن الشيوخ والأكابر المحافظين لا يعتد بهم في شيء، وأن أكثر الشبان مغرورون ومفترقون في الرأي، فمنهم من يرى وجوب الاتفاق مع الإنكليز على فرنسة أو ضدها وإن سمحنا لهم بما في أيديهم من العراق وفلسطين، ومنهم من يرى العكس وهم أقل، ومنهم من يرى أن نحارب الدولتين معا، وقال: إنه متحير بينهم، ولم يبد رأيه بالتفصيل لأحد منهم، وأقنعته بأن يبديه لي ففعل ... ورأيت أهمه أنه صار على رأيي فيما رجع فيه عن رأيه اهـ وقد (اتفقت معه قبل الانصراف على الاجتماع به مع أصحابنا الثلاثة غدًا) هذا ما كتبته يومئذ ولم أره بعد ذلك إلا عند كتابته لأجل نشره في هذه الأيام، وعبارتي الأخيرة مبهمة، ومما رجع فيه إلى رأيي الاتفاق مع ابن السعود، واستمالة أصحابنا الثلاثة، وأما السياسة الخارجية فقد كان من رأيي الذي كاشفته به أنه لا يجوز أن يعطي لأحد من الأجانب حقًّا في البلاد العربية باسم الأمة، ولا أن يُوئِسَ واحدة من الدولتين في إمكان الاتفاق معها على ما يحفظ مصالحها ومنافعها الاقتصادية والأدبية إذا اعترفت لنا بحقنا في الاستقلال الحقيقي إلخ، وأما التفكر في محاربة الدولتين فهو من الجهالة التي يعذر صاحبها إن لم نقل: إنه من الجنون، وأما ما يجب أن يفعل في البلاد فهو إعلان استقلال سورية جهرًا، وإحداث إدارة جديدة للدفاع الوطني بتنظيم العشائر والقبائل كلها، وسيأتي ذكره في هذه الفصول. يوم السبت ٢٤ منه ١٣ فبراير لقيت الأمير فيصل البارحة بعد المغرب (من يوم الجمعة) حسب الوعد وتعشيت معه وبعد العشاء جاء أصحابنا الشيخ كامل قصاب وخالد أفندي الحكيم والدكتور شهبندر حسب الطلب، وسهرنا معه إلى انتهاء قرب الساعة الحادية عشرة، ودار الحديث في المسألة العربية فذكر لهم موقفه الرسمي بين أبيه والأقطار العربية التي وكلته، وسألهم رأيهم فيما يجب أن يفعل فحيرهم ولم يستطيعوا أن يجيبوه جوابًا مقنعًا ولم يتفقوا على شيء، وحلفوا له على الكتمان وانصرفنا. ولقيته ضحوة هذا اليوم فأطلعني على الكتاب المطول الذي كتبه لأبيه (الملك حسين) عن الحالة السياسية الأخيرة وعلى خواطره الملحقة بالكتاب المؤيدة لرأيه السياسي الأخير. وأهم ما ذكَّر به والده فيه أنه بنى ثورته على الثقة التامة بالإنكليز والاندفاع في تيارهم وأنه وصاه عند سفره إلى أوربة بأن لا يخالف رأي مندوبيهم ومعتمديهم في شيء وأنه لم يطلعه على ما بينه وبينهم من العهود الرسمية. وأهم ما ذكره له من الأخبار فيه ما كان من معاملة الإنكليز له في أوربة وما أجابوه به في لندرة عندما كلمهم في مسألة ابن سعود، وهو أنه حليفهم مثل والده (أي خلافًا لأمل والده فيهم) وذكر له سياسته الجديدة في سورية. وقد ثبت لي من هذه الكتابة أنه كان يعتقد بالتبع لوالده أن إنكلترة تساعدهم على تأسيس دولة عربية تضم إليها سورية وفلسطين والعراق وأن ثقته بهذا كانت تابعة لثقة والده إذ كان يخبره مشافهة أن بينه وبين الإنكليز عهودًا مكتوبة في ذلك لم يطلعه عليها (ثم تبين له أن ليس هنالك إلا رسائل خادعة كما شرحنا ذلك في المنار) وقد صرح لي من قبل أنه علم بالاختبار أنهم مخادعون وبما هو شر من هذا. ...... ومما ذكره لي في أخبار هذه الأخبار والخواطر أن الإنكليز استاءوا منه (أي من فيصل) عندما ظهر لهم أن أكثر أهل سورية طلبوا عند الاستفتاء المشهور مساعدة الولايات المتحدة وصرحوا بأنه كان يجب أن يكون أكثر الأصوات لهم وعاتبوه على ذلك. وأقول الآن: إننا نعلم أنه لم يقصر في مساعدتهم فقد كان اتفق مع الحزب على طلب الولايات المتحدة قبل أن يكلمه الإنكليز في المسألة فلما كلموه جمع من كان في دمشق من الأعضاء أولي التأثير ليلاً وبلغهم أنه قد تغير رأيه الأول فجأة. وقد كتبت في مذكرتي بعدما تقدم: (ولقد عجبت أشد العجب من كتابته إلى أبيه أنه ينتظر كتابًا منه ويبشره بأن إمام اليمن أجابه بأنه يرضى ويقبل أن يكون تابعًا لعرشه، فيا لله من هذا الجهل والغرور الذي لم أكن أظن أن الولد على ذكائه واختباره يشارك والده فيه) اهـ. *** استطراد في إمامة الزيدية ومذهبهم وأزيد هنا الآن أن الملكين رحمهما الله تعالى لم يكونا يعلمان أصول عقيدة الزيدية وتاريخهم، ولا أن يحيى حميد الدين يعتقد هو وقومه أنه هو الإمام الأعظم للأمة الإسلامية وأمير المؤمنين الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه والخضوع لحكمه، وأنه يجب عليه عند الإمكان قتال الخارجين والعاصين له ... على هذه القاعدة كان يقاتل الدولة العثمانية على قوتها وادعائها لمنصب الخلافة، نعم إنه كان يقابلها دفاعًا، ولكنه لو استطاع أن يهاجمها وينتزع منها جميع سلطنتها لفعل وكان مصيبًا. ولما هاجم النجديون الحجاز وخرج الملك حسين منه وبايع الحزب الوطني فيه ولده عليًّا وسموه ملكًا كاتب علي الإمام يحيى وعرض عليه أن ينقذ الحجاز ويضمه إلى مملكته اليمانية على أن يكون هو وأهل بيته أمراء للحجاز من قِبَله تابعين له، فامتنع الإمام من قبول هذا الاقتراح؛ لأنه قدر بل علم أنه لا يستطيع تجهيز جيش قوي يمكنه الوصول إلى الحجاز والتغلب على النجديين، وإدارة البلاد وحكمها بقوته وبمقتضى مذهبه، وبلاد عسير تحول بين بلاده وبلاد الحجاز وهي معادية له وموالية لسلطان نجد وهو ما زال يستدل بهذا على موادته ومحاسنته للملك عبد العزيز آل سعود كما نوَّه بذلك في مكتوباته إلينا وإلى غيرنا. على أنه بلغنا أنه لما قرأ نبأ سقوط ملك علي بن الحسين واستيلاء عبد العزيز بن فيصل السعودي على المدينة المنورة وجدة صلحًا فر الدمع من عينيه كلتيهما كأنه سهم خرج منهما، وما هذا إلا أثر وجدان شريف، وما ذاك إلا نتيجة رأي حصيف، فعسى أن يرجح عنده الرأي الحصيف في هذه الأيام على الوجدان فهو لسان كفتي الميزان، والمصلحة الإسلامية تقتضي ترجيح العقل على الشعور، وإلى الله تصير الأمور. (تنبيه) إنني لم أكتب في مذكرتي شيئًا في بقية أيام الأسبوع إلى يوم الجمعة ٣٠ جمادى الأولى ولا أذكر الآن ما شغلني عن ذلك على أنني كتبت أنني قابلت الأمير في الصباح من يومي الخميس والجمعة وأنني كلمته في صباح الجمعة في مسألة الجزئيات (وأعني بها وجوب ترك الاشتغال بالأمور الجزئية الصغيرة) يوم الجمعة ٣٠ جمادى الأولى ٢٠ فبراير ألقيت اليوم بعد الظهر خطابًا أو محاضرة في مدرسة الحقوق في الموازنة بين (المدنية العربية الإسلامية والمدنية الأوربية) وكان قد دعاني إلى ذلك ناظر هذه المدرسة منذ أيام فعارضه الدكتور أمين معلوف محتجًّا بأن المدرسة تابعة لحكومة غير دينية، فلا يجوز أن تُلْقَى فيها محاضرة في المدنية الإسلامية، فلم يلتفت الناظر إلى معارضته، فكلمني الدكتور محاولاً إقناعي بوجوب تركها فأقمت عليه الحجة، ومما أذكر من ردي عليه على تقدير التسليم له بأن حكومة الشام غير دينية : أنه لا يوجد في الدنيا مدرسة علمية حقوقية تأبى أن يلقى فيها محاضرة علمية تاريخية في المدنية والتشريع الديني أو غيره، فكيف تأباه مدرسة أكثر طلابها ورجال حكومتها يدينون بهذا التشريع الإسلامي؟ وقد حضر الأمير هذه المحاضرة وكتبت أن الدكتور أحمد قدري أخبرني بمناسبة الكلام بإعجاب الأمير بالمحاضرة وغيرها من المذكرات أنه يقول عني: (رجل ناضج) . وذكرت أيضًا أنني حضرت في مساء هذا اليوم (الجمعة) جلسة حزب الاستقلال العربي، وبحثنا في تقرير أحد الإخوان وفي مسألة المؤتمر والوفد. فأما مسألة المؤتمر فهي ما تقرر من جمع أعضاء المؤتمر السوري العام لتقرير استقلال البلاد السورية ونصب الأمير فيصل ملكًا عليها، وأما الوفد فهو ما يبغيه الأمير من اختيار وفد يسافر معه إلى أوربة للبحث والمفاوضة مع دولتي فرنسة وإنكلترة في علاقة البلاد بهما. يوم السبت غرة جمادى الآخرة ٢١ فبراير كلفني الأمير اليوم أن أكتب له بيانًا في صفة أو كيفية إبراز المسألة الوطنية الحاضرة (كذا) والأصول التي تبنى عليها. وذكر لي سبب اختيار الرجلين اللذين سيرسلهما بعد غد إلى مصر ومهمتهما فيها ثم إلى مكة يحملان كتبه إلى والده، ومنها أن يكون (أحدهما) فؤاد الخطيب بعيدًا عن الشام عند إعلان الاستقلال. ... (أقول الآن: أعني بهذه النقط بأن الشيخ فؤاد أفندي الخطيب كان يطمع أن يكون ذا منصب كبير في حكومة الشام الجديدة بما يحمل من الوصية من الملك حسين، والأميرُ فيصل لا يرغب في هذا، وهو يعلم أن حزب الاستقلال العربي لا يرغب فيه ولا يقره) وقد أعدت على الأمير النصيحة السابقة بوجوب ترك الاشتغال بالجزئيات والوظائف فأظهر لي الاقتناع. قال: ولكن تنفيذها يتوقف على وضع نظام له ووجود رجال من أولي الكفاية والثقة ينفذونه، فكان هذا الاعتذار كاعتذار والده من قبله حين نصحت له بمثل هذا في مكة المكرمة. رأست في المساء جلسة الإخوان (أي أعضاء حزب الاستقلال العربي) فوافقنا على إرسال فؤاد الخطيب إلى مكة؛ لأنه لا يتوقع منه هنالك زيادة ضرر عما قد يعمله هنا (ومما حسبوه أن يفشي للإنكليز في مصر بعض أسرارهم، وأن يصور للملك حسين ما سيقومون به من الاستقلال بصورة تسوؤه أو لا ترضيه) . يوم الأحد ٢ جمادى الآخرة (٢٢ فبراير) أطلعني الأمير على الكتاب الذي كتبه إلى اللورد اللنبي ليحمله الوفد المسافر إلى مصر فمكة، فوجدته موافقًا للغرض والأسلوب الذي اقترحته وقد رأيت اليوم أن أكلم فؤاد الخطيب وأنصح له بعد أن صددت عنه وتركت مكالمته حتى رد السلام عليه إن سلم على جماعة أنا فيهم عدة سنين. سألته أولا على مسمع من صفوت بك العوا: أتحب أن أنصح لك؟ فدهش واصفر لونه وأظهر السرور والاهتمام، فخلوت به في حجرة من دار الإمارة باقتراحه وأغلق الباب علينا. بدأته بالتذكير بشيء من سيئاته، وقلت له: إنه لا يوجد فرد من الأفراد الذين يشتغلون بالسياسة العربية ولا حزب من الأحزاب راض عنك ولا محسن للظن بك قال: أنا أعلم ذلك، قلت: وإنهم قادرون على إيذائك بكل نوع من الإيذاء (أي السياسي) قال: أنا أعلم ذلك. قلت: يجب إذًا أن تعمل عملا تكفر به عما مضى من السيئات. قال مثل ماذا؟ فذكرت له بعض الأمور التي يسندونها إليه وأهمها توسطه للإنكليز لدى الملك حسين وإقناعه إياه بما اقترحه السر مارك سايكس من إرضائه لموسيو جورج بيكو والموافقة على معاهدة سنة ١٩١٦. حاول الإنكار فقلت له: لا تنكر فالسر مارك سايكس نفسه أخبر أصحاب المقطم وغيرهم بذلك، وعرف هذا وسمعه منهم رفيق بك العظم وآخرون كثيرون، ولأجل هذا وأمثاله أعطاك الإنكليز وسامًا بريطانيًّا ... دع ما كنت تأخذ منهم من الرواتب المالية من مالية السودان وغيرها وأنت في مكة. وذكرت إساءته بالوشاية عليَّ للملك حسين أيضًا، وأردت أن أمنعه من الاعتذار، وأكتفي منه بما يكفر عن ذلك في المستقبل فقال: لا بد أن أذكر لك الحقيقة في مسألة سايكس وبيكو، وحلف بالطلاق أنه يصدق فيما يقول، وملخصه: أن الملك حسينا كان راضيًا بما اقترح سايكس من المعاهدة المعلومة، وأنه هو الذي عارض في ذلك، وبلغهم الملك لا يرضى بها، وبعد أن عجز عن حمل الملك على المعارضة ورفض المعاهدة أوهم الإنكليز أنه هو الذي أقنعه بها. ثم قال: أنا موظف نهاية أمري طاعة آمري لا تقويم خطئه، وإنما أنصح، ولست زعيمًا مثلك فأعارض وأقاوم (هذا ما كتبته وقد بسطه هو فاختصرته) . (أقول) سافر الشيخ فؤاد إلى مصر مع رفيقه (وقد نسيت اسمه لأنني لم أكتبه وليس ممن أعرفهم) يحملان كتاب الأمير فيصل إلى اللورد اللنبي، ثم سافر منها إلى مكة، وشرعنا بعد سفره نعقد الاجتماعات أنا وجماعة الحزب ووضع الأسس لإعلان الاستقلال بعد جمع المؤتمر العام، فعقدناها في أماكن متفرقة كدور توفيق بك الناطور ورفيق بك التميمي وعلي رضا باشا الركابي وأرسلت الدعوة إلى جميع الأعضاء في سورية الشمالية والجنوبية (فلسطين) ولبنان وكنت مع الأمير فيصل في أثناء هذه المدة كلها على أتم الاتفاق في مسألة سورية والمسألة العربية العامة، وما أجددت له من الفكر والنظر في المسألة الإسلامية وعلاقتها بالمسألة السورية، ولم يكن قد سبق له تفكر فيها كما نقلت عنه. إلا أنني كنت مرتابًا في سياسته الباطنة في مسألة الاتفاق مع فرنسة وما يريده من تفويض الزعماء إياه في ذلك، واختيار وفد يسافر معه، فإنه لم يصرح برأيه فيها لأحد ممن كلمهم أمامي، وإنما أخبرني في بيروت أنه خيَّر من كانوا معه في أوربة كما خير أصحابنا الثلاثة المعارضين له فيما ذكرته آنفًا وفاقًا لما رد به على خطبة الشيخ كامل في مظاهرة الجمعية الوطنية في المزة، وكنت أناقشه فيما أسمعه منه كلما خلوت به، ولم أكن على ثقة من كل ما أراه يقبله مني؛ لأنه لم يكن صريحًا في كل وقت، وكان كثيرًا ما يرجع عن رأيه بادئ الرأي، وقد اشتهر بهذا وذاك، وبما هو أنكر منهما لدى جميع الذين اشتغلوا معه، وقد قيل: إن هذا من حذق السياسة، ويجاب عنه بوجوب التفرقة في أحاديث السياسة بين الأولياء والأعداء. وسأذكر في المجلد ٣٤ ملخصًا من مذكراتي في ذلك كله، وأختمها بخلاصة مهمة في العبرة بسيرة الملك فيصل في الشام رحمه الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))