للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [١]

جاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني تحت عنوان (الإسماعيلية) ما نصه:
قد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنا عشرية بإثبات
الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر، قالوا:
ولم يتزوج الصادق على أمه بواحدة من النساء، ولا اشترى جارية كسنة رسول الله
في حق خديجة، وكسُنَّة علي في حق فاطمة، وذكرنا اختلافهم في موته في حال
حياة أبيه، فمنهم من قال: إنه مات وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى
أولاده خاصة كما نص موسى إلى هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال
حياة أخيه وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع
قهقرى، والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من ولده إلا بعد السماع
من آبائه، والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة. ومنهم من قال: إنه لم يمت
لكن أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل. ولهذا القول دلالات منها أن محمدًا
كان صغيرًا وهو أخوه لأمه، مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائمًا عليه،
ورفع الملاءة فأبصره وهو قد فتح عينه ومضى إلى أبيه مفزعًا وقال: عاش أخي
عاش أخي. قال أبوه: إن أولاد الرسول كذا يكون حالهم في الآخرة. قالوا: وما
السبب في الإشهاد على موته، وكتب المحضر عليه ولم يعهد ميتًا سجل على موته؟
و (أجيب) عن هذا بأنه لما رفع إلى المنصور أن إسماعيل بن جعفر رؤي
بالبصرة مر على مقعد فدعا له فبرئ بإذن الله، بعث المنصور إلى الصادق أن
إسماعيل في الأحياء، وأنه رؤي في البصرة أنفذ السجل إليه وعليه شهادة عامله
بالمدينة.
قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السابع التام وإنما تم دور السبعة به
ثم ابتدأ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد ويظهرون الدعاة جهراً،
قالوا: ولم تخل الأرض قط من إمام حي قاهر إما ظاهر مكشوف، وإما باطن
مستور. فإذا كان الإمام ظاهرًا يجوز أن تكون حجته مستورة، وإذا كان الإمام
مستورًا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين، وقالوا: إنما الأئمة تدور أحكامهم
على سبعة كأيام الأسبوع والسماوات السبع والكواكب السبع، والنقباء تدور أحكامهم
على اثنا عشر، قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية، حيث قرروا عدد
النقباء للأئمة. ثم بعد الأئمة المستورين كان ظاهر المهدي والقائم بأمر الله وأولادهم
نصًّا بعد نص على إمام بعد إمام، ومذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات
ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية، وكانت
لهم دعوة في كل زمان ومقالة جديدة بكل لسان، فنذكر مقالاتهم القديمة
ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة، وأشهر ألقابهم الباطنية.
وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلاً ولهم
ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم، فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة
والمزدكية، وبخراسان التعليمية الملحدة وهم يقولون نحن إسماعيلية؛ لأنا تميّزنا
عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهذا الشخص.
ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنعوا كتبهم
على ذلك المنهاج، فقالوا في البارئ تعالي: إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود،
ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات؛ فإن الإثبات
الحقيقي يقتضي الشركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك
تشبيه، فلم يكن الحكم بالاثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين وخالق
الخصمين والحاكم بين المتضادين، ويقولون في هذا أيضًا عن محمد بن
علي الباقر: إنه قال لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة
للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم وقادر؛ بمعنى أنه وهب العلم والقدرة، لا بمعنى
أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة، فقيل فيهم: إنهم نفاة الصفات حقيقة
معطلة الذات عن جميع الصفات، قالوا: وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا
محدث بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته، أبدع بالأمر
العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس الثاني الذي هو غير تام،
ونسبة النفس إلى العقل، أما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير، وأما
نسبة الولد إلى الوالد والنتيجة إلى المنتج. وأما نسبة الأنثى إلى الذكر
والزوج إلى الزوج. قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى
حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة فحدثت الأفلاك
السماوية، وتحركت حركة دورية بتدبير النفس، وحدثت الطبائع البسيطة بعدها
وتحركت حركة استقامت بتدبير النفس أيضًا، فتركبت المركبات من المعادن
والنبات والحيوان والإنسان، واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان، وكان نوع الإنسان
متميزًا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في
مقابلة العالم كله وفي العالم العلوي عقل ونفس كلي، وجب أن يكون في هذا العالم
عقل شخص هو كل، وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه الناطق وهو النبي،
ونفس مشخصة هو كل أيضًا وحكمها حكم الطفل الناقص التوجه إلى الكمال أو حكم
النطفة المتوجهة إلى التمام، أو حكم الأنثى المزدوج بالذكر ويسمونه الأساس وهو
الوصي.
قالوا: وكما تحركت الأفلاك بتحريك النفس والعقل والطبائع، كذلك تحركت
النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائر على سبعة
سبعة، حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة وترتفع التكاليف
وتضمحل السنن والشرائع، وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ
النفس إلى حال كمالها، وكمالها وصولها إلى درجة العقل، واتحادها به ووصولها
إلى مرتبته فعلاً وذلك هو القيامة الكبرى، فتنحل تراكيب الأفلاك والعناصر
والمركبات، وينشق السماء وتتناثر الكواكب وتبدو الأرض غير الأرض، وتطوى
السماء كطي السجل للكتاب المرقوم فيه ويحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر
والمطيع عن العاصي، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل
بالشيطان المبطل، فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت
السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال.
ثم قالوا: ما من فريضة وسنة وحكم من أحكام الشرع من بيع وإجارة وهبة
ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية إلا وله وزان من العالم عددًا في مقابلة عدد،
وحكمًا في مقابلة حكم، فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية، والعوالم شرائع
جسمانية خلقية، وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات على وزان تركيبات
الصور والأجسام، والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات كالبسائط
المجردة إلى المركبات من الأجسام، ولكل حرف وزان في العالم وطبيعة يخصها
وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس، فعن هذا صارت العلوم المستفادة من
الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية
غذاء للأبدان.
وقد قدر الله أن يكون غذاء كل موجود مما خلقه منه، فعلى هذا الوزان
صاروا إلى ذكر أعداد الكلمات والآيات، وأن التسمية مركبة من سبعة واثني عشر،
وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين وثلاث كلمات في الشهادة
الثانية، وسبع قطع في الأولى ست في الثانية، واثنى عشر حرفًا في الثانية،
وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن
ذلك؛ خوفًا عن مقابلته بضده، وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم، وقد صنفوا
فيها كتبًا، ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان يعرف موازنات هذه العلوم، ويهتدي
إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم.
ثم أصحاب الدعوة الجديدة تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن الصباح
دعوته، وقصر عن الإلزامات كلمته، واستظهر بالرجال وتحصن بالقلاع، وكان
بدء صعوده إلى قلعة الموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربع ومئة، وذلك بعد
أن هاجر إلى بلاد إمامه، وتلقى منه كيفية الدعوة لأبناء زمانه، فعاد ودعا الناس
أول دعوة إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان، وتمييز الفرقة الناجية من سائر
الفرق بهذه النكتة، وهو أن لهم إمامًا وليس لغيرهم إمام، وإنما يعود خلاصة كلامه
بعد ترديد القول فيه عودًا على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف، ونحن ننقل
ما كتبه بالعجمية إلى العربية، ولا معاب على الناقل، والموفق من اتبع الحق
واجتنب الباطل، والله الموفق والمعين. فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ الدعوة
وكتبها عجمية فعربتها.
قال للمفتي في معرفة البارئ تعالى أحد قولين: إما أن يقول أعرف البارئ
تعالى بمجرد العقل والنظر من غير احتياج إلى تعليم معلم، وإما أن يقول: لا
طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم صادق، قال: ومن أفتى بالأول
فليس له الإنكارعلى عقل غيره ونظره، فإنه متى أنكر فقد علم والإنكار تعليم ودليل
على أن المنكر عليه يحتاج إلى غيره، قال: والقسمان ضروريان فإن الإنسان إذا
أفتى بفتوى أو قال قولاً فإما أن يقول من نفسه أو من غيره، وكذلك إذا اعتقد عقدًا
فإما أن يعتقده من نفسه أو من غيره هذا هو الفصل الأول، وهو كسر على
أصحاب الرأي والعقل.
وذكر في الفصل الثاني أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم، أفيصلح كل معلم على
الإطلاق أم لا بد من معلم صادق؟ قال: ومن قال: إنه يصلح كل معلم ما ساغ له
الإنكار على معلم خصمه، وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم معتمد صادق، قيل
وهذا كسر على أصحاب الحديث.
وذكر في الفصل الثالث أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم صادق، فلا بد من
معرفة المعلم أولاً والظفر به ثم التعليم منه، أم جاز التعلم من كل معلم من غير
تعيين شخصه وتبيين صدقه؟ ؟ والثاني رجوع إلى الأول ومن لم يمكنه سلوك
الطريق إلا بمقدم ورفيق، فالرفيق ثم الطريق هو كسر على الشيعة.
وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان: فرقة قالت: يحتاج في معرفة
البارئ تعالى إلى معلم صادق، ويجب تعيينه وتشخيصه أولاً ثم التعلم منه، وفرقة
أخذت في كل علم من معلم وغير معلم، وقد تبين بالمقدمات السابقة أن الحق مع
الفرقة الأولى، فرأسهم يجب أن يكون رأس المحققين، وإذا تبين أن الباطل مع
الفرقة الثانية، فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين، قال: وهذه الطريقة
التي عرفتنا المحق بالحق معرفة مجملة، ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة
مفصلة، حتى لا يلزم دوران المسائل، وإنما عنى بالحق ها هنا الاحتياج،
وبالمحق المحتاج إليه، وقال: بالاحتياج عرفنا الإمام وبالإمام عرفنا مقادير
الاحتياج، كما بالجواز عرفنا الوجوب إلى واجب الوجود، وبه عرفنا مقادير الجواز
في الجائزات، قال: والطريق إلى التوحيد كذلك حذو القذة بالقذة، ثم ذكر فصولاً
في تقرير مذهبه إما تمهيدًا وإما كسرًا على المذاهب وأكثرها كسر أو إلزام واستدلال
بالاختلاف على البطلان وبالاتفاق على الحق , منها فصل الحق والباطل والصغير
والكبير. يذكر أن في العالم حقًا وباطلاً، ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة ,
وعلامة الباطل هي الكثرة، وإن الوحدة مع التعليم، والكثرة مع الرأي، والتعليم
مع الجماعة والجماعة مع الإمام، والرأي مع الفرق المختلفة، وهي مع رؤسائهم،
وجعل الحق والباطل والتشابه بينهما من وجه التمايز بينهما من وجه التضاد في
الطرفين، والترتب في أحد الطرفين ميزانًا يزن به جميع ما يتكلم فيه، قال: وإنما
أنشأت هذا الميزان من كلمة الشهادة وتركيبها من النفي والإثبات أو النفي والاستثناء،
قال: فما هو مستحق النفي باطل وما هو مستحق الإثبات حق، ووزن بذلك الخير
والشر والصدق والكذب وسائر المتضادات، ونكتته أن يرجع في كل مقالة وكلمة
إلى إثبات المعلم، وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معًا حتى يكون توحيدًا، وإن
النبوة هي النبوة والإمامة معًا حتى تكون نبوة، وهذا هو منتهى كلامه.
وقد منع العوام عن الخوض في العلوم، وكذلك الخواص عن مطالعة الكتب
المتقدمة إلا من عرف كيفية الحال في كل كتاب، ودرجة الرجال في كل علم، ولم
يتعد بأصحابه في الإلهيات عن قوله: إن إلهنا إله محمد. قال أنا وأنتم تقولون:
إلهنا إله العقول أي: ما هدى إليه عقل كل عاقل، فإن قيل لواحد منهم ما تقول في
البارئ تعالى؛ وأنه هل هو (كذا) ، وأنه واحد أم كثير، عالم قادر أم لا؟ ؟ لم
يجب إلا بهذا القدر؛ أن إلهي إله محمد، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى،
والرسول هو الهادي إليه، وكم قد ناظرت القوم على المقدمات المذكورة، فلم
يتخطوا عن قولهم أفنحتاج إليك أو نسمع هذا منك أو نتعلم عنك؟ وكم قد ساهلت
القوم في الاحتياج، وقلت: أين المحتاج إليه وأيش يقدر لي في الإلهيات، وماذا
يرسم في المعقولات، إذ المعلم لا يعنى لعينه وإنما يعنى ليعلم، وقد سددتم باب
العلم وفتحتم باب التسليم والتقليد، وليس يرضى عاقل بأن يعتقد مذهبًا على غير
بصيرة، وأن يسلك طريقًا من غير بينة، فكانت مبادئ الكلام تحكيمات، وعواقبها
تسليمات {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: ٦٥) (للكلام بقية) .
(المنار)
هذا ما أورده الشهرستاني من دين الباطنية الإسماعيلية الذين كانوا يخادعون
الناس فيه زاعمين أنه مذهب إسلامي، وأن أهله هم الفرقة الناجية، وكانوا
يستدرجون الضعفاء بهذه السفسطة المموهة، ويستزلونهم بما يخيلون إليهم من
حجج العقل، فيستنزلونهم به عن العقل، ويسترضونهم بالخضوع الأعمى لكل ما
ينقلونه عن إمامهم، وقد هدم سفسطتهم العلماء الأعلام كالغزالي في كتابه القسطاس
المستقيم وغيره.