للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جواب على استفتاء المنار
(جزء ٢ مجلد ١٨) في قول الشاعر
جدير (كذا) ببهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ ... ومسحة عثنون وفتل والأصابع
وإنما قال الشاعر (مَليء ببهرٍ) ، فقوله (جدير) سهو منه في اللفظ، لا
في المعنى لأن مليء معناها عنده جدير، أو حري، أو أو، وتفسيره مليء بهذا
المعنى هو الذي حمله على استغراب التقدير في البيت مع أنه لم يرد في كتاب من
كتب اللغة مليء بمعنى جدير، أو حري، أو ما يصح به معنى البيت بالعطف على
بهر، ولم يسمع هذا المعنى حقيقة، ولا مجازًا، إلا إذا استعمله بعضهم وحمله على
المجاز من عنده تجوزًا، ولا يخفى أن اللغة سماعية توقيفية لا يحتج بالاصطلاح
والاستعمال فيها، وحاصل ما ورد في كتب اللغة أن مليء (؟) من ملئ كسمع
فعيل بمعنى مفعول، ومعناه مملوء، ومنه مليء للغني لامتلاء خزائنه بالمال
والحسنى القضاء لامتلائهم علمًا وحكمة، فيقال فلان مملوء بالبهر والعي، ولا يقال
مملوء بالالتفات، ومسح اللحية، وفتل الأصابع، فإذا سخف المعنى وجب التقدير
وإن استقام النظم، وبحث خطأ المعاني وصوابها والحذف والتقدير لذلك مذكور في
محله من كتب البلاغة، وإليك خلاصة ما ورد في معنى ملئ بالهمز قال في
القاموس ملأه كمنع ملأً ومِلأة بالفتح والكسر، وملّأه تملئة فامتلأ وتملّأ ومليء كسمع
أقول (ومليءٌ من ملئَ) هذه، وقال في تاج العروس: ورجل مليء جليل يملأ العين
وفلان أملأ لعيني، وهو رجل مالئ للعين، ومنه حديث عمران إنه ليخيل إلينا أنه
أشد ملئة، إلى أن قال في آخر المادة وهو ملآن من الكرم ومَليء.
فلا وجه لاستغراب التقدير في البيت حينئذ إلا إذا جوزنا قول من يقول فلان
مملوء بمسح العثنون وفتل الأصابع، ولم نستسخفه، أو وجدنا معنى لمليء يصح به
العطف على بهر، وكان هذا المعنى واردًا في اللغة حقيقة، أو مجازًا، واستعمله
من يُعتد ويُحتج به.
(المنار)
صححنا البيت في الجزء الماضي، فلم يبق محل لما ذكر في هذا الجواب في
شأن استبدال كلمة جدير بكلمة مليء، والواجب حصر الكلام في ضبط البيت وبيان
معناه بالألفاظ التي ورد فيها.
ادعى (المتأدب) المجيب أن حاصل ما ورد في كتب اللغة أن مليء معناه
مملوء، وأنه ملئ كسمع، وأنه يصح أن يقال: مملوء بالبهر، ولا يصح أن يقال
مملوء بالالتفات ومسح اللحية وفتل الأصابع؛ فلهذا وجب التقدير عنده وهو الذي
قال إن التقدير: وله التفات وسعلة ... إلخ، ولا وجه لاستغراب التقدير عنده إلا
في الحالتين اللتين ذكرهما في الجواب، وهما عنده في حيز النفي، هذا حاصل
جوابه.
ما ذكره وبنى عليه جوابه من أن حاصل ما في كتب اللغة أن (مليء) معناه
مملوء، وأنه من ملئ كسمع، غير صحيح فما كل مملوء يسمى مليئًا، ولا كل ما
أطلق عليه لفظ مليء يصح أن يطلق عليه لفظ مملوء، وإن كان لا يخلو الاستعمال
من المناسبة لأصل معنى المادة، ولا مليء من ملئ كسمع قال في لسان العرب:
والملاء الزكام يصيب من امتلاء المعدة، وقد ملؤ فهو مليء، ومُلئ فلان وأملأه
الله: أزكمه فهو مملوء على غير قياس، ثم قال: وقد ملُوء الرجل يملُؤ ملاءة فهو
مَلئ: صار مليئًا، أي ثقة فهو غني مليء بَيِّنُ الملاءِ والملاءةِ - ممدوان - وفي
حديث الدين " إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع " المليء بالهمز الثقة الغني، وقد
أولع فيه الناس بترك الهمز، وتشديد الياء، وفي حديث عليّ - كرم الله وجهه -:
(لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه) . اهـ.
وفى القاموس المحيط: والملآء الأغنياء المتمولون، أو الحسنو القضاء منهم،
الواحد مليء. اهـ، وقد غفل (المتأدب) المجيب عن قوله (منهم) فظن أن
المليء يطلق على الحاكم الحسن القضاء لامتلائه علمًا وحكمة، على أن له أن يقول
هذا من تلقاء نفسه تجوزًا، وإن كان في جوابه ما يدل على عدم الجواز، فالقول
الثاني من قولي القاموس إن المليء يطلق على الغني الحسن القضاء أي الوفاء لا
على كل غني، ومثل هذا لا يجوز أن يقال فيه مملوء، وفسر الجوهري المليء
بكثير المال أو الثقة الغني، والفيومي بالغني المقتدر، حكاهما شارح القاموس.
وفي مجاز الأساس ما نصه: وما كان هذا الأمر عن ملأ منا أي ممالأة
ومشاورة، ومنه: هو مليء بكذا: مضطلع به، وقد ملؤ به ملاءة، وهم مليئون به
وملآء. اهـ.
هذا حاصل ما ورد في كتب اللغة في الكلمة لا ما قاله المجيب، ومنه يعلم أن
أظهر هذه الأقوال في تفسير البيت أن (مليء) فيه بمعنى مضطلع، وحاصل
المعنى أن هذا الخطيب الذي يذمه الشاعر لا قوة له على الخطابة، لا اضطلاع له
بها وإنما هو مليء مضطلع بصفات العي والحصر كلها، وهي البهر الذي هو
انقطاع النفس وتردده من الإعياء والالتفات، ومسح اللحية، وفتل الأصابع،
فالمضلع بالأمر هو القوي عليه القادر على احتماله، ويصح أيضًا أن يقال إنه غني
وثقة بهذه الصفات، أي لأنه فقير من الفصاحة والبلاغة، وما به تكون الخطابة،
أوْ لا ثقة به في ذلك.
ومن البديهي أن كلمة مملوء لا تحل محل كلمة مضطلع، ولا كلمة ثقة، ولا
كلمة حسن القضاء، أي لما عليه من الحق، بل ولا محل كلمة غني ومزكوم،
ولكن معنى الامتلاء يناسب هذا المعنى في الجملة دون معنى المضطلع والثقة، ولم
يرد عنهم: إناء أو دلو أو ذق مليء، كما يقال مملوء، فالفرق بين مليء ومملوء
مثل الصبح ظاهر.
ثم إننا نقول إذا جرى (المتأدب) في فهم كل استعمالات اللغة على الطريقة
التي جرى عليها في فهم هذه الكلمة (مليء) فاته الفهم الصحيح في أكثرها،
وأعني بهذه الطريقة أن يعمد إلى كلمة من أصل المادة، ويحمل عليها كل معنى
حقيقي ومجازي لها، مثال ذلك قولهم: اضطلع بالأمر، أصل معناها الاشتقاقي:
احتملته أضلاعه؛ ولكنه يقال في الأمور المعنوية، ومنه قول عليّ - كرم الله
وجهه - في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاضطلع بأمرك لطاعتك فسروه
في كتب اللغة والحديث بقولهم: قوي عليه ينهض به، وليس أمر الوحي والدين
مما تحمله الأضلاع، وإنما يحمله العقل والروح ويؤديه اللسان.
هذا ما ظهر لنا، فما يقول في البيت أدباء مصر كالشيخ المرصفي، والشيخ
محمد المهدي، وإسماعيل باشا صبري، وحفني بك ناصف، وأحمد بك تيمور،
وحافظ بك إبراهيم، ومحمد بك المويلحي، وسائر الكتاب والشعراء؟ .