للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مذهب السلف
وطريقة الحنابلة في التأليف

نموذج من مقدمات شرح عقيدة السفاريني الذي نطبعه في هذه الأيام المسمى (لوائح الأنوار البهية، وسواطح الأسرار الأثرية، لشرح الدرة
المضية، في عقيدة الفرقة المرضية) قال:
السابع
المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم -
وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأئمة الدين ممن شُهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه
في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف دون من رُمي ببدعة أو شُهر بلقب
غير مرضي مثل الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية،
والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء مما يأتي ذكرهم عند تعداد الفرق
لكن لما كان فشو البدع وظهورها كان بعد المائتين لما عُرِبَت الكتب العجمية كما
تقدم وزاد البلاء، وأظهر المأمون القول بخلق القرآن، وظهر مذهب الاعتزال
ظهورًا لا مزيد عليه بسبب انحراف الخلفاء عن مذهب الحق، وكان الذي قام في
نحورهم ورد مقالاتهم، وإبطال مذهبهم، وتزييفه، وذم من ذهب إليه أو عول عليه
أو انتمى إلى ذويه أو ناضل عنه أو مال إليه - سيدنا وقدوتنا الإمام المبجل والحبر
البحر المفضل أبا عبد الله الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، نسب مذهب السلف إليه
وعول أهل عصره من أهل الحق فمن بعدهم عليه وإلا فهو المذهب المأثور،
والحق الثابت المشهور لسائر أئمة الدين، وأعيان الأمة المقدمين.
قال حرب بن إسماعيل الكرماني في كتابه المصنف في مسائل الإمام أحمد بن
حنبل - رضي الله عنه - وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه مع ما ذكر فيها من
الآثار عن النبي المختار، والصحابة الأبرار، والتابعين الأطهار، ومن بعدهم.
قال: هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر المعروفين بالسنة المقتدى بهم فيها،
وأدركت من أدركت من علماء العراق والحجاز والشام عليها، فمن خالف شيئًا من
هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن
سبيل السنة ومنهج الحق، قال: وهو مذهب الإمام أحمد وإسحاق وبقي بن مَخْلد
وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم
العلم فذكر الكلام في الإيمان، والقدر، والوعيد، والإمام ... إلخ كلامه، كما سننبه
عليه في محالِّه.
وممن ألف في عقائد السلف، وذكر معتقدهم في كتب التفسير المنقولة عن
السلف مثل تفسير عبد الرزاق وتفسير الإمام أحمد وإسحاق وبقي بن مخلد وعبد
الرحمن بن إبراهيم دُحيم وعبد بن حميد وعبد الرحمن بن أبي حاتم ومحمد بن
جرير الطبري وأبي بكر بن المنذر وأبي بكر عبد العزيز وأبي الشيخ الأصفهاني
وأبي بكر بن مردويه وغيرهم، وكل الكتب المصنفة في السنة، والرد على
الجهمية، وأصول الدين المنقولة عن السلف مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن
عبد الله الجعفي شيخ البخاري وكتاب (خلق الأفعال) للبخاري، وكتاب السنة لأبي
داود ولأبي بكر الأثرم ولعبد الله بن الإمام أحمد ولحنبل بن إسحاق ولأبي بكر الخلال
ولأبي الشيخ الأصفهاني ولأبي القاسم الطبراني ولأبي عبد الله ابن منده وأمثالهم،
وكتاب الشريعة لأبي بكر الآجري والإبانة لأبي عبد الله بن بطة وكتاب الأصول
لأبي عبد الله الطلمنكي وكتاب رد عثمان بن سعيد الدارمي وكتاب الرد على الجهمية
له وغير ذلك فالأئمة الأربعة والسفيانان والحمادان وابن أبي شيبة والليث بن سعد
وابن أبي ذئب وربيعة بن عبد الرحمن والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن خزيمة وابن ماجه وابن حبان وأبو ثور وابن جريج والأوزاعي
وابن الماجشون وابن أبي ليلى وأبو عبيد بن سلام ومسعر بن كدام الإمام ومحمد بن
يحيى الذهلي إمام أهل خراسان بعد إسحاق بلا مدافعة وأبو حاتم الرازي ومحمد
بن نصر المروزي، وغير هؤلاء كلهم عقيدة واحدة سلفية أثرية، وإن كان الاشتهار
للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه للعلة التي ذكرناها حتى أن الشيخ أبا الحسن
الأشعري قال في كتابه -الإبانة في أصول الديانة- ما نصه بحروفه: (فإن قال
قائل قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة،
والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون- قيل له: قولنا الذي
به نقول، وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه- صلى الله عليه
وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث؛ فنحن بذلك معتصمون،
وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه - قائلون، ولمن خالف قوله
مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور
الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به المبتدعين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم
وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين) انتهى. فنسب المذهب إليه لاشتهاره بذلك مع
أن سائر أئمة الدين سلكوا تلك المسالك، وبالله التوفيق.
***
الثامن
قال الجلال السيوطي في الأوائل: أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد الجعد
بن درهم، مؤدب مروان الحمار آخر ملوك بني أمية فقال بأن الله تعالى لا يتكلم،
قال شيخ الإسلام في الرسالة الحموية الكبرى: أصل فشو البدع بعد القرون الثلاثة،
وإن كان قد نبع أصلها في أواخر عصر التابعين، قال: ثم أصل مقالة التعطيل
للصفات إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين؛ فإن أول
من حُفظ عنه قال هذه المقالة في الإسلام هو (الجعد بن درهم) وأخذها عنه الجهم
بن صفوان، وأظهرها فنسبت إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن
سمعان وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي
سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران،
وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين الذين
صنف بعض الساحرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة، كما أن كسرى
ملك الفرس، والمجوس فهم اسم جنس لا اسم علم قال وكانت الصابئة إذ ذاك إلا
قليلاً منهم على الشرك وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركًا بل
مؤمنًا بالله واليوم الآخر كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٦٢) لكن كثيرًا منهم أو أكثرهم كانوا كفارًا
ومشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، ومذهبهم مذهب النفاة الذين
يقولون ليس له صفات إلا سلبية أو إضافية أو مركبة منها، وهم الذين بعث سيدنا
إبراهيم خليل الرحمن إليهم؛ فيكون الجعد أخذ عقيدته عن الصابئة الفلاسفة وأخذها
الجهم أيضًا- في ما ذكره الإمام أحمد -رضي الله عنه - عنه، وعن غيره وكذلك
أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئة تمام فلسفته لما ناظر
السمنية بعض فلاسفة الهند وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فرجعت
أسانيد الجهم إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، إما من الصابئين
وإما من المشركين، فلما عربت الكتب الرومية؛ زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان
في قلوب أهل الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.
ولما كان بعد المائة الثانية انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة
الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وذويه. وكلام الأئمة مالك، وسفيان بن
عيينة، وابن المبارك، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق،
والفضيل بن عياض، وبشر الحافي، وغيرهم في هؤلاء في ذمهم وتضليلهم -
معروف، وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي
ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات) وأبو عبد الله محمد بن عمر
الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ويوجد كثير منها في كلام خلق غير
هؤلاء مثل أبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمداني، وأبي الحسين
البصري وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه كما
يعلم ذلك من كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير
في زمن البخاري وسمى كتابه (رد عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما
افترى من التوحيد) فإنه حكى هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي، ثم ردها
بكلام؛ إذا طالعه العاقل الذكي يسلم حقيقة ما كان عليه السلف، ويتبين له ظهور
الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم، وقد أجمع أئمة الهدى على ذم المريسية،
بل أكثرهم كفرهم وضللهم، ويعلم بمطالعة كتاب ابن سعيد الدارمي أن
هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين الذين تسموا بالخلف هو مذهب المريسية؛
فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ فمذهب السلف حق بين باطلين وهدى بين ضلالين، قال
سيدنا الإمام أحمد -رضي الله عنه-: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه،
ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوز القرآن والحديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية روَّح الله روحه: مذهب السلف أنهم يصفون الله تعالى بما
وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف
ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فالمعطل يعبد عدمًا، والممثل يعبد
صنمًا، والمسلم يعبد إله الأرض والسماء، والله أعلم.
***
التاسع
مذهب السلف هو المذهب المنصور والحق الثابت المأثور، وأهله هم الفرقة
الناجية والطائفة المرحومة التي هي بكل خير فائزة، ولكل مكرمة راجية من
الشفاعة والورود على الحوض ورؤية الحق وغير ذلك من سلامة الصدر والإيمان
بالقدر والتسليم بما جاءت به النصوص؛ فمن المحال أن يكون الخالفون أعلم من
السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق لديه - ممن لا يقدر قدر السلف، ولا عرف
الله تعالى ولا رسوله ولا المؤمنين به حق المعرفة المأمور بها - من أن طريقة
السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهؤلاء إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريقة
السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك بمنزلة الأميين
وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع
المجازات وغرائب اللغات، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ
الإسلام وراء الظهور، وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب
طريقة الخلف، فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم،
والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم.
قال الحافظ ابن رجب في كتابه (بيان فضل علم السلف على علم الخلف)
ما نصه: ومن محدثات الأمور ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في
ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول وهي أشد خطرًا من الكلام في القدر؛ لأن
الكلام في القدر كلام في أفعاله، وهذا كلام في ذاته وصفاته وينقسم هؤلاء إلى
قسمين: أحدهما من نفى كثيرًا مما ورد به الكتاب والسنة لاستلزامه عنده التشبيه؛
كنفي الرؤية والاستواء، وهذا طريق المعتزلة، والجهمية، وقد اتفق السلف
على تبديعهم وتضليلهم، وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن ينتسب إلى
السنة والحديث من المتأخرين، والثاني: من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم
يرد بها الأثر ورد على أولئك مقالتهم، كالكرامية ومن وافقهم حتى إن منهم من أثبت
الجسم إما لفظًا، وإما معنى، ومنهم من أثبت له تعالى صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة، وقد أنكر السلف على مقاتل رده على جهم بأدلة العقل، وبالغوا
في الطعن عليه.
والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها
جاءت من غير تكييف ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد من السلف خلاف ذلك ألبتة
خصوصًا الإمام أحمد - رضي الله عنه - ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل
لها، وإن كان بعض من كان قريبًا من زمنه فيهم من فعل ذلك من ذلك اتباعًا لطريقة
مقاتل بن سليمان فلا يقتدى به في ذلك وإنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك
ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم -
رضي الله عنهم - فكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين،
فضلاً عن كلام الفلاسفة، ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح، وقد قال
أبو زرعة الرازي: (كل من كان عنده علم فلم يَصُنْ علمه واحتاج في نشره إلى
شيء من الكلام فلستم منه) وقال الحافظ ابن رجب أيضًا: وفي زماننا
تتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي
عبيد، وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة
وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد
مخالفة لها لشذوذه عن الأمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو بأخذ ما لم تأخذ به الأمة من قبله، وأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين والفلاسفة فشر محض، وقل من
دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم، كما قال الإمام أحمد - رضي
الله عنه -: (لا يخلو مَنْ نظر في الكلام إلا تجهم) وكان هو وغيره يُحذِّرون
من أهل الكلام، وإن ذبوا عن السنة.
وأما ما يوجد في كلام من أحب الكلام المحدث، واتبع أهله من ذم من لا
يتوسع في الخصومات والجدال، ونسبته إلى الجهل أو الحشو أو إلى أنه غير
عارف بالله أو بدينه فمن خطوات الشيطان نعوذ بالله منه. (انتهى ملخصًا) .
وفي الآداب للعلامة ابن مفلح رحمه الله - تعالى - عن الطبراني قال: حدثنا
عبد الله ابن الإمام أحمد قال: حدثني أبي قال: (قبور أهل السنة من أهل الكبائر
روضة وقبور أهل البدعة من الزنادقة حفرة، فُساق أهل السنة أولياء الله، وزهاد
أهل البدعة أعداء الله) وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا
يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) وخرجه أهل السنن من
وجوه متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بعضها (ومن دعاء لا يسمع)
وفي بعضها (أعوذ بك من هؤلاء الأربع) وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة
-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (اللهم انفعني
بما علمتني وعلمني ما ينفعني) ورواه النسائي من حديث أنس - رضي الله عنه-
وزاد (وارزقني علمًا تنفعني به) ويأتي الكلام على هذا بأبسط من هذا في المقدمة،
والله أعلم.
(المنار)
كنا عند الابتداء بالاشتغال بعلم الكلام نرى في الكتب خلاف الحنابلة فنحسب
أنهم قوم جمدوا على ظواهر النقول ما فهموها حق فهمها، ولا عرفوا حقائق العلوم
وطابقوا بين النقل وبينها، وأن كتب الأشاعرة هي وحدها منبع الدين وطريق
اليقين، ثم اطلعنا على كتب القوم؛ فإذا هي الكتب التي تجلِّي للمسلمين طريقة
السلف المثلى، وتورد الناس موردهم الأحلى، وإذا بقارئها يشعر ببشاشة الإيمان،
ويحس بسريان برد الإيقان؛ وإذا الفرق بينها وبين كتب الأشاعرة كالفرق بين من
يمشي على الصراط السوي، ومن يسبح في بحر لجي، تتدافعه أمواج الشكوك
الفلسفية، وتتجاذبه تيارات المباحث النظرية، وقد ظهر لي إذ تبينت أن مذهب
السلف الصالح أسلم وأعلم وأحكم أن هذا من دلائل صدق النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم؛ لأن المسلمين بعد أن نظروا في فلسفة الحكماء الإلهيين، وخاضوا
في جميع علوم الأولين، لم يأتوا بشيء في توثيق عقد الإيمان، ولا بالوصول إلى
الحق بالبرهان، إلا بدون ما جاء به القرآن، ولو كان هذا القرآن من وضع البشر
لارتقوا عنه بعد خروجهم من الأمية وتوغلهم في العلوم العقلية من رياضية
وطبيعية وفلسفية، ومما تفضل به كتب الحنابلة سائر الكتب أنها يحتاج إليها في كل
زمان، وكتب الأشاعرة قد استغنى الناس عن معظم نظرياتها الآن؛ لأن معظمها من
الفلسفة اليونانية، وقد نسخت، وفي مناظرة فرقة المعتزلة، وقد انقرضت. نعم، لا
أقول: إن كل ما كتب الحنابلة من المسائل والمباحث صواب، وإنها معصومة من
الخطأ؛ فإليها المرجع والمآب، فإن العصمة لكتاب الله وحده {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) .