للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أنباء الحجاز

بيعة أهل الحجاز وسبب قبول السلطان لها
(جاء في العدد ٥٦ من جريدة (أم القرى) الذي صدر بمكة المكرمة في ٨
رجب الماضي ما يأتي)
جاءنا من ديوان جلالة الملك أنه بعد إعلان بيعة أهل الحجاز وردت عدة
برقيات من جهات متعددة تسأل عن صحة ما وقع، وعن أسبابه فأرسل الجواب
على تلك الأسئلة بما مآله:
(ج) إعلان أهل الحجاز ملكيتنا على الحجاز صحيح، أما العهود المتكررة
للعالم الإسلامي فلم نخلفها، وقد دعونا العالم الإسلامي دعوات عامة وخاصة
متكررة، فلم يصل جواب من أحدهم في تلبية دعوتنا، ومع ذلك فإننا على استعداد
لقبول آراء العالم الإسلامي في كل شأن له مساس براحة الحجاج والزوار ورفاهيتهم،
وإجراء أعمال الخير في الحجاز.
وأما السرعة في أمر النداء بملكيتنا على الحجاز فكنت أود من صميم قلبي أن
لو تأخر ذلك، ولكنا أُلجئنا إلى ذلك مضطرين، فإن أهل الحجاز قاموا قومة رجل
واحد يلزموننا بقبول البيعة، فطلبنا منهم التريث ريثما يجمع المسلمون أمرهم
فأجابوا بأنك أعطيتنا الحرية في اختيار حاكم لنا وهذا حق لنا لا يشاركنا فيه أحد،
ونحن لا نبغي بك بديلاً.
ومع ذلك توقفتُ في الجواب فبلغ أهل نجد توقفي؛ فقامت قيامتهم عليَّ
وأعلنوا لي أن حربهم في الحجاز لم يكن إلا لحفظ استقلال الحجاز، ومنع تدخل
أي أجنبي فيه، ولتكون كلمة الله هي العليا وليُعمل في هذه الديار بكتاب الله وسنة
رسوله، ولتأمين الطرق ومنع الإلحاد في الحجاز، وهذا ما وعدتنا به وإن توقفك
عن قبول البيعة يجعلنا نعتقد بأنك لم تقاتل إلا لأغراضك ولا تسعى لاستقلال
الحجاز، وإنك إذا لم تقبل البيعة فقد فعلت معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق.
فإزاء هذا الموقف الحرج الذي يتوقف عليه أمن الحجاز في الحالة الحاضرة واستقرار الأمر فيه لم أجد بدًّا من تلبية ما دُعيتُ إليه، وإلا كانت فتنة لا تُعرف
نتائجها، فقبلت متوكلاً على الله. وإنني لا أزال على عهدي رعاية ما للمسلمين
من الحقوق المشروعة في هذه الديار المقدسة، والله ولي التوفيق (أم القرى ع
٥٦) .
***
اعتراف الدول الأوربية بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها
اعتراف السوفييت
ورد على جلالة الملك بتاريخ ٣ شعبان من معتمد وقنصل جنرال حكومة
اتحاد الجمهوريات السوفييت بجدة الكتاب الآتي:
صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها الأفخم.
بعد التحية والتوقير
استنادًا على أمر حكومتي أتشرف أن أبلغ جلالتكم أن حكومة اتحاد
الجمهوريات السوفييت بموجب المبدأ الأساسي نحو استقلالية وحرية الأمم واحترامًا
لإرادة أهل الحجاز التي ظهرت في مبايعتهم لجلالتكم ملكًا للحجاز - تعترف
بجلالتكم ملكًا للحجاز وسلطانًا لنجد وملحقاتها؛ فعليه حكومة السوفيت تُعد نفسها في
الحالة المناسبة السياسية والملائمة مع حكومة جلالتكم، وختامًا تفضوا بقبول عظيم
توقيراتي واحتراماتي ٣ شعبان سنة ١٣٤٤ - ١٦ فبراير سنة ١٩٢٦.
... ... ... ... ... ... ... معتمد وقنصل جنرال حكومة
... ... ... ... ... ... اتحاد الجمهوريات السوفيت بجدة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كريم حكيم
***
اعتراف بريطانيا
وقد أعقب اعترافَ حكومة السوفييت اعترافُ الدولة البريطانية، وقد أخبر
جلالة الملك بخبره سعادة معتمد الحكومة البريطانية بصورة شفاهية عند زيارة
جلالته للبارجة الحربية.
وفي صباح أول مارس ورد من نائب معتمد وقنصل بريطانيا بجدة وكيل
القنصل لجلالة الملك الكتاب الآتي:
١٤٦م - ٣٠، ٢
جدة في أول مارس سنة ١٩٢٦
صاحب جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد
بعد إبداء عظيم الاحترام، أتشرف بأن أُخبر جلالتكم أني قد كُلفت من قبل
حكومة جلالة ملك بريطانيا أن أعرف جلالتكم بأن حكومة جلالة الملك تعترف الآن
بجلالتكم ملكًا على الحجاز، على أنه يقتضي لي أن أضيف على ذلك أنه بينما
تعترف حكومة الملك بسلطتكم على الحجاز تدوم على اعتبارها أن أسلوب الحكم في
الأماكن المقدسة الإسلامية، وجميع المسائل الدينية المتعلقة بذلك هي من المسائل
التي تختص بالمسلمين فقط، والتي لا يجب على حكومة جلالة الملك أن تبدي رأيًا
فيها، كما وأنها لا ترغب في ذلك، وتفضلوا بقبول فائق التحية وعظيم الاحترام.
... ... ... ... ... ... نائب معتمد وقنصل بريطانيا بجدة
... ... ... ... ... ... ... ... وكيل قنصل جوردان
***
اعتراف فرنسا
وقدم مساء الثلاثاء ١٧ شعبان سعادة قنصل فرنسا في جدة إلى القصر العالي
بجدة، وأخبر جلالة الملك بأنه تلقى برقية من حكومته تأمره أن يبلغ جلالة الملك
بأن حكومة الجمهورية الأفرنسية الفخيمة تعترف بجلالته ملكًا على الحجاز.
ولم يصلنا حتى صدور هذه الجريدة الكتاب الرسمي المتضمن اعتراف حكومة
فرنسا الخطي ومتى وصلنا نشرناه في حينه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (أم القرى ع ٦٣)
***
مآدب ملك الحجاز وخطبه فيها
مأدبة جدة الرسمية

أدبّ جلالته مأدبة رسمية في جدة دعا إليها معتمدي الدول وقناصلها وقائد
البارجة (كارت فلاور) الإنكليزية الراسية في جدة زيارة، وكبار ضباطها، ورؤساء
المحلات الأجنبية، ووفد الخلافة الهندي، ومصالح الحكومة، ووجهاء الأهالي،
وبعد تناول الطعام وشرب القهوة العربية، ألقى نائب جلالته عبد الله بك الدملوجي
خطابًا وثنَّى عليه جلالته بخطاب ملكي، وقد أجاب معتمد دولة إيطالية عن
خطاب جلالته باسم معتمدي الدول؛ لأنه أقدمهم عهدًا في البلاد حسب الأصول،
وهذا نص الخطب الثلاث كما نشرت في العدد ٥٧ من جريدة أم القرى المؤرخ
في ١٥ رجب سنة ١٣٤٤ الموافق ٢٩ يناير سنة ١٩٢٦.
***
خطاب نائب جلالة الملك
يا صاحب الجلالة
أستمنحكم الأذن في أن أُقدّم لحضرات المدعوين خالص الشكر لتلبيتهم الدعوة
إلى هذا المنزل العامر، هذه الدعوة التي ستترك أثرًا جميلاً في النفوس يدعو لتوطيد
العلائق الودية الثابتة بين الجميع.
أيها الأفاضل الكرام: إن هذا الاجتماع الذي يعد الأول من نوعه بعد الانقلاب
الأخير سيكون له بحول الله أجمل وقع في مجرى الأحوال في الأيام المقبلة، وإني
أنتهز هذه الفرصة لأكرر على مسامع حضراتكم ما طالما صرح به مولاي جلالة
الملك - أيده الله - عن نواياه في هذه الديار المقدسة التي لا يمكن أن تتبدل ولا
تتغير في ساعة من الساعات مهما كلف أمر القيام بها من المشاقِّ والصعوبات.
أيها الأفاضل: إن الأمن في هذه الديار هو الأساس المتين الذي ستدعمه
الحكومة بيد من حديد، فلا تجعل بحال من الأحوال بحول الله وقوته - سبيلاً للإخلال
فيه، ولذلك يستطيع كل مسلم من أي بلد كان أن يصل إلى هذه الديار المقدسة،
ويجوب فيافيها وقفارها وهو آمن مطمئن، لا يجد من يروعه ما دام محافظًا على
النظامات وأوامر الحكومة المحلية.
ثم إن العدل المطلق ستطبقه الحكومة على جميع الناس كافة من أي نوع كانوا
بغير تحيز أو محاباة، وإن الشرع الإسلامي هو الأساس الذي تُستقى منه الأحكام
في هذه الديار لتكون نبراسًا عامًّا لكل ذي وجدان حر، وذي نظر ثاقب؛ ليُعلم من
ذلك أن الإسلام دين عدل يزن الحق بقسطاسه المستقيم، فالديار مفتوحة لكل إنسان
مستعد للرضوخ لأحكام هذه الشريعة المطهرة، وأسأل الله أن يجعل أعمالنا أصدق
من أقوالنا، وفي الختام أنتهز هذه الفرصة لتقديم الشكر لكل فرد من أفراد حضرات
الأفاضل الذين لبوا دعوتنا هذه والسلام.
***
خطاب جلالة الملك وبيانه الدولي
نعم إن ما تكلم به الدكتور عبد الله بك الدملوجي هو حقيقة غايتنا في هذه
الديار المقدسة، وتلك هي خطتنا التي وطَّنّا النفس على السير عليها، وإني أنتهز
هذه الفرصة الجميلة لأبدي لضيوفنا الكرام - وعلى الأخص معتمدي الدول وقناصلها
المحترمين - بعض ما يجول في خاطري من آمالي وتمنياتي.
إن هذا الوطن المقدس يوجب علينا الاجتهاد فيما يصلح أحواله، وإننا جادون
في هذا السبيل قدر الطاقة، حتى تتم مقاصدنا في هذه الديار ويكمل للمسلمين جميعًا
راحتهم وأمنهم، وتتم لجميع الوافدين لمنازل الوحي المساواة في الحقوق والعدل.
إن للدول الأجنبية المحترمة علينا حقوقًا، لهم علينا أن نفي لهم بجميع ما
يكون بيننا وبينهم من العهود {إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء: ٣٤) وإن
المسلم العربي ليشين بدينه وشرفه إنْ يخفر عهدًا أو ينقض وعدًا، وإن الصدق أهم
ما نحافظ عليه. إن علينا أن نحافظ على مصالح الأجانب، ومصالح رعاياهم
المشروعة محافظتنا على أنفسنا ورعايانا، بشرط أن لا تكون تلك المصالح ماسة
باستقلال البلاد الديني أو الدنيوي، تلك الحقوق يجب علينا مراعاتها واحترامها،
وسنحافظ عليها ما حيينا إن شاء الله تعالى.
وأما حقوقنا على الدول ففيما يتعلق بهذه الديار نطلب منهم أن يسهلوا السبل
إلى هذه الديار المقدسة للحجاج والزوار والتجار والوافدين، ثم إن لنا عليهم حقًّا
فوق هذا كله، وهو أهم شيء يهمنا مراعاته، وذلك أن لنا في الديار النائية
والقصية إخوانا من المسلمين ومن العرب، نطلب مراعاتهم وحفظ حقوقهم [١] ،
فإن المسلم أخو المسلم، يحن عليه كما يحن على نفسه في أي مكان كان، وإني
أؤكد لكم بأن المسلمين عمومًا والعرب خصوصًا كالأرض الطيبة كلما نزل عليها
المطر أنبتت نباتًا حسنًا، وأن المطر الذي نطلبه هي الأفعال الجميلة المطلوبة من
الحكومات التي لها علاقة بالبلاد التي يسكنها إخواننا من العرب ومن المسلمين،
وإن الأرض الطيبة هم المسلمون عامة والعرب خاصة، ولي الأمل الوطيد بأن
الحكومات المحترمة ذات العلاقة بالبلاد الإسلامية والعربية لا تدخر وسعًا بأداء ما
للعرب والمسلمين من الحقوق المشروعة في بلادهم، وفي الختام أسأل الله أن يجعل
أفعالنا أصدق من أقوالنا، وأن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والصلاح.
***
خطاب قنصل إيطاليا الدولي
إني أشكر جلالة الملك بالنيابة عن القناصل، وبالنيابة عن الجالية الأوربية
لما تفضل به علينا من دعوتنا لمائدته الملكية، وللشرف الذي حصل لنا بهذه الليلة
السعيدة المسرة.
إني أشكر جلالتكم على ما أبديتموه من مقاصدكم الحسنة نحو هذا القطر
وبالأخص عما قصدتموه من راحة البلاد من كل الوجوه، وهذا مما يسر جميع
الدول التي نحن نمثلها، والتي يهمها أمور الأماكن المقدسة الإسلامية، ونحن نفتخر
بأن نهنئ جلالتكم، وندعو لكم بالتوفيق التام في الخطة التي رسمتوها لراحة هذه
البلاد، وبالاختصار فإن ما تفضل به جلالة الملك لا نقصر في إبلاغه لحكوماتنا الذين
يعرفون حقيقة نيات جلالتكم بخصوص هذه البلاد، وإنه معلوم لدى الجميع بأن
حكوماتنا تحترم وتكرم كافة الأديان كما أنها أيضًا تميل وتحب العرب، وبالأخص
الشعوب الإسلامية من العرب، ونحن واثقون بأن حكوماتنا يبذلون الجهد بقدر
الإمكان لمساعدة جلالتكم فيما يجلب الخير والراحة لهذه البلاد المقدسة، وإنني أكرر
آيات الشكر لجلالة الملك على تفضله علينا بهذه الدعوة وهذا اللطف الذي لقيناه من
جلالته في هذه الليلة السعيدة، اهـ.
***
المأدبة الملكية بمكة
وكلام الملك عبد العزيز في الجامعة الإسلامية
جاء في جريدة (أم القرى) أيضًا أن جلالة الملك أقام مأدبة فاخرة في المنزل
المعروف (بدار الحكم) دعى إليها من كان في مكة من وفود وعلماء مكة وأشرافها
وأعيانها وكبار مطوفيها ورؤساء التجار، فكان عددهم ثلاثمائة مدعو، وذكرت
الجريدة أن جلالة الملك أقبل عليهم يحدثهم كعادته بما يجيش في صدره من الأفكار
والحكم، ثم استطر إلى الكلام في موضوع الجامعة الإسلامية وأهميتها، فقال:
(إن الجامعة الإسلامية هي حياتنا، هي روحنا، هي فخارنا، ولكن كيف
تكون هذه الجامعة؟ وما هي تلك الجامعة؟ هي أن يُجمع المسلمون على أمر جامع
لهم، ولا شيء يجمعهم من غير اختلاف إلا التمسك بكلمة التوحيد تمسكًا صادقًا
على علم وبصيرة، فلا يجوز للمسلم أن يمضي عليه ربع دقيقة من حياته تمر بدون
أن يعرف ربه على بصيرة، فالجامعة الإسلامية هي اجتماع المسلمين على هذه
المعرفة الحقيقية لا اجتماعهم في الرتب والوظائف) .
(إن الجامعة الإسلامية بالمعنى الذي أفهمه وأقرره هو اجتماع المسلمين
عامةً على محبة الله تعالى وتوحيده وحده وصرف العبادة كلها إليه) .
(قالت) : واسترسل جلالته في هذا الموضوع وهو يغرف من بحر، ويتكلم
من قلب مملوء بالغيرة الدينية، ومفعم بالألم لتفرق المسلمين وتشتتهم.
ثم ذكر طرفًا من العادات المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان مما يأتيه
بعض الناس خروجًا عن الدين من جمع الأموال باسم المقابر وصرفها عليها، وأكلها
باسم تلك المقابر وما في ذلك من الخروج على كتاب الله وسنة رسوله ومخالفته
لإجماع المسلمين، وقال: إن أكثر الناس الذين يريدون بقاء هذه البدع المضلة
ويحافظون عليها لا يحملهم على ذلك إلا رغبتهم في اكتساب أموال الناس بالباطل،
ثم أورَدَ في النهي عن ذلك آيات من كتاب الله وأحاديث من كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم اهـ.
***
نظرة في بيعة الحجاز لسلطان نجد
إننا عندما أنبأتنا الشركات البرقية بمبايعة أهل الحجاز لسلطان نجد ونصبه
ملكًا عليهم، استغربنا ذلك وانتقدناه، وعددناه عجلة من هذا الرجل الذي كنا ربما
ننتقد منه طول أناته وسعة صبره، ورأينا أنه لو تربص بهذا الأمر حتى يجتمع
المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه لكان خيرًا له، لأنه أقرب الوسائل إلى إقناع العالم
الإسلامي بصدقه وإخلاصه في تصديه لتطهير الحجاز من ظلم حسين بن علي
وأولاده، وبكونه هو الزعيم الوحيد الذي يقدر على حفظ الأمن وإقامة العدل في هذه
البلاد وإصلاح شؤونها.
وقد كان الشيخ حافظ وهبة مندوب السلطان هنا، فكشف لنا عن وجه السبب
الخفي في قبول السلطان عبد العزيز لهذه البيعة بإطلاعنا على برقية جاءته من
السلطان في ذلك، مصرحة بأنه لما رغب إليه أهل مكة أولاً في البيعة أبى وامتنع
من القبول وطلب منهم إرجاء الأمر، حتى علم زعماء النجديين بذلك فأيدوا طلب
أهل مكة، فاعتذر لهم أيضًا فلم يقبلوا عذره، بل أنذروه ترك طاعته إذا هو امتنع؛
لأنه امتناع من واجب حتم، وذكروا له في إنذارهم حديث (لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق) رواه أحمد والحاكم بهذا اللفظ، والشيخان وغيرهما بألفاظ أخرى.
وأنه حينئذ لم ير بدًّا من القبول، ثم جاءت جريدة (أم القرى) المكية مصرحة
بذلك، وقد نشرنا عبارتها في هذا الجزء، فعلمنا من هذا وذاك أنه لو لم يقبل
لكانت فتنة لا يعلم كنه عاقبتها إلا الله تعالى؛ لأن زعماء نجد من العلماء والقواد -
وكذا عامتهم - لا يطيعون سلطانهم؛ لأن له قوة من دونهم يستطيع بها إكراههم
على الطاعة، ولا يطيعونه كما يطيع غيرهم من قبائل العرب أمرائهم وشيوخهم
بالعصبية والاشتراك في المنافع، وإنما ميزتهم التي لا مشارك لهم فيها من كل وجه،
أنهم يطيعون إمامهم تدينًا، لأن طاعته واجبة عليهم شرعًا، ولهذا ينفرون إلى
القتال إذا استنفرهم على نفقة أنفسهم، ويقرب منهم في ذلك أكثر زيدية اليمن لا
جميع أهل اليمن مع إمامها، فإن أكثرهم لا يطيعون إلا مكرهين، وقد أمكن للسيد
محمد علي الإدريسي أن يستميل بالمال كثيرًا من الزيدية لطاعته حتى في قتال
الإمام يحيى في صفوفه.
هذا وإن سبب استعجال أهل الحجاز ببيعة السلطان عبد العزيز آل سعود
أمران:
(أحدهما) علم أهل المعرفة والرأي منهم بأنه لا يوجد أحد من شرفائهم ولا
من سادتهم ولا من شيوخ قبائلهم القوية يمكنه أن يقوم بالأمر، ويقيم ميزان العدل،
ويحفظ الأمن في هذه البلاد؛ ليعود موسم الحج والزيارة كما كان، وخيرًا مما كان.
كما يقوم بذلك هذا الرجل بما وراءه من قوة النجديين التي يخشى بأسها عرب
الحجاز وغيرهم من أهل جزيرة العرب، فإن الشريف حسينًا كان أقوى زعماء
الحجاز بأسًا وأشدهم حزمًا وأكثرهم مالاً، وهو لم يستطع أن يؤمِّن الطريق بين
مكة المكرمة والمدينة المنورة، فغيره من أهل الحجاز أولى بهذا العجز. فإذا فرضنا
أن المؤتمر الإسلامي اجتمع وقرر جلاء السلطان بجنوده من الحجاز فلا يشكون في أن
تنفيذه لقرارهم يكون مدعاة للفوضى وفقد الأمن في الحجاز، وامتناع مسلمي
الأقطار عن الحج والزيارة، وحينئذ يهلك أكثرهم جوعًا إن لم يهلكوا بالثورات
والفتن.
(الأمر الثاني) أن أولاد الشريف حسين وغيرهم قد أيدوا في الحجاز
وسورية وفلسطين والعراق ما كان قد انتشر من دعوة العصبية العربية، والامتناع
من قبول تدخل أحد من الأعاجم في شأن الحكم والسلطان في شيء من البلاد
العربية، وكان غرضهم من هذه الدعاية معارضة ما دعا إليه سلطان نجد من
اشتراك زعماء جميع الشعوب الإسلامية في تقرير مستقبل الحجاز، وكان من
حججهم أن أكثر تلك الشعوب واقعة تحت سيطرة الدول الإفرنجية وغير مأمون
على رجالها من تأثيرهم، ثم بثت في الحجاز كله دعاية أخص من دعاية الجنسية
العربية، وهي دعاية الوطنية التي من مقتضاها أن تكون أمور الحجاز ومصالحه
بيد الحجازيين دون غيرهم من العرب، وقد راعوا هذه العصبية الوطنية في
مبايعتهم لسلطان نجد، وصرحوا بها في نص صيغة البيعة التي نشرناها في
الجزء السابق (٩: ٢٦) فبهذه النزعة الوطنية وتلك العصبية العربية نفروا من
تحكيم المؤتمر الإسلامي العام في أمر حكومتهم وحاكمهم، واقتصروا على
الانتفاع بقوة سلطان نجد في إقامة الحكم وحفظ الأمن في بلادهم تقديرًا للضرورة
بقدرها، وقد رضي بذلك زعماء نجد، فكان رضاؤهم دليلاً على إخلاصهم في حربهم
لحسين وعلي وعدم طمعهم في جعل الحجاز تابعًا لنجد أو مرتبطًا بها في إدارتها
وسياستها، ولو كانت هذه البيعة بمحض القوة- وهي موجودة بغير نكير- لما
رضي السلطان ولا رجاله بجعل إدارة الحجاز منفصلة عن إدارة نجد.
ومن الدلائل على إخلاص السلطان عبد العزيز عدم قبوله لما عرضه
عليه أهل الحجاز من المبايعة بالخلافة. وقد روى رجل من كبار الألمانيين كان في
جدة أن السلطان قال لهم إن أمر الخلافة لا يعنيكم وحدكم، بل يعني العالم الإسلامي
كله، فمتى وجد في الإسلام زعيم يقتنع العالم الإسلامي بزعامته وكفايته في القيام
بشؤون الإسلام - تعين أن يولوه هذا الأمر باقتناع زعماء شعوبهم أنه هو الذي
يجب اختياره لهذا المنصب.
إن العصبية الجنسية والعصبية الوطنية محرمتان في الإسلام، ولكن المسلمين
قد ابتلوا بهما في بلاد العرب والعجم جميعًا، وهما اللتان فرقتا وحدة الإسلام قديمًا
وحديثًا، وآخر رزايا العصبية الجنسية ما كان من ملاحدة الترك، وسيذوقون من
مرارة فعلتهم ما هو أدهى وأمر مما ذاق من قبلهم من الأمويين ومن بعدهم، ولا بد
لعلاج هذا الداء من حكمة وروية وصبر، وأن أولى المسلمين بالوحدة في هذا
العصر عرب الجزيرة ثم من يليهم، وأولى عرب الجزيرة بها الحجاز ونجد، لشدة
حاجة كل من القطرين إلى الآخر مع كون سكانهما من أهل السنة، ومع هذا رأينا
أن من الحكمة فصل إدارة كل منهما من الأخرى إلى أن يتم الاستعداد للوحدة.
وينبغي للمخلصين من زعماء المسلمين وأهل الغيرة والرأي منهم أن يقدروا
ما يعبر عنه أهل السياسة بالأمر الواقع قدره، ولا يجرمنهم ما ينكرون منه على
اتباع أهوائهم، والتعصب لآرائهم، فإن العاقل المخلص من يحاول الانتفاع في كل
حال بحسبها، وسنكتب مقالاً خاصًّا فيما ينبغي عمله في الحجاز إن شاء الله تعالى.