للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


البدع والخرافات

أسباب وضع الحديث واختلافه
(٢)
ذكرنا في الجزء الماضي أربعة أسباب للكذب على الرسول صلى الله عليه
وسلم وهي أهم ما ذكره الحفاظ والمحدثون جزاهم الله أفضل الجزاء وبقي أسباب
نذكرها على ترتيب ما قبلها وهي:
(خامسها) : الخطأ والسهو وقع هذا لقوم , ومنهم من ظهر له الصواب ولم
يرجع إليه أنفة واستنكافًا أن ينسب إليهم الغلط , ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم
إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع.
(سادسها) : التحديث عن الحفظ ممن كانت له كتب يعتمد عليها فلم يتقن
الحفظ فضاعت الكتب فوقع في الغلط.
(سابعها) : اختلاط العقل في أواخر العمر , وقع هذا لجماعة من الثقات
فكانوا معذورين دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روي عنهم
في طور الكمال والعقل وبين ما روي في طور الاختلاط والهرم.
(ثامنها) : الظهور على الخصم في المناظرة لا سيما إذا كانت في الملأ ,
وهو غير الوضع لنصرة المذاهب الذي تقدم قال ابن الجوزي: (ومن أسباب
الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع من الاستدلال على ما يقوله
كما يطابق هواه تنفيقًا لجداله. وتقويمًا لمقاله. واستطالة على خصمه , ومحبة
للغلب , وطلبًا للرياسة , وفرارًا من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره.
(تاسعها) : إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور
مجالسهم الوعظية وتوسيع دائرة حلقاتهم , وقد ألصق المحدثون هذا السبب
بالقصاص وقالوا: إن في الأحاديث الصحاح والحسان مثل ذلك , ولكن الحفظ شق
على أولئك القصاص فاختاروا أقرب الموارد وهو الوضع. ونقول: إن قصاص
هذا الزمان قد اتبعوا خطوات أولئك الوضاع وحفظوا أكاذيبهم لسوء الاختيار فقلما
نرى واعظًا يحفظ الصحاح , وتراهم يكادون يحيطون بالموضوعات التي لا يكاد
يوجد بمعناها حديث صحيح السند لأن معظمها خرافات وأوهام وتجرؤ على
المعاصي بالأماني والتشهي. ولعل ابن الجوزي ما تصدى لتأليف كتابه في
الموضوعات إلا بعدما زاول الوعظ واختبر ما أفسد الوعاظ من دين الناس وقد ذكر
عن نفسه أن الأحاديث الموضوعة كانت ترد عليه في مجلس وعظه فيردها فيحقد
عليه سائر القصاص.
(عاشرها) : شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس , ولعل الذي
سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة هو قول العلماء: إن الأحاديث
الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال وما في معناها مما لا يتعلق بالأحكام والحقوق
وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام وأن قال الله تعالى: {اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣)
ولا تستبعدن هذا أيها المسلم المخلص فإن جميع البدع الدينية التي يسميها الناس
حتى بعض العلماء (بدعًا حسنة) ويعللونها تعليلات يلونونها بلون الدين هي من
الزيادة في الدين , ويا ليتها كانت زيادة في الأعمال فقط ولكنها زيادة في العقائد
أيضًا كاعتقاد وساطة بعض الصالحين الأموات بين الله والناس في قضاء حوائجهم؛
إما بأن يقضوها بأنفسهم لأن لهم سلطة غيبية وراء الأسباب , وإما بأن يقضيها
الله تعالى لأجلهم فتكون إرادة الله تعالى تابعة في ذلك لإرادتهم كما اشتهر من قولهم:
(إن لله عبادًا. إذا أرادوا أراد) وغير ذلك , فإذا قلت لهم: إن هذا شرع لم يأذن
به الله يأتونك بأمثال ينزه الله عنها كتشبيهه بالملوك والأمراء الذين يتقرب إليهم بمن
يحبون ليفعلوا ما لم يكونوا يفعلونه لولاهم , وفاتهم أن إرادة الله تعالى لا تتغير
لأجل أحد لأن تخصيصها وترجيحها إنما يكون بحسب العلم القديم الذي لا تغيير فيه
ولا تبديل.
(حادي عشرها) : إجازة وضع الأسانيد للكلام الحسن؛ ليجعل حديثًا ,
ذكروا هذا سببًا مستقلاًّ وهو يدخل فيما سبقه.
(ثاني عشرها) : تنفيق المدعي للعلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض
البحث عن حديث ووقع السؤال عن كونه صحيحًا أو ضعيفًا أو موضوعًا فيقول من
في دينه رقة وفي عمله دغل: هذا الحديث أخرجه فلان وصححه فلان , ويسند هذا
إلى كتب يندر وجودها ليوهم أنه مطلع على ما لم يطلع عليه غيره أو يخلق للحديث
إسنادًا جديدًا، قالوا: وربما لم يكن قد قرع سمعه ذلك اللفظ المسئول عنه قبل
السؤال، وهذا نوع من أنواع الوضع شعبة من شعب الكذب على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وقد يسمعه من لم يعرف حقيقة حاله فيعتقد صحة ذلك وينسبه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: رواه فلان وصححه فلان كما قال ذلك
المخذول.
هذا ما ذكره المحدثون لم نستنبط منه شيئًا من عندنا لأنهم رحمهم الله ما تركوا
مقالاً لقائل، ومنه يعلم أن ضبط كل ما وضع من الحديث متعذر، وأنه يجب
الاحتياط التام في قبول أي حديث وجد في كتاب أو سمع من رجل حتى يعلم أن
الحفاظ اتفقوا على صحة روايته، فإذا طعن في أحد رجال سنده واحد منهم فالعمل
حينئذ بما قالوه من تقديم الجرح على التعديل بشرطه. ويبقى بعد ذلك البحث في
الحديث دراية فإن خالف شيئًا وجوديًّا في الطبيعة أو أصلاً من أصول الشريعة
الثابتة بالكتاب العزيز أو السنة القطعية أو عمل المسلمين في العصر الأول من
الصحابة والتابعين فهو مردود.
والحاصل أن الثابت من الدين نقلاً بطريق القطع هو القرآن والأحاديث
المتواترة وقليل ما هي وما كان عليه أهل العصر الأول من العمل الذي يتعلق
بالعبادة إذ العبادات وأساسها من العقائد وتهذيب الأرواح هو الذي كمل على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً. وأما المعاملات والأمور القضائية فقد
جاءت الشريعة بأصولها العامة وقواعدها الكلية والجزئيات تجري على ما قال أحد
الأئمة: تحدث للناس أقضية ... إلخ فتأمل هذا ينفعك والله الموفق.
***
واجب الصحافة ومفاسد الانتحال
تكرر منا الانتقاد على الجرائد التي تنقل كلام غيرها ولا تعزوه إلى صاحبه،
وقد يكون هذا من البعض عن عمد فيكون سرقة شرًّا من سرقة الأموال والعروض
لأن في سرقة دينار من رجل ذنبًا واحدًا، وفي سرقة الكلام عدة ذنوب أحدها:
التعدي على حقوق الناس وانتحالها لنفسه، وهو المراد بتسميتها سرقة، وثانيها:
الخيانة في العلم وهو لا ينجح إلا بالأمانة , وهي نسبة كل قول إلى قائله وكل رأي
إلى صاحبه , وثالثها: الكذب وهو ظاهر , ورابعها: التبجح والافتخار بالباطل ,
وقد ورد في الحديث الصحيح: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) , خامسها:
الغش فإن من الناس من إذا علم أن هذا القول لفلان يأخذ به ويقلده لأن التقليد
مبني على الثقة , فإذا نسب القول إلى غير صاحبه يتركه من لو علم صاحبه لأخذ
به وانتفع لثقته به دون من نسب إليه , ويأخذ به من يثق بالمنتحل على أنه له وما
هو له. سادسها: الجناية على التاريخ الذي يبين مراتب الناس وأقدارهم في العلم.
ولا شك أن المحدثين يعتبرون هؤلاء المنتحلين من الوضاع الكاذبين حتى لا يثقون
برواية لهم وكذلك يجب.
كما تكون هذه الجريمة عن عمد تقع في بعض الأحايين سهوًا , وإذا كان
السهو في كتاب وطبع؛ يصعب تداركه وتلافيه. وإلحاق القول بقائله والرأي
بمرتئيه. ولكن التدارك يسهل في الجرائد بأن يصرح أصحابها في الجزء التالي
ببيان ما سهوا عنه في المقدم. ذكرنا في بعض أجزاء المنار أن بعض المؤلفين
انتحل بعض العبارات وبعض المسائل من (رسالة التوحيد) في كتاب له ولم
يعزها للرسالة ولا لفضيلة مؤلفها , وبعضهم نقل منها من غير عزو ولم نذكره ,
ولكننا ذاكرناه وعرفنا السبب في ذلك ولم يتدارك أحد من هؤلاء ما وقع منه ويتيسر
لهم ذلك بإعادة طبع مؤلفاتهم إن أرادوا الحق. وذكرنا عن بعضهم مثل هذا
الانتحال عن المنار.
نشرت مجلة (نور الإسلام) في العدد الصادر في منتصف جمادى الثانية
مقالة (العروة الوثقى) الشهيرة في المقابلة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية
وآثارهما في نفوس المنتسبين إليهما، وأعمالهم , ولكنها لم تعزها إليها، كما
عزوناها نحن حين سبقناها بنشرها في أول السنة الماضية , ونحمل هذا من
رصيفتنا على السهو، وننتظر أن نرى في عددها الذي يصدر في تاريخ هذا الجزء
من المنار (غرة رجب) التصريح بنسبة المقالة إلى العروة الوثقى كما هو واجب
الصحافة , وننبه رصيفينا الفاضلين صاحبي هذه المجلة إلى عزو كل نبذة تنشر في
مجلتهما من (رسالة التوحيد) إلى الرسالة أو إلى فضيلة مؤلفها وعدم الاكتفاء
بالعزو الأول إذ الجرائد يتجدد لها قراء لم يطلعوا على الأعداد السابقة فيكون عدم
العزو تدليسًا بالنظر إليهم وفيه ما علم. هذا وإن عزو الكلام إلى مثل مولانا الأستاذ
الأكبر مفتي الديار المصرية الذي هو حكيم الأمة في هذا العصر مما يجب أن
تفتخر به الجريدة ويزيدها اعتبارًا في نظر من يطلع عليها , وإنما يهرب المرء من
تكرار ذكر من لا يخلو ذكره من غضاضة. ولم نرض لرصيفتنا إلا ما رضيناه
لمجلتنا فإننا نفتخر بعزو التفسير الذي نقتبسه من الأستاذ إليه ونعلم أيضًا أنه أحرى
بأن ينتفع به القراء ويتلقونه بكمال الثقة والقبول.
***
كتاب البهائية وناشره
نشكر لمشيخة الأزهر الجليلة الاهتمام بكتاب طائفة البهائية الذي تكلمنا عنه
في الجزء الماضي، فقد بلغنا أنها عاقبت ملتزم طبعه ونشره بقطع جرايته ومرتبه
من الأزهر إلى مدة أربعة أشهر، وهذا بناء على تنصله واعتذاره بأن مقدمة الكتاب
نشرت باسمه من غير إذنه وأنه هو إلى الآن لم يعلم بما يشتمل عليه الكتاب مما
يخالف دين الإسلام ويثبت الديانة البهائية , وحاصل هذا التنصل والاعتذار أن
البهائية قوم مزورون استخدموا اسم مجاور في الأزهر لخلابة المسلمين وخداعهم
بإيهامهم أن دينهم منتشر في الجامع الأزهر الشريف وكتابهم يباع فيه ولولا أنه حق
لما سكت عليه شيوخ الأزهر ولما أقروا ناشره وبائعه فيه على نشره وبيعه مع أنه
اشتهر عن بعضهم المعارضة في بيع رسالة الردّ على هانوتو فيما خاض فيه من
دين الإسلام بناء على أن البيع في المساجد ممنوع شرعًا.
ومن العارفين بناشر هذا الكتاب من يعتقد أنه دخل في الديانة البهائية، ولكن
اعتذاره هذا طعن فاحش بهذا الدين وأهله يدل على أنه غير موقن به ولا معتقد , إذ
لو كان معتقدًا لما اختار هذا المتاع القليل وهو الجراية على دينه الجديد مع أن العهد
بالداخلين في الأديان عند ظهورها شدة التمسك بها والمحافظة على كرامة أهلها
والله أعلم بالسرائر.
***
منكرات التقاريظ
وكتاب البهائية
للناس في تقريظ الكتب والجرائد منكرات كثيرة تكلمنا عنها في كتابنا
(الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية , والرفاعية) بمناسبة الكلام على
كتب مشحونة بالباطل قرظ عليها بعض العلماء المشهورين من غير اطلاع على ما
فيها ولا ظهور على قوادمها وخوافيها.
ومن هذا النحو تقريظ بعض الجرائد الوطنية الإسلامية لكتاب البهائية فيما
نظن، وإن كان ظاهر التقريظ أن كاتبه اطلع على الكتاب لأنه ذكر أمهات مسائله
ومهمات مواضيعه , ومنها الكلام في المعجزات التي ينكرها البهائية بالمعنى
المعروف عند المسلمين , وينكرون كون إعجاز القرآن ببلاغته كما تقدم في الجزء
الماضي ومنها تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: ١٩) فقد
نوهت به الجريدة المذكورة مع أنه الأساس الذي يقيمون عليه بناء دينهم , والراية
التي يرفعونها لنشر بدعتهم , والزمام الذي يقودون به المسلمين إليهم. وذلك أنهم
يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس معنى القرآن الحقيقي وأسراره
الخفية وبواطنه المعنوية , ولا بينها الصحابة والأئمة من بعده , وإنما بقيت مجهولة
مبهمة حتى قام (بهاء الله) الأعجمي الفارسي الذي لم يحسن العربية فبينها على
حقيقتها لأن الروح الإلهي حلَّ به فأنطقه بذلك.
رأينا ذلك التقريظ فكان كسهم أصاب الفؤاد وعجلنا إلى تنبيه بعض الأفاضل
لذلك والاستعانة به على تنبيه صاحب الجريدة لتلافي الأمر وتداركه وقد كان.
ولكن التلافي كان بعبارة غير مقبولة عند المنكرين عليها ممن عرف ذلك الكتاب
وفتنته لأنها بنيت على أن المقرظ ذكر اسم الكتاب غلطًا لأنه اشتبه عليه بغيره ,
وإنما يقبل هذا القول لو لم يذكر في التقريظ ما يشتمل عليه الكتاب من المسائل ,
أما وقد ذكرها فما معنى الغلط في اسم الكتاب؟
هذا ما يوقع الشبهة على الجريدة والذي يناجينا به الوجدان أن المقرظ برئ
من تعمد مدح الكتاب مع العلم بما فيه وندفع شبهة ذكر المسائل والمواضيع بأنه
أخذها من الفهرست كما يفعل كثير من المقرظين المتساهلين لا سيما عند ظن الخير
في المؤلف. وعسى أن تكون هذه الواقعة عبرة وموعظة للذين يتهجمون على
التقريظ عن غير بينة فيغشون الناس ويقودونهم إلى الضلال فيكونون ضالين
مضلين والعياذ بالله تعالى.