للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرقص والعفة والحجاب

رحم الله المتنبي حيث قال: (لِهَوى النفوس سريرة لا تُعلم) فإن هذه الحكمة
تصدق على الذين ملأوا وادي النيل صراخًا وعويلاً، وتنديدًا وتهويلاً، أن قام
رجل منهم يقول ربوا البنات وعلموهن، ثم خففوا الحجاب عنهن بحيث لا يبدين
من زينتهن إلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان على ما يقول بعض المفسرين،
وهم مع ذلك يحضرون بدعة رقص النساء ويأذنون لنسائهم بالتفرج عليها من غير
تحرج ولا تأثم ولا نكير، بل منهم من يثني على هذه البدعة الذميمة حتى بالكتابة
في الجرائد.
بدعة الرقص وما أدراك ماهية، هي الوباء الذي يصطلم العفة اصطلامًا،
ويستأصل جراثيم الصيانة استئصالاً، قال راوي المنار: دعاني غير واحد من
الفضلاء إلى الكتابة في التنفير عنها، والإنكار على فاعليها الفاسقين ومنهم من قال
ينبغي أن تشاهدها مرة لتكتب عن بينة وشعور بوجه ضررها، فقلت ما كان لمثلي
من خدمة الدين أن يقف في تلك المواقف النجسة، وإن كان القصد طاهرًا والغرض
شريفًا، وقال آخر: إن هذا الرقص يكون في مكان شريف، في بعض أيام السنة،
ويتسنى لك أن تشاهده هناك، وفاته أن هذا الشرف اعتباري لا حقيقي، وأنه
خسيس عند الله ورسوله وصالحي المؤمنين، فماذا تغني عنه شهادة المبتدعة
والفاسقين، ثم اتفق لي أن دخلت (الأوبرا الخديوية) ليلة الاحتفال بجلوس الجناب
الخديوي من هذه السنة لأشاهد كيفية تمثيل الإفرنج للقصص وأختبره؛ فإنني قرأت
في كثير من الكتب والجرائد أن تمثيلهم ركن من أركان التهذيب وأصل من أصول
التأديب، وما كنت أعلم أن سيكون في خلاله رقص ولكنه كان، وشاهدت هذه
البدعة التي هي أفتك عوامل الافتتان.
برز في معهد التمثيل زهاء عشرين أو ثلاثين بنتًا كواعب أترابًا من أجمل
من أنبتت أرض الشمال، وعليهن من لبوس الزينة ما عليهن وطفقن يرقصن بنظام
غريب لا يحيط به الطرف، فيحيط به الوصف، على أني لو شئت لقلت في ذلك
قولاً يقرب بالخيال من ذلك الجمال، ويطير بالقلب في عالم المثال؛ ولكنني أخشى
أن أكون بذلك من دعاة الفتنة، وأنصار هذه المحنة، وكان يلقى على الراقصات
شعاع كهربائي يلون بألوان مختلفة، فتارة يكون أبيض ناصعًا، وطورًا يكون
ضاربًا إلى الصفرة كنور الشمس، وآنًا يُرى مشوبًا بحمرة زاهية، وآونة تمازجه
زرقة صافية، وكان الناس حيارى، تساوى في الدهشة غير السكارى بالسكارى، أما
هؤلاء فكانوا كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى يفيق فتى به سكران
وأما كاتب هذه السطور فكان كما أجاب رجلاً بجانبه ممتعضًا، فسأله ما بالك
ألست معجبًا بهذا المنظر الرائع والجمال البارع، فقلت في جوابه إنني في هذه
الليلة كالحاسد يرى نعمة المحسود عيني في جنة وقلبي في نار، قال وما الذي أوقد
في قلبك هذه النار، فقلت: احتكاك الأفكار، ألا تراني كيف أدير الطرف وأرمي
به إلى المتفرجين والمتفرجات، أكثر مما أرمي به إلى الراقصات، انظر إلى
هؤلاء الكهول المفتونين بهذا المنظر، وأمثل في خيالي ما يثير في نفوسهن من
الشواغل، وأتفكر في أثر ذلك وعاقبته في معاشرة نسائهم وصحبة زوجاتهم إذا لم
يكن بارعات الجمال، وقد فهمت السر في افتتان أغنيائنا بأوربا وإضاعة أموالهم
وأوطانهم ودينهم وإيمانهم في سبل ترف أوربا وزخرفها، أنظر إلى هؤلاء الشبان
الذين ترقص أعينهم وقلوبهم مع الراقصات، وتذهب نفوسهم عليهن حسرات،
وأتفكر في مستقبلهم، ومستقبل البلاد والأمة بهم، أنظر إلى هؤليا - تصغير هؤلاء-
الولدان والجواري (البنات) الصغيرات، وأمثل في ذهني نفوسهم بألواح صقيلة
ترسم فيها هذه النقوش والصور، وأتفكر في مغبة هذا الرسم والتصوير عندما
تعصر الصغيرة ويراهق الصغير، أنظر إلى تلك المقصورات في المقصورات
(أي النساء المحبوسات في الغرف التي يسمونها الألواج) وياليتهن كن من
القاصرات، فإني لا أراهن إلا يلتعن التياعًا، وتطير نفوسهن شعاعًا، ويملن إلى
محاكاة هؤلاء المائلات المميلات، الكاسيات العاريات، وقد تذكرت حديثًا شريفًا
من أعلام النبوة وهو قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (صنفان من أهل النار
لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات
عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسْنِمة البُخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا
يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم وغيره، وقد مر
على العلماء قرون لا يعرفون تأويله حتى كان منهم من فسَّر (كاسيات عاريات)
بأنهن كاسيات من نعم الله تعالى عاريات من شكره، وحتى قالوا في معنى مائلات
مميلات أنهن يمشين متبخترات ومميلات لأكتافهن، أو أنهن يتمشطن المشطة
الميلاء وهي مشطة البغايا، وأنت ترى أن الحديث صريح في دولة (الكرباج)
القريبة العهد في مصر، ودولة التهتك التي لا تزال في نمو وارتقاء بتعزيز الأمراء
والأغنياء، ومن أين كان يخطر في بال علمائنا السالفين رضي الله عنهم، بل من
أين كان يخطر في بال مثلي قبل هذه الليلة أن النساء يلبسن سراويلات حازقة
(ضيقة ضاغطة) بلون البدن وغلائل من الشفوف (الثياب الرقيقة) التي لا تحجب
ما وراءها ولا يكتفين بذلك حتى يكشفن نحورهن وأكتادهن وأيديهن إلى الأكتاف؟
وأما القبعة المرتفعة التي تحكي سنام الجمل فقد رأيناها من زمن بعيد.
هذا ما كنت أحدث به جارًا لي في الجلوس ولعمري إنني كنت أتصور أنه
قلما يخرج رجل متزوج من ذلك المكان وهو راض بحليلته، وقلما تخرج امرأة إلا
وهي مفتونة بهذه الصناعة عازمة على تقليد هذا التهتك والخلاعة، ومن يمتلئ
دماغها بهذه الخيالات، وتنفعل روحها بفعل هاته السيئات، فهل يحفظ عفتها،
ويحمي صيانتها، منديل رقيق على أرنبتها، تلاعبه الأنفاس وتخترقه أشعة عيون
الناس؟
عجيب ممن يسمح لأهله بحضور هذه المخازي، ويغفل عن هذه المغازي،
وعجيب من الذين يدعون الغيرة على الأعراض، كيف تعميهم عن هذه الفضائح
الحظوظ والأغراض، فهم يملأون الصحف تنديدًا بكلمة تقال، ثم يحثون الناس
على هذه الفعال، أليس الواجب أن يضرب دون هذه الفضائح ألف حجاب صفيق،
إذا وجب أن يكون على فم المرأة منديل رقيق، بلى ولكن الهوى هو الذي يكتب
ويتكلم ولهوى النفس سريرة لا تعلم.