للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت الأثري


عالم العراق ورحلة أهل الآفاق
السيد محمود شكري الألوسي

قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبض العلم
انتزاعًا ينتزعه من العباد , ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم؛
اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلّوا وأضلوا) متفق عليه من
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقد قبض الله تعالى إليه في الرابع من شهر شوال الماضي عالم العراق
ورحلة أهل الآفاق، ناصر السنة، قامع البدعة، محيي هدي السلف، حافظ فنون
الخلف، علامة المنقول، دراكة المعقول، دائرة المعارف الإسلامية، نبراس الأمة
العربية، حجة العترة النبوية، عميد الأسرة الألوسية، صديقنا وأخانا في الله عز
وجل السيد محمود شكري الألوسي قدس الله روحه.
كان - رحمه الله تعالى - إمامًا يقتدى به في علمه وعمله وهديه وآدابه
وفضائله. وقف جميع حياته على علوم الإسلام وفنون اللغة العربية في هذا العصر
الذي قل فيه الاشتغال بالعلم والأدب في تلك البلاد بين أهل السنة، وكاد ينحصر
في الشيعة، فبعد أن كانت بغداد في عهد العباسيين عاصمة العلوم والفنون في
الأرض، وكانت المدرسة النظامية فيها أول مدرسة جامعة في العالم، ثم بعد أن
كان يوجد فيها في كل عصر أفراد نابغون كجد الفقيد صاحب روح المعاني (رحمه
الله تعالى) استقبلنا هذا القرن الرابع عشر للهجرة من أوله في الاشتغال بالعلم ,
وصار لنا بنشر المنار وبالسياحة علم واختبار بأحوال الأقطار الإسلامية , فلم نسمع
للعلوم العربية والدينية على مذهب السنة صوتًا إلا من هذا الرجل، لهذا لقبناه في
مكتوباتنا له بعالم العراق، كما لقبنا المرحوم جمال الدين القاسمي بعالم الشام.
إنما العالم من كان مستقلاًّ في فهمه للعلم واستدلاله على مسائله , وقد مات
العلم الحي المنتج في بلاد الإسلام بالتقليد رويدًا رويدًا , حتى صار وجود العالم
(المستقل) نادرًا، وصار إذا وجد متهمًا في دينه من أهل الحشو والجمود من
أصحاب العمائم المكورة، والأردان المكبرة، والأذيال المجررة.
إن التعليم في المدارس الدينية الإسلامية كله تقليدي , فإذا رأيت عالمًا مستقلاًّ؛
فاعلم أنه لا فضل لمدرسته ولا لشيوخها في ذلك , بل سببه استعداد خاص فيه، قارنه
إرشاد مرشد من غير العلماء الرسميين في الغالب - أو اطلاع على بعض
المصنفات التي ترشد إلى العلم الصحيح , فلقحه فأثمر وأنتج، وحسب فقيدنا الكريم
أنه كان في أثناء طلب العلم يراجع تفسير جده , أو يطالع كتاب أستاذه وعمه
(جلاء العينين) فهما يرشدانه إلى ترك التزام ما قرره أفراد من العلماء لتسميتهم
علماء مذهبه , ونبذ كل ما أثر عن غيرهم من علماء الملة؛ وإن وضح دليلهم لأنهم
أئمة مذاهب أخرى أو منسوبون إليها. وما يدرينا لعل عمه السيد خير الدين كان
يرشده إلى الاستدلال والاستقلال ولو في الأصول، وإن كان كوالده صاحب
التفسير يلتزمان التقليد في الفروع، فمهما تكن حالهما في التدريس والفتوى , فقد
كانا غريبين في عصرهما؛ لما أوتيا من سعة الاطلاع وعدم الجمود على المألوف
عند الأشياخ، دع التعصب الذميم للمذهب.
والذي يظهر لنا أن الأستاذ - رحمه الله - لم يعن بالدعوة إلى الاستقلال
وترك التقليد وتربية نشء جديد يقوم بذلك، على ما كان عليه من الشجاعة وعدم
المبالاة بالدنيا وأهلها، ولو عني بهذا لكان له به شغل عن شرح فاتحة كتاب
المطول للسعد وأمثالها، ولعل عذره أنه لم يجد في بغداد طلابًا مستعدين , ولذلك لم
نر له غير تلميذ واحد يرجى أن يكون خلفًا صالحًا له في التدريس والتصنيف
وإحياء موات الكتب النافعة بالتنقيب عنها، واستنساخها، والسعي لطبعها، وفي غير
ذلك من فضائله، ألا وهو الأستاذ الشيخ محمد بهجت الأثري - فقد عهد الفقيد إليه
بمكاتبتنا بالنيابة عنه لما تناوبته الأمراض في السنين الأخيرة فرأينا من مكتوباته
خير مثال لمكتوبات أستاذه في اللفظ والمعنى، وفي الخط أيضًا فخطه كخطه كأنه
هو، ولولا آمالنا بهذا لكان حزننا على فقيدنا العزيز مضاعفًا أضعافًا كثيرة، وهو
الذي تفضل علينا بترجمته المفصلة الآتية، فنبدأ بنشرها، ثم نقفي عليها ببعض
الفوائد في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
***
ترجمة الفقيد
هو العالم الكبير، التقي الورع الزاهد، تذكرة السلف، وحجة الله على
الخلف، الإمام السيد محمود شكري ابن العالم الصوفي السيد عبد الله بهاء الدين ابن
إمام القرن الثالث عشر أبي الثناء السيد محمود شهاب الدين صاحب تفسير (روح
المعاني) ابن السيد عبد الله رئيس المدرسين في بغداد ومدرس المدرسة العظمى في
جامع الإمام أبي حنيفة , ابن السيد محمود الخطيب الألوسي البغدادي، وينتهي
نسبه إلى الإمام الحسين رضي الله عنه.
ولد ببغداد في (١٩ رمضان سنة ١٢٧٣ هـ) . في بيت عريق في الحسب
والنسب، ضليع في العلم والأدب، ينسب إلى ألوس (بالقصر على الأصح) وهي
قرية على الفرات قرب (عانات) نبغ فيها قديمًا كثير من الفضلاء: كمحمد بن
حصن بن خالد، والمؤيد الشاعر المتوفى سنة ٥٥٧ هـ الذي اتهمه المقتفي لأمر
الله بممالاة السلطان ومكاتبته , فأمر بحبسه في خبر ليس هذا محله.
وقد فر إليها أحد أجداده من وجه هولاكو عندما دهم بغداد وفتك بأهلها، ومنذ
نحو ثلاثمائة سنة رجع أبناؤه إلى بغداد ولبثوا فيها , وبنوا لهم بجدهم واجتهادهم
مجدًا رفيعًا.
يبلى الزمان وحسنه يتجدد
نشأ - رحمه الله - في حجر والده كما ينشأ ربيب العز والمجد، وتلقى عنه
القراءة ومبادئ النحو والصرف والحساب , وأتقن عليه الخط فاشتهر وهو صغير
بإجادته , وكان يعتني بتربيته وتهذيبه لما يتوسم فيه من أمارات النباهة والذكاء،
ثم بعد وفاة أبيه لازم عمه العلامة السيد نعمان الألوسي وأكب على المطالعة وعكف
على اكتساب العلم , وأكمل دروسه على سائر علماء بغداد فأتقن علوم الأدب والفقه
والحديث والتفسير , والهيئة والحكمة الطبيعية والإلهية ومنطق اليونان والجبر
وغير ذلك، وتعلم من اللغات الفارسية والتركية، وألف وهو ابن عشرين عامًا ,
وكان كتاب (شرح الثناء) باكورة مؤلفاته , ودرس في بادئ أمره في بيته , ثم
انتقل إلى مدرسة (جامع العدلية) , ثم أسند إليه تدريس مدرسة والسيد سلطان علي
وتدريس المدرسة الداودية (الحيدر خانة) , وأخيرًا أحيل إليه تدريس (مدرسة
مرجان) , فترك تدريس (السيد سلطان علي) لأحد أبناء أسرته اكتفاء بمدرسة
مرجان والحيدرية، وقد تخرج به كثيرون اشتهروا بالعلم أو الأدب كابن عمه شيخنا
العالم الأديب الكبير المغفور له السيد علي علاء الدين الآلوسي، ومعروف الرصافي
الشاعر المشهور , وأخذ اسمه ينتشر، وشهرته تتعاظم يومًا بعد يوم بدروسه التي
يلقيها على تلامذته الكثيرين ومؤلفاته التي تنمقها أنامله وتدبجه يراعته العسالة،
ولا سيما كتابه (بلوغ الأرب في لسان العرب) الذي ألفه تلبية لنداء لجنة الألسنة
الشرقية المنعقدة في (استوقهلم) بدعوة (أسكار الثاني) ملك أسوج ونروج. فقد
اقترحت هذه اللجنة منذ نحو أربعين عامًا على علماء الشرق والغرب تأليف كتاب
يعرب عن أحوال العرب قبل الإسلام ويستوعب بيان ما كانوا عليه في جاهليتهم
من العوائد والأحكام وغير ذلك , فأجاب هذا الاقتراح كثير من علماء الشرق
والغرب ومن بينهم المترجم , وعرض كل منهم مؤلفه على تلكم اللجنة , ولدى
السبر أدركت أن أجمعها مادة، وأوسعها جادة، وأغزرها فائدة، وأجزلها عائدة،
وأزيدها إيضاحًا، وأقربها مراعاة للشروط التي ألزمتها اللجنة من يريد الخوض في
عباب هذا البحث - هو كتاب (بلوغ الأرب) فاستحق الكتاب التقريظ والإطراء , كما
فاز مؤلفه دون سواه بالوسام الذهبي والجائزة.
وقد بعث إليه (الكونت كرلودي لندبرج قنصل أسوج ونروج العام في مصر
ووكيلها السياسي) برسالتين - فيما أعلم - أثنى بهما عليه وشكر له عنايته ,
ووعده بطبع كتابه تخليدًا لمآثره في خزائن الآداب، وقد نشرت إحداهما في أواخر
الكتاب، والثانية في جريدة (الزوراء) التي كانت تصدر في بغداد.
هنالك - بعد ما طبع الكتاب ونشر اسم الفائز في ذلك المضمار البعيد المدى -
كتبت الصحف والمجلات السيارة في الشرق والغرب الفصول الضافية الذيول في
تقريظ الكتاب وإطراء مؤلفه النابغة الذي نشأ في بيئة منحطة علمًا وأدبًا , فسبق
بجده واجتهاده كل من حبر وكتب من أبناء البلاد المتقدمة في مضمار العلم
والأدب، فطار صيته في الآفاق، وعرف فضله الخاص والعام حتى يكاد لم يبق
أحد لم يسمع باسمه. وتعرف به كثير من أفاضل المستشرقين , واستفادوا من
فضله وسعة اطلاعه , نخص منهم بالذكر العلامة مرغليوث الإنجليزي صاحب
المؤلفات الكثيرة , وصديقنا الجهبذ البارع لويز ماسنيون الفرنسي.
وقد عرف الأمراء والولاة فضله فقربوه منهم , وعرضوا عليه مناصب في
الحكومة سامية , فزهد فيها ورغب عنها؛ لانصرافه بكليته إلى العلم، ومقته
الاشتغال في المناصب , والتزلف من الحكام وكل ما يصده عن خدمة العلم والأدب،
حتى إنه رغب عن لذات الدنيا ولم يتزوج قط. ولما جاء الوزير سري باشا التركي
واليًا على بغداد، أدناه منه كثيرًا دون غيره من علماء بغداد واستفاد من محاضراته
الأدبية ومحاوراته العلمية، ثم اقترح عليه بإلحاح بأن يتولى إدارة جريدة (الزوراء)
وهي أول جريدة أنشئت في بغداد أنشأها الوزير مدحت باشا الشهير , وأن ينشئ
فيها القسم العربي , فلما لم يجد منه بدًّا لباه، وأجاب نداه، فتولى شؤونها وكتب
فيها بعض المقالات الأدبية , ونشر قسمًا من (بلوغ الأرب) وأعمل حركة أدبية في
ذلك الجو الساكن القاتم ذلك اليوم , بما كان يعرضه فيها من الأسئلة في شتى
العلوم على علماء البلد.
وقد كان عصر الفقيد الذي تلقى فيه العلم عصر تقليد وجمود على الرث البالي،
يتلقى الطالب ما يقرؤه في كتب الأعاجم المؤلفة في عصور التأخر والتقهقر بالتسليم،
ويأخذ ما يتلقفه من مشايخه بالقبول من غير نقد أو تمحيص، ويحرص عليه
حرصًا يجره إلى تكفير كل من يخالفه غالبًا، فاستمر الفقيد على هذه الطريقة
العوجاء متأثرًا بها، حتى برقت له بارقة اليقين، وقد تجاوزت سنه الثلاثين، فهدته
بنورها الخلاب إلى المحجة البيضاء التي لا يضل سالكها، وكسر أغلال التعصب،
وفك ربقة الجمود من عنقه، وأطلق طائر فكره من قفص التقليد الأعمى إلى فضاء
التساهل والتيسير، والتبشير دون التنفير، وطفق يأخذ بالكتاب والسنة، وبما
يوافقهما من كلام سلف الأمة من غير تحزب لشيعة أو مذهب، فصدع - بعد أن
رسخت قدماه بالأخذ بالدليل - بالحق , وشن غارات شعواء على الخرافات المتغلغلة
في النفوس والتقاليد الذميمة بمؤلفاته العديدة، تلك المؤلفات التي زعزعت أسس
الباطل، وأحدثت بين حين وآخر انقلابًا عظيمًا في الأفكار: ككتاب المنحة الإلهية،
وغاية الأماني , والسيوف المشرقة , وصب العذاب , وفتح المنان وغيرها.
ودعا المقلدين الجامدين إلى الهدى، وترك ما وجدوا عليه آباءهم، فشالت
نعامتهم وصبوا عليه جام التشنيع في المجالس، ونبذوه بالوهابية وهي كلمة يعظم
وقعها على الهمج والرعاع، وناصبوه العداء، غير أنهم لم يجدوا لأنفسهم عليه
سبيلاً. إلى أن كانت سنة ١٣٢٠ فسعوا به إلى والي بغداد وهو يومئذ عبد الوهاب
باشا , وكان من الحشوية الضالين يناصب كل من يدعو إلى الإصلاح، المتوقف
عليه الفلاح والنجاح، فاتخذ بعض التدابير السيئة , وكتب لعبد الحميد ولأبي
الهدى يخبرهما (بأن الفقيد له تأثير كبير على نفوس العراقيين لمنزلته العلمية
الكبرى , وأنه أخذ ينشر مبادئ الوهابيين , ويؤسس مذهبًا جديدًا مخالفًا لمذهب أهل
السنة! ! وأن دعوته أخذت بالانتشار في سائر أنحاء العراق، فمن الخطر العظيم
إذا ظل الرجل ينشر دعوته ومبادئه) ! فجاء الأمر من عبد الحميد بنفيه ونفي كل
من ينتمي إليه , فنفي هو وابن عمه السيد ثابت الألوسي والحاج حمد العسافي من
التجار الصالحين إلى الأناضول , وما كادوا يصلون الموصل حتى قام رؤساؤها
لهذا الظلم وقعدوا، فكتبوا لعبد الحميد يكذبون ما نسب للفقيد , ويطلبون إليه إرجاعه
ومن معه إلى وطنهم , فقبل شهادتهم فيه وأمر بإرجاعهم بعد أن قضوا في
الموصل الحدباء شهرين لاقوا فيهما من حفاوة أهلها الكرام ما يعجز عن بيانه اللسان،
ويكل دون سطره البنان , فعادوا سالمين غانمين، وعاد الشامتون نادمين على ما
فرطوا في جنب الشيخ قارعين سن الندم على ما عملوا.
أكب - رحمه الله - بعد عودته على التدريس والتأليف والنشر وخدمة العلم
الصحيح بكل ما يصل إليه جهده , إلى أن كانت سنة ١٣٣٠ هـ فأدناه الوالي
(وهو يومئذ جمال باشا) منه، فكان يشاوره في الأمر، ويأخذ منه الرأي السديد
في الحادثات، ثم اتفق أن ناصب الوالي بعض أعداء الفقيد من وجهاء بغداد ,
ففصله عن منصبه (وهو عضوية مجلس الإدارة) فعرضه على الفقيد , فزهد فيه
فألح عليه إلا القبول , فلما لم يجد منه بدًّا قبله , وبقي فيه مدة من الزمن كان فيها
نصير الحق وحليف الإنصاف، وسار كما هي شيمته سيرة مرضية وأخذ بضبع
المظلومين ولم يمكن منهم الظالمين. إلى أن كانت السنة الأولى من سنين الحرب
العامة , فندبته الحكومة للذهاب إلى صاحب نجد في أمر سياسي خطير - ليس هذا
محل ذكره - فرحل إليه عن طريق سورية فالحجاز فنجد , واجتمع به فأكرم نزله
واحتفى به حفاوة عظيمة لعظم منزلته العلمية وكبير تأثيره , ففاوضه الفقيد في
الأمر الذي جاءه به من قبل الحكومة العثمانية، ثم رجع أدراجه.
وتفقد معاهد العلم وخزائن الكتب الحافلة بالآثار الجليلة النادرة في سورية
والحجاز ونجد , واجتمع به أكابر علماء هاتيك الأقطار , فاستفادوا منه علمًا جمًّا
وأدبًا غضًّا. وهنالك عندما وصل إلى الشام عائدًا بخفي حنين ظن الناقمون عليه
أنهم وجدوا لهم سبيلاً لإيذائه , فأغروا به جمال باشا السفاح الذي استدنى الفقيد منه
يوم كان واليًا على بغداد، زاعمين - وبئس الزعم ما زعموا - أنه هو الذي متن
صاحب نجد على الحكومة, فلم يصغ إليهم لما يعهد فيه من الصدق مع الحكومة،
والحرص على جمع كلمة المسلمين.
ثم عاد - رحمه الله - بعد أن نجا من كيد الجاهلين إلى بغداد , وعاد إلى
سيرته الأولى ودرس وألف وأفتى حتى سقوط بغداد بيد الإنجليز , فعرضوا عليه
القضاء وغيره , فزهد فيه وامتنع عن التدخل معهم، ثم عرض عليه زمن تشكيل
الحكومة العربية المؤقتة الإفتاء فرياسة مجلس التمييز الشرعي فالقضاء فالمشيخة
الإسلامية وغيرها , فرفض كل وظيفة غير خدمة العلم الصحيح ونشره بإخلاص
وصدق بين أفراد الأمة تدريسًا وتصنيفًا , وانتخب أخيرًا عضوًا لمجلس المعارف
كما انتخبه المجمع العلمي العربي الزاهر في دمشق عضو شرف، ولم يزل يخدم
العلم والأدب بإخلاص , وشأنه يزداد يومًا فيومًا علوًّا ورفعة حتى توفاه الله (يوم
الخميس ٤ شوال سنة ١٣٤٢ هـ) .
وقد كان رحمه الله إمامًا في معرفة مذهب السلف، يأخذ بالدليل دون التقليد،
شديد الإنكار على الحشويين لا يعرف المحاباة ولا المداجاة , يقول للمصيب:
أصبت. وللمخطئ: أخطأت. وللصادق: صدقت. وللكاذب: كذبت.
وكان مستجمعًا للفضائل , عظيم التواضع , كثير الحياء , غض الأدب , أبي
النفس , عزيز الجانب , أريحيًّا لطيف المعشر ساعة الرضى , يقتبس منه الجليس
النادرة إثر الشاردة ولا يمله , بل يود لو أنه يصاحبه الدهر، يورد النكتة في حديثه
فيطرب لها السامع ولا يكاد ينساها.
وكان قوي الشكيمة , شديد الغضب , سريع الرضى , طاهر القلب , لا يفتر
لحظة عن التفكر في مستقبل الإسلام وأهله , وقد بالغ في ذلك حتى أدى به إلى
تعب الخاطر , ونحول الجسم. وكان مهيبًا وقورًا , ولا أتذكر أنني ملأت عيني
منه يومًا.
وكان بعيدًا عن التأنق في المأكل والملبس والاغترار بالمظهر الكاذب، وإن
رائيه - لولا ما عليه من نور النبوة - ليحسبه من سائر الناس لعدم اعتنائه بنفسه
ولكن لسان حاله يقول نحو ما قاله الإمام الشافعي نفسه:
علي ثياب لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو تباع بمثلها ... نفوس الورى كانت أعز وأكبرا
وقد خدم - رحمه الله - العلم والأدب خدمة قل من تسنى له مثلها، ومؤلفاته
الكثيرة في شتى الأبواب شاهد عدل على ما أقول. وإليك أسماءها:
***
مصنفات الفقيد
مرتبة على الحروف
(١) إتحاف الأمجاد في ما يصح به الاستشهاد. رسالة صغيرة فرغ من
تأليفها في ٢١ صفر سنة ١٣٠١ هـ) .
(٢) الأجوبة المرضية عن الأسئلة المنطقية: في (٤٢ صفحة) فرغ منه
في ١٣ صفر سنة ١٣٤٠ هـ.
(٣) أخبار بغداد. في ثلاثة أجزاء:
(الأولى) في (بيان حال بغداد) ومحالها وقصورها وقراها المجاورة لها
ووصف مبانيها وما آل إليه أمرها على سبيل الإجمال , ولم يستوعب الكلام على
ما جرى عليها في عنفوان شبابها وأيام هرمها وهو في نحو ١٥ كراسة.
(الثاني) في تراجم العلماء والأدباء الذين اشتهروا في القرن الثالث عشر
في بغداد. وقد سماه (المسك الأذفر) وهو في ٤٥٠ صفحة بقطع الربع.
(الثالث) في وصف مساجد بغداد وتاريخ بنائها إلخ في نحو ١٤٠ صفحة.
(٤) أخبار الوالد. جزء لطيف في ترجمة أبيه.
(٥) إزالة الظماء بما ورد في الماء. في نحو كراسة.
(٦) الأسرار الإلهية شرح القصيدة الرفاعية. طبع بمصر سنة ١٣٠٥ هـ
وهو من مؤلفاته في نشأته الأولى!
(٧) أمثال العوام في مدينة دار السلام. مجموع ما يدور على ألسنة العوام
من الأمثال المشهورة - نقل اللفظ العامي من غير تغيير وربما غيره إلى ما يقاربه
التعبير تحاشيًا عن بعض الألفاظ العجمية ... رتبه على حروف الهجاء، وهو في
نحو ٨٠ صفحة.
(٨) الآية الكبرى، على ضلال النبهاني رائيته الصغرى. كتاب جدلى في
نحو (٥٠ صفحة) فرغ من تأليفه سنة ١٣٣٠ هـ.
(٩) بدائع الإنشاء. في جزئين:
(١) مجموع رسائل والده في (..) صفحة.
(٢) مجموع مكاتباته أدباء العصر في (٣٤٠) صفحة.
(١٠) بلوغ الأرب في أحوال العرب. طبع في بغداد سنة ١٣١٨ هـ في
ثلاثة مجلدات , ويطبع اليوم في مصر مصححًا ومشروحًا بقلم كاتب السطور،
وكان قد نقل بعضه الشاعر البليغ عبد الحميد الشاوي الحميري إلى التركية وأسماه
(منتهى الطلب في ترجمة بلوغ الأرب) ونشر طرفًا منه في جريدة (الزوراء) .
(١١) بنان البيان. متن صغير في علم البيان.
(١٢) تاريخ نجد. طبعت مقدمته في إحدى المجلات البغدادية وفقد باقيه.
(١٣) تجريد السنان في الذب عن أبي حنيفة النعمان. رد على بعض غلاة
الشافعية في نحو مائتي صفحة بالقطع الكبير , وهو كتاب جليل يشتمل على مطالب
في الفقه مهمة , فرغ منه في أواخر شعبان سنة ١٣٠٦هـ.
(١٤) ترجمة رسالة للقوشجي. في ٧ كراسات ولم أره، ولعله فقد.
(١٥) الجواب عما استبهم من الأسئلة المتعلقة بحروف المعجم. جواب
عن أسئلة السيوطي السبعة التي لم يجب عنها أحد في زمانه فرغ منه في ١٥
رمضان سنة ١٣١٩ هـ وهو في ٤٠ صفحة.
(١٦) الجوهر الثمين، في بيان حقيقة التضمين. في ٥٠ صفحة.
(١٧) الدر اليتيم، في شمائل ذي الخلق العظيم. لم يتمه.
(١٨) الدلائل العقلية على ختم الرسالة المحمدية. في نحو ٤٠ صفحة فرغ
منه في ١٧ ذي القعدة سنة ١٣١٧هـ.
(١٩) رسالة في كيفية استخراج القياس. أظنها فقدت.
(٢٠) رياض الناظرين، في مراسلات المعاصرين. في نحو ٥٦٠ صفحة
(٢١) الروضة الغناء، شرح دعاء الثناء: هو باكورة مؤلفاته ألفه سنة
١٢٩٤هـ.
(٢٢) سعادة الدارين، في شرح حديث الثقلين. هو رسالة في الرد على
الرافضة باللغة الفارسية للشيخ عبد العزيز الملقب بغلام حليم ابن الشاه ولي الله
أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الفاروقي مصنف - حجة الله البالغة -، وقد
عربها المترجم , وضم إليها بعض الفوائد المتعلقة بهذا الحديث , ورتبها على
مقدمة ومقصد وخاتمة , فرغ منه في شهر رمضان سنة ١٣٣٦هـ وهو في ٤٠ صفحة.
(٢٣) السيوف المشرقة، مختصر الصواعق المحرقة، للشيخ محمد
الشهير بخواجه نصر الله الهندي. رد على الرافضة في ٣٠٠ صفحة بالقطع الكبير
فرغ منه سنة ١٣٠٣هـ.
(٢٤) شرح أرجوزة تأكيد الألوان. نشر في مجلة المجمع العلمي العربي
في دمشق (م١ ص٧٦) .
(٢٥) شرح خطبة المطول. لم أره.
(٢٦) شرح منظومة عمود النسب. في نحو ١٠٠٠ صفحة , وقد وصفناه
في مجلة المجمع العربي (م٣ ص ١٠٥) .
(٢٧) شرح القصيدة الشاوية. في نحو ٨٠ صفحة , والقصيدة للأديب
الكبير أحمد بك الشاوي الحميري - رحمه الله - في مدح الشارح.
(٢٨) شرح منظومة الشيخ حسن بن العطار في الوضع أحد الفنون العربية.
(٢٩) صب العذاب، على من سب الأصحاب. رد على أرجوزة لبعض
الرافضة من سكان كربلاء، في مائة صفحة وصفحتين. فرغ منه في ١١ جمادى
الأول سنة ١٣٠٤هـ.
(٣٠) الضرائر، فيما يسوغ للشاعر دون الناثر. كتاب جليل كنت قد
شرحته في أوائل ملازمتي له وعنيت بنشره , وطبع في المطبعة السلفية بمصر
سنة ١٣٤٠هـ.
(٣١) عقد الدرر شرح مختصر نخبة الفكر. في مصطلح الحديث والمتن
للشيخ عبد الوهاب بركات الشافعي الأحمدي.
(٣٢) عقوبات العرب في جاهليتها , وحدود المعاصي التي يرتكبها بعضهم.
رسالة لطيفة نشرتها في ممتاز جريدة العراق لعامها الخامس.
(٣٣) غاية الأماني، في الرد على النبهاني. كتاب إصلاحي جدلي في
سفرين كبيرين , رد بهما على ما جاء به الشيخ يوسف النبهاني من الآراء السخيفة
والنقول الواهية في جواز الاستغاثة والاستعانة بغير الله تعالى، وما تجاوز به دائرة
الأدب في سب كبار أئمة الدين كالإمام ابن تيمية والإمام ابن قيم الجوزية من
المتقدمين , والإمام السيد صديق حسن خان والمصلح السيد نعمان الألوسي وأبيه
أبي الثناء من المتأخرين إلخ , وقد طبع في مصر بمطبعة كردستان العلمية.
(٣٤) فتح المنان، تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان. كتاب
إصلاحي جدلي رد به على بعض متصوفة بغداد. طبع في الهند سنة ١٣٠٩ على
نفقة الأمير الشيخ قاسم بن محمد بن ثاني.
(٣٥) فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للإمام محمد بن عبد
الوهاب.
(٣٦) القول الأنفع، في الردع عن زيارة المدفع [١] . في كراسة ولم أره.
(٣٧) كتاب ما اشتمل عليه حروف المعجم، من الدقائق والحقائق والحكم.
في ١١٥ صفحة.
(٣٨) كتاب ما دل عليه القرآن، مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان.
في ١٠٠ صفحة , وقد فرغ من إملائه علي في ٦ شوال سنة ١٣٣٩هـ.
(٣٩) كشف الحجاب. عن الشهاب في الحكم والآداب للقضاعي لم أره
ولعله فقد.
(٤٠) كنز السعادة، في شرح كلمتي الشهادة. في ٥٤ صفحة , وقد فرغ
منه في ٦ ج ٢ سنة ١١٩٨هـ.
(٤١) لعب العرب. رسالة لطيفة (اقتطفها من لسان العرب) أثناء
مطالعته له عام ١٣٢٦هـ.
(٤٢) اللؤلؤ المنثور، وحلي الصدور. مجموع مكاتيب والده وجده في
نحو ١٧٠ صفحة.
(٤٣) مختصر الضرائر، فيما يسوغ للشاعر دون الناثر [٢] .
(٤٤) مختصر مسند الشهاب للقضاعي.
(٤٥) المسفر عن الميسر.
(٤٦) المفروض، في علم العروض. اقتطفه من لسان العرب أثناء
مطالعته له.
(٤٧) المنحة الإلهية تلخيص ترجمة التحفة الاثني عشرية. رد على
الرافضة , طبع في الهند في ٢٠٠ صفحة بقطع كبير.
(٤٨) منتهى العرفان والنقل والمحض، في ربط بعض الآي ببعض.
شرع فيه في أوائل الماضي فوافته المنية قبل إتمامه.
(٤٩) كتاب النحت. في ١٣ صفحة.
وله مجموعات ومؤلفات أخرى فقدت أثناء نفيه منها:
(٥٠) كتاب جليل في بيان سرقات اليازجي في مقاماته (مجمع البحرين) .
وقد وجدت منه بعض الأوراق، ولعلي أعثر عليه بجملته.
هذا ما أردت كتابته بإيجاز , وتفصيل ترجمته وأحواله وأطواره وآرائه وغير
ذلك في كتابنا (ذكرى الإمام الألوسي) الذي شرعنا في تأليفه.
بغداد ... ... ... ... ... محمد بهجت الأثري
(المنار)
نشكر للأستاذ الأثري عنايته بتتبع آثار الفقيد , وبيان فضله، وسنقفي على
ترجمته ببعض الفوائد في جزء آخر إن شاء الله تعالى.