حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب والرأي في مستقبل العرب والشرق (٢)
حقيقة حال الإنكليز قد بيَّنا في الفصل الأول من هذا المقال حقيقة حال اليهود: ما يعدُّ لهم وما يعد عليهم، ومنه ما هو خفي عن أكثر الناس. وأما الإنكليز فأمرهم مشهور عند قراء الصحف وغيرهم لكثرة خوضها في سياستهم وأعمالهم، ونقلها مناقشات برلمانهم فيها، ونقل أقوال صحفهم وصحف الأمم الأخرى في نقدها مدحًا وذمًّا، وإنما تخفى على الكثير منهم أخلاقهم وصفاتهم العامة، وما طرأ عليها من تغير، فنذكر ما يعنينا من ذلك. كان القوم مشهورين بالصدق والعدل والحزم والتدبير ومراعاة حرية الناس في أديانهم وآرائهم، وبالوفاء بالوعود والعهود في معاملاتهم الشخصية والدولية، كما اشتهروا بالدسائس والحيل والكيد والمكر، والعجب والكبر، والرياء والإفك [*] ، ولم يكن كل ما يقال في الشهرتين حقًّا ولا كله باطلاً؛ وإنما مرجع أكثر ما يوصفون به من فضيلة إلى أخلاق الأفراد ومزايا الشعب يفيض شعاعه على الحكومة، كما أن مردَّ أكثر ما يوصفون به من رذيلة إلى الحكومة، وقد يثور غباره في وجوه الشعب، وما كانت تمدح به حكومتهم وحدها، فمنه ما هو حق إلا أنه نسبي لا تام في الغالب، ومنه ما هو من تأثير الدعاية (البوربغنده) التي لم يتقنها أحد كإتقانهم، ولا تنفق في سبيلها دولة كإنفاقهم، وأعني بالنسبي أمرين (أحدهما) ما يكون من المقايسة بين الإنكليز وغيرهم من المستعمرين ولا شك أنهم أمثل وأعقل وأنبل (وثانيهما) ما يكون من التوازن بينهم وبين الحكومات الوطنية للبلاد التي يتولون أمرها بالأسماء المختلفة أو المختلَقَة التي يضعونها لها كغيرهم (كالحماية والاحتلال والإجارة والانتداب) وما غُلب أولو سلطان وإمارة على حكمهم وانتُزعت منهم بلادهم، إلا بظلمهم وإسرافهم في أمرهم، فهؤلاء القوم يتحرون أن يكونوا أقل منهم ظلمًا، وأمثل حكمًا، ولو لم يفعلوا إلا النظام في الظلم، والمساواة بين كبير الناس وصغيرهم في الحكم، لكفى ذلك مروِّجًا للدعاية لهم، والتنويه بفضلهم على غيرهم، على أنهم لا يساوون أنفسهم بغيرهم من أهل هذه البلاد، ولا يتنزهون عن محاباة صنائعهم وأعوانهم على تمكين نفوذهم فيها، ولا يتقون ظلم أي زعيم وإذلال أي عزيز يطالب باستقلالها، أو يأنسون منه خطرًا على حكمهم، أو اشمئزازًا من ظلمهم. وللإنكليز مزية أخرى على غيرهم من المستعمرين، ولا سيما اللاتين وهي - كما قال لنا الدكتور يعقوب صروف من دعاتهم وسماسرة سياستهم - أنهم يسمحون لأهل البلاد التي يسوسونها بشيء من ثروتها ومظاهر الحكم والجاه فيها يتمتعون به في ظلهم، من حيث يعترق الآخرون لحمها، وينتقون المخ من عظمها، ويستأثرون بالكبير والصغير من الحكم والنفوذ فيها، وقد قلدتهم دولة أخرى في نصب تماثيل للحكم في بعض مستعمراتها من أهلها؛ لكنها لم تدع لهم أدنى نصيب من مسمى الأسماء التي تفضلت عليهم بها، فكانت أضر على أهل بلادهم منها على أهل البلاد التي لم تنصب فيها شيئًا من هذه التماثيل. وأما فضيلة الإنكليز العليا فهي أنهم أدنى إلى مراعاة سنن الاجتماع، ومسايرة ما يتجدد فيه من الأطوار والأحوال؛ ولكن بعد طول الروية والاختبار، والتنازع بين طرفي التفريط والإفراط، كما يعلم من الفرق البيِّن بين إدارتهم في مصر والسودان، وفي الهند وزنجبار، بسبب اختلاف حال كل من القطرين الزوجين المتقابلين في العلم والجهل، والقرب والبعد من قوة الرأي العام، وكما ظهر أخيرًا من التفاوت في تصرفهم وسياستهم في القطرين العربيين المتجاورين، فلسطين وشرق الأردن من جهة والعراق من جهة أخرى بسبب التفاوت بين حاليهما في القوة والضعف، ففي العراق مئات من الألوف الشاكي السلاح، وألوف كثيرة من الضباط العلماء بفنون القتال، وقد أضرموا نار ثورة قُتل فيها عشرات الألوف من الرجال، وأُنفق فيها الملايين من المال، ومن ورائهم زعماء سياسيون يعرفون كيف يطالبون بالحرية والاستقلال، وقد قربوا منهما، ولن يرضوا بما دونهما. فأما أهل شرق الأردن فقد سيموا من الخسف والاستعباد، ما لا نظير له في بلد من البلاد، إذ باعهم أميرهم لملك الإنكليز بيعًا سياسيًّا بعقد معاهدة لا يطيق ذلها أحد، ولا يقيم على خسفها إلا عير الحي والوتد، فاكتفى أذكاهم فهمًا وأقواهم عزمًا باسترحام الأمير لتعديل بعض مواد العقد، وتخفيف وطأة ما فيه من أحكام الرق، وهم قادرون الآن على تمزيق ذلك الصك، ونبذ ما انتحله عاقده من حق المُلك، وهي قدرة لا تدوم لهم، إذا طال أمد هذا الحكم عليهم. وأما أهل فلسطين، فقد انحصر همهم في مقاومة الوطن القومي للصهيونيين، ومطالبة الإنكليز بنظام حكم نيابي يساوي بينهم وبين غرباء اليهود المعتدين، ونرى الإنكليز لا يسمعون لهم شكوى، ولا ينصفونهم في دعوى، بل يحابون اليهود وينصرونهم عليهم، ويمهدون لهم انتزاع رقبة أرضهم من أيديهم، والاستيلاء على مرافقها ومنافعها، والاستئثار معهم بمصالح حكومتها، وغرضهم الباطن من ذلك تفريق الوحدة العربية في قلب بلادها، وإيجاد أعداء للعرب من غير الإنكليز يشغلونهم بهم عن عداوتهم، ويعلِّقون أمل الفريقين ببقاء حكمهم عليهم. وأما سببه الظاهر فهو أن اليهود أقوى من العرب أهل البلاد مالاً واتحادًا ونفوذًا ماديًّا ومعنويًّا في إنكلترة وسائر أوربة وفي الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، لا الوفاء بما يسمى (وعد بلفور) والإبرام لعهده، فكم من وعد أخلفوه، وكم من عهد نكثوه؟ كوعودهم لمصر ومعاهدة السودان معها، ولقد وعدوا العرب بما عاهدوا عليه الملك حسينًا من قبل أن يَعِدوا اليهود، وكان وعدهم له باستقلال جميع البلاد العربية بحدودها الطبيعية الشاملة لجزيرة العرب والعراق وفلسطين وسورية ومنها كليكية صريحًا جليًّا مع استثناء لعدن وتحفظ في سواحل سورية الشمالية (لبنان) والبصرة، وأن للعرب لقوة في بلادهم أعظم من قوة اليهود؛ ولكنهم كانوا يجهلون قدرها وإقامة البرهان المقنع للإنكليز عليها، وهي قوة الوحدة فيما لهم من الكثرة، وسنبين قيمتها في الفصل الثالث من هذا المقال. فالإنكليز كغيرهم من أهل أوربة لا يعرفون حقًّا إلا للقوي، ولا يفون بوعد ولا عهد إلا للقوي، ولا يعدلون في حكم إلا مع المتساوين في القوة أو الضعف، فإن تنازع الأقوياء مع الضعفاء كانوا مع الأولين على الآخرين، بل أقول: إنهم لا يحترمون ولا يخافون ولا يرجون إلا القوة، ولا يستحيون من وصف الشرقيين عامة والعرب خاصة بهذه الصفة، ولعمري إنها عامة في البشر؛ ولكنها في الغربيين أقوى وأظهر، وأعم وأشمل، لاستحواذ الأفكار المادية عليهم، وانحلال عرى الملكات الأدبية من قلوبهم، حتى إن أحد كتاب فرنسة طعن في الجيوش المغربية الإسلامية التي استبسلت في الدفاع عن وطنه وقومه بأن الدافع لهم إلى ذلك حب الشهرة بالشجاعة والنجدة، لا الإخلاص لدولته في الطاعة والمحبة، فالأوربيون يحتقرون الشرقيين ويسخرون منهم، كلما رأوا أثرًا من آثار السلطة الأدبية في أعمالهم. ولقد شهد فيلسوف الإنكليز ومفخرهم، بل شيخ فلاسفة أوربة كلها في علوم الأخلاق والاجتماع بأن الأفكار المادية التي ظهرت أولاً في الشعب اللاتيني فأفسدت أخلاقه قد دب دبيبها إلى الشعب الإنكليزي، فطفقت تفتك بأخلاقه، فهي تعدو في سيرها فيه المرطى، وتنهزم من طريقها الفضيلة فترجع القهقرى، حرب ساحقة ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم، وقد وقعت هذه الحرب من بعده، وكان فتكها بأخلاق الشعوب وفضائلها، أضعاف فتكها بجحافل جيوشها وفصائلها، وصياصيها ومعاقلها، وأساطيلها الحربية والتجارية، بل سرت عدوى هذا الفساد إلى جميع الأمم في سائر البلاد. كان لكل من إنكلترة وفرنسة اسم سمي ومقام علي في العالم بما نبغ في بلادهما من العلماء والأدباء والشعراء والمخترعين والفنيين، وبما كانتا تبثان من الدعاية لأنفسهما في برقيات شركاتهما وصحفهما وكتبهما، وألسنة من يتربى ويتعلم في مدارسهما، وكذا ألسنة من يستميلون ويصطنعون في البلاد المختلفة وأقلامهم، وقد كان من الإفراط والغلو في هذه الدعاية في مدة الحرب على طولها ما أعقب رد الفعل على مدى أطول وسوء تأثير أعرض وأعمق. كانوا يذيعون في كل يوم أن الدولة الألمانية دولة عسكرية قاسية القلب، فظة الطبع، مسرفة في الطمع والجشع، والضراوة بسفك الدماء، والنهم بسلب الأموال، وأنها لا تبغي من هذه الحرب إلا استعباد البشر، والاستبداد في حكم الأمم. وأما هم فلا يبغون من قتالها إلا الدفاع عن أنفسهم وعن إخوانهم في الإنسانية، ووقايتهم من الخطر الذي يتهدد حريتهم، واستقلال جميع الشعوب كبيرها وصغيرها، قويها وضعيفها؛ لأن الحرية القومية كالحرية الشخصية حق طبيعي عام للبشر، فإن ظفروا كانت العاقبة سعادة جميع البشر، وإن خسروا حاق الشقاء بجميع البشر! ! وقد كان القدح المعلى في تعميم هذه الدعاية للدولة البريطانية، وكان ممن خدع بها دولة الولايات المتحدة، وكان أول مخدوع رئيس حكومتها الدكتور ولسن ذو النزعة الدينية، والعاطفة الإنسانية الأدبية، فانبرى لمساعدتهم؛ وإنما كان النصر الأخير لهم بمساعدته المادية، وبما وضعه للصلح من القواعد (الأربع عشرة) السياسية الأدبية، وكان أول من خُدع بهذه القواعد الاشتراكيون والعمال من الألمان ومنهم بحارة الأسطول، فأكرهوا دولتهم على طلب الصلح، حتى إذا ما قضي الأمر، قلب الحلفاء للرئيس ولسن ودولته ولجميع البشر ظهر المجن، وظهر من طمعهم وقسوتهم وضراوتهم وجشعهم ونهمهم أضعاف ما كان من قبل. أخلفوا الوعود، ونقضوا العهود، وكان جزاء العرب من الانضواء إليهم، والخروج معهم على دولتهم العثمانية طلبًا لاستقلالهم، أن عاملتهم إنكلترة وفرنسة شرًّا مما عاملت به جميع أعدائها من استعباد واستبداد، وسفك دماء وسلب أموال، حتى إنهم كانوا يدمرون القرية الآمنة المطمئنة من البلاد التي كانت تحارب دولتها تحت رايتهم على من فيها من رجال ونساء وأطفال لتهمة واهية لم تقرن ببحث ولا تحقيق، وحتى إنهم سلبوا من مملكة الحجاز سكة الحديد الإسلامية التي جعلها الشريف حسين تحت تصرفهم في الحرب، وكان جيشه يدمر بديناميتهم جسورها ويقلع حديدها في أرض الحجاز نفسها، معتقدًا أنها تبنى بأموال الإنكليز بعد الحرب وتكون له هي والبلاد المنشأة فيها! ! فلا غرو أن يزول كل ما كان لهاتين الدولتين من حرمة ومكانة أدبية في الشرق، وأن يعتقد شعوبه أنهم شر البشر على البشر، وأنه لا حرية ولا حرمة ولا حياة للإنسانية إلا بنقض غزلهم، ونكث فتلهم، بل بتقليص ظلهم الاستعماري من الوجود، وهذا ما أفادت الحرب شعوب الشرق في مقابلة ما خسروا بها. كان سبب نجاح الإنكليز في الاستعمار الذي استولوا به على ما يقرب من ربع البشر أنهم لم يكونوا يدخلون قطرًا إلا بدعوى قصد الخير له ولأهله: تارة لإنقاذ الشعب من ظلم أمرائه وحكامه، وتارة لحفظ عروش أولئك الأمراء من الثورات والفتن والفوضى، كما كان سبب نجاحهم في السياسة أنهم لم يكونوا ينقضون عهدًا أو يتفصون من عقاله إلا بضرب من التأويل يظهرون فيه أنهم على حق، كما قال أعظم ساسة أوربة في القرن التاسع عشر البرنس بسمارك وزير ألمانية ومؤسس وحدتها للسنيور كريسبي وزير إيطالية في حديث لهما في تسيير سياسة أوربة: وماذا نفعل بإنكلترة؟ قال كريسبي: نقيدها بمعاهدة، قال بسمارك: ولكن الإنكليز أبرع الناس في التفصي من عُقَل المعاهدات بالتأويل ... ونقول نحن: إنهم إنما يحتاجون إلى التأويل مع الدول القوية، وأما الشعوب الضعيفة كالعرب فلا يحتاجون معهم إلى تأويل، على أنهم سمُّوا استعباد البلاد العربية التي وعدوها الاستقلال: انتدابًا يراد به المساعدة على النهوض بأعباء الاستقلال بعد زمن غير طويل! ! لكن هذا الظلم والاستبداد الذي ابتدعوه في فلسطين شيء غريب في تاريخهم وتاريخ الاستعمار والاستعباد، لم يخلق مثله في البلاد، وهو لا يتفق في صورة من الصور ولا معنى من المعاني التي وضع لها لفظ الانتداب. هو خَلْق شعب جديد يُجتلب من أوشاب أوطان كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها إلى وطن شعب آخر لينزعه منه ويحل محله فيه، وتمكينه من ذلك بالظلم والمحاباة في هاتين السنتين، ولا سيما أثناء الثورة الفلسطينية ما عجب منه واستغربه جميع الناس في جميع أقطار الأرض. فلئن كان هذا من غرائب ظلم الإنكليز، فأغرب منه قدرة اليهود على توريطهم فيه، وإصرارهم عليه بعد ظهور فضيحتهم، وهتك سريرتهم، ولهذا يخاف اليهود أن لا يدوم هذا الإصرار، وأن يُكره الشعب الإنكليزي حكومته على إنصاف العرب والاعتراف بحقوقهم في يوم من الأيام، وهذا ما جرَّأهم على محاولة انتزاع هذا الوطن من العرب بالمناجزة، دون ما ألفوه هم والإنكليز من نيل مآربهم بالمطاولة، فأوقدوا نار الثورة الحاضرة، ظانين أنه يمكنهم إقناع الشعب البريطاني وسائر شعوب المدنية من وضع تبعته على العرب بالدعاية الكاذبة، فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وظهر للشعب الإنكليزي ولغيره ما لم يكونوا يعرفون، وكانت هذه الفتنة نصرًا من الله للعرب والمسلمين، إذ نبهت شعوبهما كلها إلى التعاون على حفظ حقوقهما الوطنية والدينية في فلسطين. وجملة القول في الإنكليز أنهم لا يزالون أقرب إلى العقل والفضيلة من غيرهم، وبذلك يمكن الاستعانة بشعبهم على حكومتهم، وقد كان اليهود أقدر من العرب على ذلك إلى أن أحبطت الثورة التي أثاروها عملهم، وعلَّمتْ العرب كيف يظهرون له حقهم، ثم وُجد في هذا الشعب مَن بحث حتى عرف حق العرب واعترف به في بعض جرائده الكبرى، وأخذ يقيم الحجج على ما للدولة من المصلحة في اتباعه، ثم على العرب دون غيرهم إقناعها بالقول والعمل، بما في مودتهم من النفع، وبما في عداوتهم من الضرر بل الخطر، وإنهم لفاعلون إن شاء الله تعالى. (٣) ماضي العرب وحضارتهم (١) العرب أعرق الأمم في التاريخ ذكرًا، وأرسخهم في الحضارة قدمًا، فقد ثبت عند المحققين من علماء التاريخ والآثار واللغات، الذين يستمدون علومهم من العاديات أن قدماء المصريين والكلدانيين والفينقيين كانوا من جزيرة العرب، وهم مؤسسو أقدم الحضارات، وأن شريعة حمواربي التي عثر عليها منقبو الآثار في العراق من الألمان عربية، وهي أقدم الشرائع التامة المدونة، وكان معاصرًا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم من أنباط العرب القحطانيين، وجد العرب العدنانيين، إخوة العبرانيين، فبنو إسرائيل فرع من الأرومة العربية السامية. ذلك أصل الحضارة القديمة التي استمد منها اليونان فالرومان مدنيتهم، وأما الحضارة الحديثة فواضعو أساس علومها وفنونها هم العرب العدنانيون في العهد الإسلامي، كما يشهد لهم بذلك الحكماء والمؤرخون المنصفون من علماء الإفرنج على ما بينهم وبين الدول الأوربية ودعاة الدين من التنازع والتخاصم. ولا ننكر أن العرب استمدوا من كُتب اليونان والفرس والهنود الذين كانت حضاراتهم قد درست وعفت رسومها ودُفنت كتبها في أرماس خزائن الملوك والبيوتات، فنبشوا تلك القبور، وأحيوا تلك الرمم، وصححوا واستدركوا، وزادوا واستنبطوا، وقرنوا العلم بالعمل، واستقلوا في ذلك حتى صار لهم فن مستقل خاص بهم، ووضعوا من العلوم ما لم يكن لغيرهم، وكان ذلك كله في وقت قريب خارق للعادة، فقد حقق حكيم الاجتماع الفرنسي الأكبر الدكتور (غوستاف لوبون) في كتابه (تطور الأمم) أن ملكة الفنون لا تحصل في الأمم إلا في ثلاثة أجيال: جيل المقلدين وجيل المخضرمين وجيل المستقلين، قال: وشذ العرب وحدهم فاستحكمت لهم ملكتها في جيل واحد صار لهم فيه فنون خاصة بهم، وفي كتابه (حضارة العرب) الذي صنَّفه قبل هذا الكتاب بعشرات السنين تفصيل لهذه الشهادة والدلائل عليها والرسوم الممثلة لها، وقد صرح فيه وفي غيره ولا يزال يصرح بأن العرب أساتذة أوربة في مدنيتها الحاضرة. أنبياء العرب وملوكهم (٢) قد كان في العرب أنبياء مرسلون، وكان فيهم ملوك استشاريون مقيدون، كملكة سبأ التي قالت لرجال الدولة {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل: ٣٢) وكان الدين هو المرشد الأول إلى الحضارة فيهم وفي جميع الأمم، وأكثر ما بقي من آثار فنون الأقدمين وصناعاتهم عليه الصبغة الدينية الباعثة عليه كأهرام مصر وبرابيها ونواويسها، وكذلك شرائعهم وآدابهم، وإنما كانت تغلب البدع الوثنية على عقائد الدين الصحيحة وأحكامه التي يجمعها الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ومن أهم أركان العمل الصالح العدل والصدق والأمانة، كما أن أعظم أركان الإيمان التوحيد، وفي آثارهم المنقوشة ومخلفاتهم الباقية ما يدل على جميع ذلك، وممن حفظ لنا القرآن ذكرهم من أنبياء العرب هود وصالح وشعيب حمو موسى الكليم مؤويه مدة فراره من فرعون، واختلف العلماء في نبوة تُبَّع، وذي القرنين أعظم ملوك الحضارة والفنون والسياحة في الأرض ولقمان الحكيم، وحسب العرب أن منهم محمدًا رسول الله وخاتم النبيين، وهو الذي أكمل الله به الدين، وأتم نعمته ورحمته على العالمين {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: ٨٥) . منهج الإسلام والعرب في إصلاح شأن البشر (٣) إن منهج الإسلام في رفع شأن البشر هو أن إصلاح الأنفس بالعقائد الصحيحة الداحضة للأوهام والخرافات، والأعمال الصالحة الصادة عن الفواحش والمنكرات، والأحكام العادلة المساوية بين الناس في الحقوق والمعاملات - مقدَّم على الترقي في العلوم والفنون والصناعات. وهذا المنهج هو الذي سار عليه العرب المسلمون في أنفسهم وفي غيرهم في أثناء الفتوحات، وقد شهد لهم به المؤرخ الصادق، والاجتماعي المنصف (غوستاف لوبون) بكلمة تشبه كلمات بلغائهم في إيجازها وسعة معانيها وهي قوله (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) ويؤيد هذه الشهادة العقل كالنقل، فإنه لولا فضائلهم - ورأسها العدل والرحمة - لما أمكنهم أن يثلوا عرش كسرى وقيصر في الشرق في أقصر مدة، وكانت حكوماتهما أرقى حكومات الأرض قوة وحضارة وثروة ونظامًا؛ وإنما ثل العرشين التليدين الراسخين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بسيوف الصحابة رضي الله عنهم في الربع الأول من القرن الأول للهجرة، ثم امتدت الفتوحات في الشرق والغرب، وقبل أن يتم القرن حاصروا الروم في القسطنطينية وفتحوا كاشغر من ممالك الصين ودخلوا أرضها من أقصى الشرق، وفتحوا أفريقية ومراكش والأندلس من أقصى الغرب، فلولا عدلهم وفضلهم، وتفضيل جميع الشعوب إياهم على حكامهم، لما أمكنهم ذلك مع البعد الشاسع عن وطنهم، ومهد سلطانهم في جزيرة العرب، بل كانت تلك الفضائل هي السبب في دخول الناس من جميع الشعوب في دين الله أفواجًا طائعين مختارين، وتبع ذلك تعلمهم اللغة العربية لغة هذا الدين وشريعته وناشريه بمحض الرغبة، لا بدعاية الجمعيات ولا بإلزام الحكومة أو نفوذها (كما يفعل الإفرنج في هذا العصر) . المانع من استيلاء العرب على العالم كله (٤) لقد كان مقتضى هذا الإصلاح الإسلامي العربي أن يعم الأرض ويملك أهله من العرب، سائر ممالك الشرق والغرب؛ ولكن حال دون ذلك تعارض المانع والمقتضي، أما المقتضي فقد عرَّفناه إجمالاً بما تقدم، وأما المانع الذي حال دونه فهو (على قاعدة تقابل العدم بالملكة) عدم الاستقامة على ذلك المنهج الإصلاحي الذي شرعه الإسلام وسار عليه الرسول وخلفاؤه الراشدون، وكان أول من سنَّ الخروج عنه معاوية بن أبي سفيان، ببغيه على أمير المؤمنين علي عليه السلام والرضوان، ثم بإكراهه الناس على بيعة ولده الفاسق يزيد، واحتكار السلطان لبني أمية، فهدم بذلك الحكم الإسلامي الشوروي المبني على أساس سلطة الأمة، وأقامه على الأساس الوراثي المبني على تغلب القوة، فما زالت القوة تعمل عملها حتى سلبتهم هذا المُلك المغصوب، وتغلغل نفوذ أعاجم الفرس في الدولة العباسية، ثم قضى عليها همج الشعوب التركية، فتفرقت السلطة، وتمزقت الوحدة، وزلزلت العدالة، وزالت الخلافة. من ثم قال أحد علماء الألمان المتعصبين لجنسيتهم أنه ينبغي لنا أن نقيم لمعاوية تمثالاً من الذهب في أعظم ساحة من عاصمتنا (برلين) وينبغي مثل ذلك لجميع شعوب أوربة، إذ لولاه لكانت هذه الشعوب كلها عربية تدين بالإسلام، وبين ذلك بنحو ما قلناه آنفًا؛ ولكن قال أحد أحرار فرنسة ما معناه: لقد كان من سوء حظ أمتنا أن كان أكثر الجيش الذي فتح به العرب القسم الجنوبي من بلادنا من بربر أفريقية الذين لم يتمكن الإصلاح الإسلامي من أنفسهم فكانوا ينقضون العهود ويعتدون على الكنائس وغيرها، حتى أثاروا العصبية والنخوة في أنفسنا، وراجت دعوة الاستنفار العام لقتالهم وإخراجهم من ديارنا، ولو كان أكثرهم من العرب الذين عرفنا سيرتهم العادلة في الشرق والأندلس لما وقع من ذلك العدوان شيء، ولما راجت الدعوة إلى قتالهم وإخراجهم، وإذًا لسبقنا أوربة في الحضارة بضعة قرون. إسقاط حرمة الخلافة وإضاعتها (٥) كان إسقاط حرمة الخلافة أولاً بقتل الخليفة الثالث، ثم بالخروج على الرابع، من مقدمات سقوط وحدة السلطة العربية التي انتهت بتعدد السلاطين ودول الطوائف، وكان اتساع دائرة الفتوحات في الشرق والغرب وصعوبة المواصلات مما يتعذر معه وحدة السلطة بدون خضوع ديني لمقام الخلافة يملك على النفس وجدانها وعملها، فيحول بذلك دون الخروج على الحكومة والاستبداد دونها، ولئن رتق بنو أمية ما فتقوا بتمكنهم من جمع الكلمة، وتوحيد السلطة، وتوجيه المسلمين إلى الجهاد في الكفار، وفتح الأمصار، وحمد لهم الجمهور هذا على كراهته لفسوق أكثرهم، فلقد كان رتقهم له بالعصبية مع الإسراف في الترف والتفريط في العلم والتقوى رتقًا واهيًا، ولمقام الخلافة منافيًا، ولذلك كان أمده قريبًا. قضى بنو العباس على بني أمية بقوة العصبية التي ابتدعوها، ثم قضوا بها على خلافة النبوة التي تقلدوها، واعتمدوا فيها على الأعاجم فكانت بذلك شرًّا مما قبلها، وإنما امتاز أوائلهم بالعلم، فبلغ الذروة في عهد المأمون، كما كان لهم مزيد حرمة عند الأمة بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكن شان عِلمَ المأمون نصرُه للبدعة، وما كان ينبغي للخليفة أن يتعدى حدود قطعيات الكتاب والسنة، ويضطهد حرية الاجتهاد في العلم والدين، بنصر فريق على فريق من الباحثين، فالملك يجب أن يكون - كما يقول ساسة هذا العصر - بمعزل عن المذاهب والأحزاب، ثم ما زال يضعف العلم ويتضاءل نفوذ النسب، وتتفرق قوى العرب، وتحل محلها عصبية العجم، حتى صار الخليفة شبحًا من أشباح اللعب، يُزين بالحرير والذهب، ويُستنطق بما لا يريد أو بما لا يفهم، ويوقع على ما لا يقرأ أو على ما لا يعلم، ويتحرك بتحريك البطانة والحاشية والحرس، وإنما يُعظَّم تعظيمًا صوريًّا، ويُمَكَّن من اللذات البدنية ما دام مواتيًا، فإن نبا أو أبى قتلوه ونصبوا شبحًا آخر مكانه، لا يرى وسيلة لاستدامة اللذة والفخفخة والزينة، إلا التجرد من الأمر والنهي والرأي والإرادة. سعي الفرس لإسقاط مُلك العرب (٦) بدأ زنادقة الفرس بالسعي لهدم مُلك العرب لاستعادة دولتهم الفارسية وملتهم المجوسية، من طريق الدسائس الدينية والسياسية، وإحياء العصبية الشعوبية، وتوسلوا إلى ذلك بتفريق الكلمة من طريق التشيع لأئمة البيت من آل علي وفاطمة عليهم السلام، فشعر بذلك آل العباس رضي الله عنهم فنجحوا باستمالة دعاية الثورة والقوة، وبقيت للعلويين دعايتا الألوهية والعصمة، وقد فطن الخليفة العباسي الأول لخطر زعامة الثورة وإدارة الحكومة، فاحتكروا موارد الأموال، واصطنعوا الرجال، وتم هذا الأمر للبرامكة منهم في عهد الرشيد أو كاد؛ ولكنه فطن لذلك فبطش بالبرامكة تلك البطشة الكبرى، بيد أن قوة الترك الجندية الوحشية، قد قدرت على ما عجزت عنه سياسة الفرس الدينية والأدبية، فإنما أثمرت دسائس شيعتهم الباطنية في إفريقية دون بلادهم وما يقرب منها، فكانت الدولة التي أسسوها بمصر- هي الفاطمية أو العبيدية - عربية محضة باقتضاء موقعها، ولم تستطع التغلب على الدولة العباسية بتعميم دعايتها، وأما الذين سلبوا ملك العرب وقوضوا هيكل حضارة العرب فهم الترك، وكان الجاني الأكبر في إدخالهم في الدولة والاعتماد على جندهم في حفظ سلطان الخلافة - هو المعتصم الجاهل بالسنة والناصر للبدعة، وأنى له أن يفهم مغزى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتركوا الترك ما تركوكم) أو يحذر ويتقي مضمون قوله صلى الله عليه وسلم: (أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) يعني الترك. سلب الترك لمُلك العرب (٧) مهد التتار السبيل لبني عمهم الترك باجتياح سلطنة الخلافة العباسية العربية بالتقتيل والتدمير والتتبير، وكان الفرس قد سبقوا إلى إضعافها بالتفريق والتدبير، أفرطوا في تقديس الخلفاء العباسيين وتفخيمهم بالألقاب والزينة والاحتفالات الرسمية؛ ولكنهم فرَّطوا في طاعتهم، وأزالوا ما كان من حصر وحدة الرياسة فيهم، ففرَّقوا السلطة، واستبدوا بالدولة، وغلبوا الخليفة على أمره، وافتاتوا عليه في حكمه، حتى تجرأوا على قتله، فوهت قوة الوحدة، وكثر السلاطين في الدولة، ووقف سير العلم والحضارة؛ لأن العلم كان عربيًّا وكان المرشد إليه القرآن العربي، وكان العرب هم الذين أحيوا منه ما أماته الزمان، وجددوا ما أخلقته صروف الحدثان، وجاراهم فيه مواليهم وتلاميذهم من الفرس والسُّريان، وكانت الحضارة عربية بالتبع للعلوم والفنون العربية، وكان الترك أبعد شعوب البشر عن العلم والحضارة؛ وإنما عندهم من آلة المُلك: الحرب والعصبية، فكانت دولتهم دولة حرب وفتح، لا دولة علم وفن. وكان أكبر سيئات الترك العثمانيين إيثار لغتهم الهمجية، على اللغة العربية، لغة الدين والعلم والأدب والحضارة، وتحريهم إضعاف الأمة العربية واستذلالها لئلا يعود إليها حقها في الخلافة الإسلامية وحكم المسلمين؛ فإن الله تعالى بعث رسوله محمدًا خاتم النبيين في الأمة العربية، وأنزل عليه كتابه المعجز للبشر باللغة العربية، فجعل هدايته لهم عربية وحكمهم به عربيًّا فقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: ٣٧) ولذلك انتهت عداوة دولتهم للغته بعداوتها له، وهؤلاء خلفاؤهم الكماليون يعدون التكلم بالعربية والتعلم للعربية وكتابه التركية نفسها بالحروف العربية من أكبر الجرائم السياسية التي يعاقب قانونهم مجترحها، فلا غرو أن يقول رسول الله النبي العربي فيما يعد من دلائل نبوته بخبر الغيب (أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) وهو يدل بالإشارة أو فحوى العبارة إن لم يكن بنصها على أن سالبي ملك أمته لا يعدون منها، وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن المراد هنا بالأمة أمة الجنس لا أمة الدين. ونحن لا نطعن في إسلام الشعب التركي نفسه؛ وإنما نطعن في جهل دولته وعصبيتها، التي انتهت بضعف دينها ودنياها، ثم بما يشكو منه كل مسلم منهم ومن غيرهم من نبذ خلفها لكتاب الله وشرعه ظهريًّا. استقلال العرب وحالهم بعد الحرب (٨) تغلب الترك العثمانيون على الدولة العباسية في الشرق، وخذلوا الدولة الأموية في الغرب (إذ استنصرت بهم على الأسبانيين فلم تنصرهم) واستولوا على مهد الحضارة العربية في العراق وسورية ومصر، فأضعفوا الحضارة والعلم في هذه البلاد؛ ولكنهم لم يستطعيوا إماتة اللغة العربية فيها، ولا الإدالة للغة التركية منها، ودان لهم أمراء الحجاز؛ ولكنهم ظلوا أصحاب السيادة والنفوذ فيه وحاولوا بعد ذلك كله قهر عرب الجزيرة وإخضاعهم لحكمهم فظلوا يقاتلونهم عليها أربعة قرون ونيف، فنقصوها من أطرافها، واستولوا على ثغورهم البحرية؛ ولكنهم عجزوا عن قهر أئمة اليمن وأمراء نجد وإخضاعهم لحكمهم، فالعرب الصرحاء الخُلَّص ظلوا في عقر جزيرتهم مستقلين في حكم أنفسهم، لم يقهرهم الترك عليها، بل ظلوا يدافعونهم عنها وينتصرون عليهم فيها، حتى إذا مزقت الحرب الأخيرة سلطنتهم الواسعة، ظهرت جزيرة العرب في الوجود مستقلة تامة الاستقلال سالمة من كل نفوذ أو امتياز للدول الأجنبية فيها، إلا ثغر عدن الذي اغتصبته الدولة البريطانية في القرن الماضي والمقاطعات التسع اليمنية التي تدَّعي حمايتها ولا تتدخل في أمر حكوماتها، وإلا ما كان وهبه الملك علي بن حسين من أرض مملكة الحجاز لإمارة شرق الأردن، وهو ثغر العقبة المنيع على البحر الأحمر والمنطقة الممتدة منه إلى معان أهم المحطات لسكة الحديد الحجازية، فكل من هذا وذاك موضع نزاع بين الإنكليز والدولتين العربيتين المستقلتين في جزيرة العرب: مملكة اليمن الإمامية ومملكة الحجاز ونجد الملكية، وقد اعترفت الدولة البريطانية بالاستقلال التام المطلق لهذه الدولة دون تلك، وعقدت معها معاهدة على قاعدة المساواة؛ ولكن بقيت منطقة العقبة ومعان موقوفة لتحل عقدتها بالمفاوضة السياسية، وأما الاعتراف باستقلال اليمن فقد تعددت فيه المراسلات والمفاوضات بين الدولتين البريطانية واليمانية، ولابد أن تنتهي قريبًا برجوع الأولى عن كل حق تدعيه فيما عدا منطقة عدن، فإنه يستحيل تركها إياها لليمن. حال الممالك العربية اليوم (٩) ذلك شأن مهد الأمة العربية ومنبت أرومتها، ومعقل قوتها، لم يغلبها عليه كله أحد، فهي لا تزال فيه عزيزة النفس، قوية البأس، مرفوعة الرأس، وأما ما يتصل به من مواطن حضارتها وعمرانها، وعواصم خلافتها أو سلطانها، وهي مصر وسورية والعراق فقد احتل أكثره الإنكليز وبعضه الفرنسيس قبل الحرب وبعدها، وجعلوا حكوماتها العربية تحت سيطرتهم العسكرية بدعوى مساعدتها على إصلاح شؤونها إلى أن تقوى على النهوض بأعباء استقلالها المعترف لها به بنفسها، ولا تزال هذه الشعوب العربية تنازع هاتين الدولتين في دعواهما ما تسميانه حق الاحتلال والانتداب، ولابد من وصولهما إلى حقهما في الاستقلال المطلق في يوم من الأيام. (ولا ننسى الممالك العربية الإفريقية الأربع فهي لابد من استقلالها أيضًا؛ فإن استعباد الأمم الكبيرة بالقهر العسكري لن يدوم إذا هي عرفت نفسها وحال العالم وسنن الاجتماع فيه؛ ولكن كلامنا الآن ليس فيها) .
استحالة ظهور اليهود على العرب (١٠) عُلم مما تقدم أن الأمة العربية أقوى وأعز وأفضل من الشعب اليهودي ماضيًا وحالاً، وأرجى منه استقبالاً، فهي لا تزال ذات مُلك وسلطان، وممالك وأوطان، ولغة حية، وشرع نافذ وعادل، فإن كانت ثروة اليهود النقدية أكبر؛ فإن ثروة العرب الطبيعية أعظم، ألا وهي ثروة الأرض التي هي أصل كل ثروة بأقواتها ومعادنها، وهم يملكون عشرات الألوف والأميال منها، وإن كان اليهود أقدر على تسخير القوة البريطانية بدهائهم ومكرهم وأموالهم، فالعرب أقدر على إبطال كيدهم هذا بكثرتهم، إذا هم جمعوا كلمتهم، وبنفوذهم في العالم الإسلامي الذي يعطف عليهم لأنهم قوم نبيهم، وأرومة دينهم، وحفظة قبلتهم، وعُمَّار مساجدهم الثلاثة المقدسة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فإن لم يقدروا على ذلك بالإقناع البرهاني الذي يفضلونه، فسيقدرون عليه بالدفاع الحربي الذي لا يخافونه، وقد علم زعماء الأمتين، أن ما بذلتاه من الدماء والأموال في سبيل الدفاع عن الدولتين، لو بذلتاه في سبيل حريتهما واستقلالهما، لكان كافيًا لهما، وأن تلك الملايين من رجالهم التي سخرتها الدولتان لأنفسهما في الحرب ما كان يمكنهما تسخيرها بالقوة، وأنها لو ثارت عليهما في وقت ضعفهما لما فقدت في قتالهما عُشْر ما فقدته في قتال أعدائهما، وإذًا لخسرتا الحرب وفاز بها أعداؤهما. وقد رأوا بأعينهم، وخبروا بأنفسهم، ما كان من تأثير الثورة المصرية الصغيرة العزلاء على بريطانية العظمى بعد الحرب الظافرة هي فيها على حين كان جيشها من جميع الأسلحة يموج في أرض مصر، كما تموج أساطيلها في كل بحر، وعلموا أنه لولاها لم ترفع تلك الحماية التي ضُربت عليها، ولم يعترف لهم بالاستقلال المقيد فيها، ثم رأوا ثورة العراق التي فتحتها الدولة البريطانية فتحًا، وأخذنها عنوة لا صلحًا، وجعلتها تابعة للإمبراطورية الهندية، وكيف كانت سببًا لتأسيس حكومة وطنية فيها كما تقدم قريبًا، ثم رأوا الثورة السورية، وما أبلت في القوى الفرنسية، على قلة الموقدين لنارها، وقلة ما أتيح من الوقود لها، وكونها كانت في دائرة ضعيفة من البلاد لم تتعد النار إلى غيرها. فهل تظن هذه الطغمة من اليهود الصهيونيين أنهم ينتزعون من قلب هذه الأمة العزيزة قطرًا من أشرف أقطارها وأعزها، بعد أن استيقظت من رقدتها، وشعرت بقيمة نفسها، وهبت لاستعادة وحدتها، على اختلاف مواطنها وعقائدها وتربيتها؟ وما كان ضعفها الماضي إلا بتفرقها وجهلها بقوتها ومكانتها، ومتى كان الغنى والثراء، والمكر والدهاء، والكيد والرياء، من الضعفاء الجبناء، يطرد الأمم القوية من أوطانها، ويغلبها على ملكها وسلطانها، والحق لها، والسيف بيدها؟ وهم إنما يعتمدون على قوة غيرهم، ولن يدوم لهم تسخيرهم، وعلى تفرق خصومهم وقد زال، ولم يبق لاتحادهم إلا النظام وهو إن شاء الله قريب المنال.
تأثير ثورة فلسطين في العرب والمسلمين (١١) لقد كانت الثورة التي أوقد اليهود الصهيونيون نارها في فلسطين بعد تلك الثورات الموضعية على أقوى دول الأرض، وبعد تلك اليقظة الشرقية العامة التي أحدثتها الحرب، وبعد خيبة آمال بعض الشعوب الشرقية، التي كانت مخدوعة ببعض الدول الغربية - آخر صيحة داعية إلى وحدة الشعوب العربية، وتعاطف الشعوب الإسلامية، فقد اضطرب لها المسلمون والنصارى جميعًا في سورية ولبنان والعراق والحجاز ونجد واليمن ومصر وتونس والجزائر ومراكش، واهتز لها المهاجرون من العرب في العالم الجديد من الشمال إلى الجنوب، وظهر أثر ذلك جليًّا قويًّا في جرائد هذه البلاد وجماعاتها بالاحتجاج والانتصار وجمع الإعانات، وهي أول حركة عربية سياسية أظهر العطفَ عليها ملوكُ العرب المستقلون، فقد أرسل صاحب الجلالة السعودية عدة كتب وبرقيات في إظهار عطفه وعطف أهل مملكته النجدية والحجازية على عرب فلسطين - على بعده واشتغاله بقمع ثورة داخلية في نجد - منها ما هو باسم سماحة زعيمها السيد أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين، ومنها ما هو للجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر (وسننشر ذلك) ومنها ما هو لصاحب الجلالة البريطانية ملك الإنكليز، وقد تبرع لمنكوبي العربَ في هذه الثورة بخمسمائة جنيه، وتبرع نجله ونائبه في الحجاز بمائة جنيه، وأُلفت بأمره لجنة لجمع الإعانات بمكة جمعت مبلغًا يعد كبيرًا من أهل الحجاز، وتبرع صاحب الجلالة اليمانية الإمام يحيى حميد الدين بثلاثمائة جنيه، وشارك العرب في هذا الشعور والعطف على أهل فلسطين مسلمو الأعاجم، ولا سيما في الهند وجاوة بالاحتجاج والإعانات، بل شارك الهندوس مسلمي الهند في عطفهم هذا، وتمنى الجميع لو يرسلون جيشًا منهم إلى فلسطين لحماية المسجد الأقصى وأهله من عدوان اليهود. بل هذه أول مرة صرَّح فيها شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية في مصر بالعطف على المسلمين في أثناء ثورة سياسية بينهم وبين شعب أجنبي تؤيده الدولة البريطانية، بعد أن أجرَّت السلطة المصرية ألسنة علماء الأزهر وألجمتهم، وحرَّمت عليهم ما هو مباح لجميع المصريين من إبداء رأيهم في الأمور السياسية، وقد كانوا من قبل أصحاب الرأي الأعلى والقدح المعلى في جميع المصالح الإسلامية والوطنية، حتى إنهم هم الذين ولَّوا محمد علي باشا على مصر. ومما يصح أن يذكر بالإعجاب أن صوت الأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية قد ارتفع في هذه المسألة في وقت خرست فيه ألسنة جميع أمراء مصر وكبرائها الأحرار حتى غير المقيدين بسياسية الحكومة ومشربها، لا الوزراء والرؤساء الرسميين وحدهم، وهو من كبارهم، فهذا فتح جديد في النهضة العربية واليقظة الإسلامية معًا (وسننشر كلامه) . وقد كنت اقترحت على سلفة المرحوم الشيخ أبي الفضل الجيزاوي في أول العهد بظهور الطمع الصهيوني في المسجد الأقصى، والعثور على صورة لقُبة الصخرة يعلوها العلم الصهيوني - أن يكتب فتوى على سؤال في ذلك تتضمن ما يجب على المسلمين من استنكار ذلك، ووجوب حماية المسجد الأقصى عليهم ... فاعتذر رحمه الله فألححت عليه وأكثرت من اللوم حتى غضب، فقال: يا سيد رشيد أتظن أنه ما بقي أحد يغار على الإسلام غيرك؟ والله إننا نغار مثلك؛ ولكنك أنت مطلق ونحن مقيدون، وأنت تعلم أننا ممنوعون من كل شيء يتعلق بالسياسية ! مستقبل العرب مع الإنكليز (١٢) إننا نرجو أن يحيط الشعب الإنكليزي العاقل بما ذكرنا وذكر غيرنا من الحقائق، فنجد منه عونًا على حكومته بتغيير سياسته مع الأمة العربية، والجلاء عما تحتله من بلادها الحجازية واليمنية وغيرها، والاتفاق مع حكوماتها على ما يضمن له مصالحه الاقتصادية ونفوذه الأدبي في جميع بلادها، فوالله لو أن في الشعب الفرنسي من الروية والتدبير مثل ما في الشعب الإنكليزي لأمكنه إكراه دولته على تأليف دولة سورية واحدة تقضي على نفوذ الدولة البريطانية في الأمة العربية كلها، ثم في سائر الشعوب الشرقية المتصلة بها. كان من آفات الظفر في هذه الحرب أن الغرور قد استحوذ على عقول الظافرين، وإن كان ظفرهم بقوة غيرهم لا بقوتهم، فلولا الولايات المتحدة لاستولت ألمانية على جميع ممالكهم، وكان من آفات هذا الغرور أن الدولة البريطانية ظنت أن قوة السلاح خير لها من قوى التدبير والعقل والإصلاح، وأنها قد ورثت جميع السلطنة (الإمبراطورية) العثمانية باحتلال القسطنطينية، وأنها ستملك بلاد إيران والأفغان بالأساطيل الجوية، كما رسخ قدمها في مصر وسائر البلاد العربية، وأنه قد تم ما كانت تحلم به من امتداد إمبراطوريتها من حدود برقة إلي حدود الصين من الغرب إلى الشرق، ومن الإسكندرية إلى الكاب من الشمال إلى الجنوب، فبدا لها من جميع هذه البلاد ما لم تكن تحتسب، بل بدا لها من الهند ينبوع ثروتها الثرور، وسوق تجارتها التي لا تبور، ما لم يكن يخطر لها ولا لغيرها ببال، إذ هب مئات الملايين فيها يطلبون الاستقلال، وينذرون الدولة قرب الزوال، وطفق الباحثون من علمائها يبحثون في هِرمها، ويقدرون ما بقي من عمرها، على قاعدة قول الشاعر: إذا تم شيء بدا نقصه ... ترقب زوالاً إذا قيل تم ولكن هذا كله قد كبح جماح ذلك الغرور، وتغلب حزب العمال المعتدل على حزب المحافظين المغرور، وجنح حزب الأحرار إلى العمال، فمن ثم قويت الآمال بمراعاة هذه الدولة العظيمة لمقتضى الحال، وطول بقائها في أوربة كلسان الميزان. بشارات أنبياء اليهود في المسيح والمُلك (١٣) اليهود الماديون واللادينيون يتكلون على إنكلترة في إعادة ملك سليمان وهيكله إليهم كما تقدم؛ ولكن دين الإنكليز وشرفهم ومصالحهم المرتبطة بأربعمائة مليون من المسلمين ومن العرب غير المسلمين أيضًا تأبى عليهم ذلك، على تقدير قدرتهم عليه. واليهود المتدينون يعتمدون على بشارات أنبيائهم، وهذه البشارات مبهمة ومشروطة باتباعهم لوصايا التوراة كلها، وقد تركوا هذا عندما كان ممكنًا، وقد أصبح غير ممكن، ثم إنه مقيد بمجيء المسيح وجريان ذلك على يديه، وقد جاء المسيح الحق عليه السلام فكفر أكثرهم به، فأيد الله تعالى من آمن به على من كفر كما قال عز وجل في آخر سورة الصف {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: ١٤) وقد كتبنا مقالاً طويلاً في بيان تلك البشارات وما كان من قيودها وشروطها وما تقتضيه من حرمانهم من أرض الميعاد والمُلك إلى الأبد، سننشرها في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. أنباء خاتم النبيين في أمر اليهود مع المسلمين (١٤) إن عندنا معشر المسلمين بشارات من خاتم النبيين وواسطة المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم أوضح وأفصح وأصرح من بشارات أنبياء اليهود، كأخبار المسيح الدجال الذي يظهر فيهم، فيتعصبون له ويقاتلون المسلمين والنصارى في فلسطين وغيرها، فيُخذلون ويغلبون على أمرهم، ومنها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقاتلكم اليهود فتُسلَّطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله) وله روايات أبسط من هذه الرواية، فاحذروا أيها الصهيونيون المتهورون أن تعجِّلوا بفتح باب البلاء على أنفسكم، بل احذروا وقد فتحتموه أن تصروا عليه، وأرجئوه إلي مجيء مسيحكم، فإنا له مرجئون، وانتظروا فإنا منتظرون.