للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دلائل الإعجاز
اللغة وقوانين اللفظ والنظم
اللغة مَلَكَة لسانية، والملكات إنما تكون بمزاولة العمل، فمن زاول كلام قوم
زمنًا طويلاً تصير لغتهم ملكة له ينطق بها بغير تكلف. والملكات تتفاوت في أفراد
من تكون لهم، فمنهم من يكون أملك بالشيء خلقًا وأملأ به يدًا فيكون العمل به كما
تمتطي الريض الذلول، ومنهم من لا يملكه إلا كما يملك الخادم البليد، يريده على
شيء فيذهب في غير ما يريد، وتسمى ملكة اللغة في الأول فصاحة وبلاغة، وفي
الثاني عيًا وفهاهة.
ثم إن كل شيء يتفق فيه كثيرون كاللغة لا بد أن يكون منضبطًا في نفسه بطرق
معروفة لهم بالسليقة المكتسبة بالمزاولة إذ لو ذهب كل واحد مذهبًا في القول لا يتفق
مع مذاهب الآخرين لما تيسر التفاهم بالتخاطب، وما كان كذلك يسهل أن توضع له
قواعد وقوانين تعرف بها تلك الطرق السليقية بوجه كلي يعين على فهم الجزئيات
ومعرفة ما عساه يطرأ على ذلك الشيء مما ليس منه في خصائصه التي امتاز بها.
ولكن ما ينضبط به الشيء في نفسه لا يشمل في العادة العامة جميع جزئيات ذلك
الشيء إلا إذا تواطأ قوم محصورون على وضع قوانين كلية وأخذ الجزئيات منها
بالاتفاق بينهم ولم يكن وضع اللغة كذلك، ولهذا كانت القوانين التي وضعوها للعربية
شاملة لأكثر الكلام العربي في أوزان مفرداته وضوابط نَظْمه غير محيطة بذلك تمام
الإحاطة.
بدأ واضعو هذه القوانين بوضع الضوابط العامة التي يشترك فيها جميع أهل
اللغة وهي قواعد أبنية الألفاظ المفردة وقواعد التركيب التي يتأدَّى بها المعنى
المقصود من التكلم وسموا ذلك علم النحو ثم قسموا هذا العلم إلى قسمين، سموا
الآخر منهما الصرف. لما فتحت العرب الممالك الأعجمية ودخل أهلها في دينهم
وحكمهم استعرب العجمي واستعجم العربي وصار هؤلاء الأعاجم المستعربون
والعرب المستعجمون يتعلمون اللغة العربية بمعونة قواعد النحو والصرف وهي -
كما قلنا - موضوعة لما يشترك فيه الجماهير وغير محيطة بما كان ينفرد به بعض
أهل اللغة فضعف الناطقون والكاتبون بالعربية عن الترقي في ملكتها إلى الدرجة
العالية مما به التفاوت وهي مرتبة الفصاحة والبلاغة واحتاجوا إلى قوانين أخرى
ترشدهم إلى المعراج الذي يظهرون عليه إلى تلك المرتبة فكان أول مَن عُني بوضع
هذه القوانين إمام اللغة في القرن الخامس للهجرة الشيخ عبد القاهر الجرجاني في
كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز - الأول في فن البيان والثاني في فن المعاني-
وقد كان اسم البيان عامًا لكل ما يُبحث فيه عن البلاغة ثم إنهم من بعد الشيخ عبد
القاهر قسموه إلى قسمين خصوا أحدهما باسم البيان وأطلقوا على الآخر اسم
(المعاني) أخذًا من قول عبد القاهر إن مسائله هي معاني النحو.
قوانين النحو تفيدنا معرفة التراكيب الصحيحة في العربية وكيفية أدائها على
وجهها ولكنها لا تفيد متى يرجح استعمال أحد التركيبين اللذين يفيدان معنى واحدًا
على الآخر نحو (قام زيد) و (زيد قام) و (عمر المنطلق) , و (المنطلق
عمر) والذي يعرفنا موضع كل واحدة من هذه الجمل هو علم المعاني المنتزعة
قوانينه من تتبع أساليب البلغاء وملاحظة الأحوال المختلفة التي يتغير التعبير في
كلامهم بحسبها ولذلك قالوا: إن البلاغة هي موافقة الكلام لمقتضى الحال. ولكن هذه
الأحوال لا تنضبط؛ لأنها تختلف باختلاف معارف المخاطبين بموضوع الخطاب
وأذواقهم ومقاماتهم ولذلك كان الطريق الموصل إلى تحصيل ملكة البلاغة هو كثرة
مزاولة الكلام البليغ لتحصيل ذوق البلاغة؛ لأن القوانين التي وُضعت للمعاني أقل
غَنَاءً من القوانين التي وضعت للنحو وقد علمت أن قوانين النحو غير محيطة،
وكتابا عبد القاهر أبين للقوانين وأعون على ذوق الأساليب.
ونذكر هنا عبارة كتبناها في خاتمة طبع كتاب (دلائل الإعجاز) الذي تم
طبعه في هذا الشهر بينا فيها مكانته من كتب هذا الفن وهي:
أما الكتاب فيعرف مكانته من يعرف معنى البلاغة وسر تسمية هذا الفن
بالمعاني وأما من يجهل هذا السر ويحسب أن البلاغة صناعة لفظية محضة قوامها
انتقاء الألفاظ الرقيقة، أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالج بهذا الكتاب
فإن اهتدى به إلى كون البلاغة ملكة روحية، وأريحية نفسية، رُجي أن يبرأ من
علته، ويقف على مكانة الكتاب ورتبته، وإن بقي على ضلاله القديم، وجهله
المقيم، فَأَحْكِمْ بإعضال دائه، وتعذر شفائه.
إنما وضع الكلام لإفادة المعاني، والبلاغة فيه هي أن تبلغ به ما تريد من
نفس المخاطب من إقناع وترغيب وترهيب وتشويق وتعجيب أو إدخال سرور أو
حزن وغير ذلك. وكل هذه المقاصد أمور روحانية يتوصل إليها بالكلام. فمعرفة
قوانين النحو والمعاني والبيان شرط فيها، ولكنها غير كافية للوصول إليها، بل لا
بد من الهداية إلى أسباب كون الكلام مؤثرًا وإيراد الشواهد والأمثلة الكثيرة في
المعنى الواحد والموازنة بين الكلامين يتفقان في المعنى ويختلفان في التأثير كقول
المعبِّر الأول لذلك الملك الذي رأى في نومه أنه فقد جميع أسنانه: إن جميع أهلك
وذوي قُرباك يهلكون، وقوله المعبر الثاني له: الملك يكون أطول أهله عمرًا،
وهذا المذهب هو الذي ذهب إليه الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز)
و (أسرار البلاغة) وقد خلف من بعده خلف جعلوا البلاغة صناعة لفظية محضة،
فقالوا: المسند يعرف لكذا وكذا وينكر لكذا وكذا.. إلخ، ولم يبينوا السر في ذلك ولم
يوازنوا بين مسند منكر عرفته البلاغة وآخر أنكرته وهو مثله ويُبيِّنوا السبب في
ذلك ولم يعنوا بإيراد الشواهد والأمثلة والبحث في الفروق. وقد اختار أهل هذه
الأزمنة الأخيرة هذه الكتب المجدبة القاحلة على مثل كتب عبد القاهر الخصبة
الحافلة لكثرة الحدود والرسوم والقواعد والمشاغبات في كتب المتأخرين فكان أثرها
فيهم أن حُرموا من البلاغة والفصاحة حتى إن أعلمهم بهذه الكتب وأكثرهم اشتغالاً
بها هو أعياهم وأعجزهم عن الإتيان بالكلام البليغ (بل والصحيح) قولاً وكتابةً.
ولا غرو فقد قال أحد كبار مؤلفي هذه الكتب المشهورة إن بعض فحول هذا الفن
(البلاغة) ليسوا بلغاء، ففصل بين البلاغة وعلمها وجعله غير مؤدٍّ إليها فلم يبقَ إلا
أنه ابتدع ليتعبد به. ولولا أن قيَّض الله تعالى للعربية في هذا العصر أبلغ البلغاء
وأفصح الفصحاء الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فطفق يحيي كتب السلف النافعة
وعلومها لكنا في يأس من حياة هذه اللغة الشريفة بعد ما قضى عليها حفَظتها وأساتها.
فنسأل الله تعالى أن يمد في أيامه. ويكثر من أنصاره وأعوانه. آمين.اهـ.
وقد صدر الكتاب بورق جيد، وثمن النسخة ٢٠ قرشًا صحيحًا، وأجرة البريد
قرشان، وهو يطلب من إدارة مجلة المنار بمصر.