جور العمال ذكر المؤلف تحت هذا العنوان أنواعًا من الجور والشدة الصادرة من عمال بني أمية ونحن نذكر بعضًا منها مع كشف الحقيقة. قال يذكر جور العمال: (وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقتطع الجابي منها طائفة ويقول: هذا رواجها وصرفها) (الجزء الثاني صفحة ٢٢ واستند في الهامش إلى كتاب الخراج لأبي يوسف صفحة ٦٢) . أيها الفاضل المؤلف! أليس لك وازع من نفسك؟ أليس لك رادع من ديانتك؟ أتجترئ على مثل هذا الكذب الظاهر؟ والمين الفاحش جهرة؟ فإن القاضي أبا يوسف ما تكلم في شأن عمال بني أمية ببنت شفة وإنما ذكر عن عمال هارون الرشيد وإساءتهم العمل في جباية الخراج وكتاب الخراج لأبي يوسف بين أيدينا وقد طبع في مصر وتداولته الأيدي وتناقلته الألسن. قال المؤلف: (وفي كلام القاضي أبي يوسف في عروض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج ما يبين الطرق التي كان أولئك الصغار يجمعون الأموال بها قال:) بلغني أنه قد يكون في حاشية العامل أو الوالي جماعة منهم من له به حرمة، ومنهم من له إليه وسيلة ليسوا بأبرار ولا صالحين يستعين بهم ويوجههم في أعماله، يقضي بذلك الذمامات فليس يحفظون ما يُوكَلون بحفظه ولا ينصفون من يعاملونه إنما مذهبهم أخذ شيء من الخراج كان أو من أموال الرعية ثم إنهم يأخذون ذلك كله فيما بلغني بالعسف والظلم والتعدي... ويقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد ويعلقون عليهم الجِرار ويقيدونهم بما يمنعهم عن الصلاة وهذا عظيم عند الله شنيع في الإسلام (الجزء الثاني صفحة ٢٣ و٢٤ مستندًا إلى كتاب الخراج صفحة ٦١ و٦٢) . الله أكبر! هل سمع أحد بأعظم من هذا التدليس والتلبيس؟ يشتكي القاضي أبو يوسف من عمال هارون الرشيد ويرفع القضية إليه ويبين ما بلغه مما يرتكب عماله في أخذ الأموال من الرعايا، فيأخذ المؤلف أقواله وينقلها من حيث إنها هي الطرق التي كان عمال بني أمية يجمعون الأموال بها! ! ها هو كتاب الخراج بأيدينا قرأناه وقلبناه ظهرًا لبطن وكررنا فيه النظر لا كرة ولا كرتين بل مرات متوالية متتابعة فما وجدنا فيه كلمة في شأن عمال بني أمية وإنما قال ما قال أبو يوسف يعظ الرشيد بما بلغه عن عماله إلى أن خاطبه بقوله: (فلو تقربت إلى الله عز وجل يا أمير المؤمنين بالجلوس لمظالم رعيتك في الشهر أو الشهرين مجلسًا واحدًا تسمع فيه من المظلوم وتنكر على الظالم رجوت أن لا تكون ممن احتجب عن حوائج رعيته ولعلك لا تجلس إلا مجلسًا أو مجلسين حتى يسير ذلك في الأمصار والمدن فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه فلا يجترئ على الظلم.. مع أنه متى علم العمال والولاة أنك تجلس للنظر في أمور الناس يومًا في السنة ليس يومًا في الشهر تناهوا بإذن الله عن الظلم وأنصفوا من أنفسهم (كتاب الخراج صفحة ٦٣ و٦٤) . لا فُضَّ فوك يا أبا يوسف! فقد صدعت بالحق وأمرت بالمعروف واجترأت على النهي عن المنكر وأخذت على ملك جبَّار كهارون الرشيد صاحب النكبة بالبرامكة، وما أكبر جرأتك أيها الفاضل؟ ! (جرجي زيدان) إنك تتبعت سيرة عمال بني أمية وبالغت في الإمعان وكابدت في ذلك محنة التقصي فأعوزك كل هذا وما وجدت في أعمالهم شيئًا من مثل تلك الفظائع فعمدت إلى سيرة عمال الرشيد وأوهمت الناظرين أنها سيرة عمال بني أمية! قال المؤلف: (وكان العمال لا يرون حرجًا في ابتزاز الأموال من أهل البلاد التي فتحوها عَنوة لاعتقادهم أنها فيء لهم كما تقدم (الجزء الرابع صفحة ٧٥) . الذي أشار إليه بقوله: (تقدم) هو قوله في الجزء الثاني وهذا نصه: (وكان من جملة نتائج تعصب بني أمية للعرب واحتقارهم سائر الأمم أنهم اعتبروا أهل البلاد التي فتحوها وما يملكون رزقًا حلالاً لهم - يدل على ذلك قول سعيد بن العاص عامل العراق: ما السواد إلا بستان وقول عمرو بن العاص لصاحب أخنا لما سأله عن مقدار ما عليهم من الجزية فقال عمرو: إنما أنتم خزانة لنا إن كُثّر علينا كثَّرنا عليكم، وإن خُفف عنا خففنا عنكم (الجزء الثاني صفحة ١٩) . تشبث المؤلف بهذه الأقوال في غير موضع مستدلاًّ على أن العرب وبني أمية كانوا يتصرفون في أموال الناس كيفما شاءوا ظنًّا منهم أن أموالهم وأعراضهم أبيحت لهم مطلقًا. حقيقة القول: أنه لما فتحت البلاد في خلافة الفاروق تقدم بعض الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وبلال وغيرهما وقالوا: إن الأرض مقسومة بيننا كما قسم رسول الله خيبر وكان الفاروق رأى غير هذا فقام النزاع حتى وفق إلى الاستناد بنص القرآن فسكتوا ورضوا والقصة مذكورة بتفاصيلها في كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف، ثم إن بعض البلاد فتحت صلحًا فمتى كان الخراج أو الجزية شيئًا مسمًّى معيّنًا ما كانوا يرون الزيادة عليه وإن أكثرت الأرض خيراتها وزادت غلاتها , وفتح بعضها عنوة فكان الخراج أو الجزية عليها بقدر النقص والزيادة وهذا هو قول عمرو (إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم) وقد أشار إلى ذلك المقريزي في تاريخه والعلامة السيوطي في حسن المحاضرة. فأما قول سعيد بن العاص الذي استند إليه المؤلف فتحريف للكلام عن موضعه على جاري عادته، فإن المؤلف نقل هذه الرواية من الأغاني والمذكور فيه ما حاصله: (إن أحدًا مدح السواد عند سعيد بن العاص وبالغ فيه فقال بعضهم: نعم ويا ليته كان لأميرنا، فقال بعض من حضر: لا نُعطِ أرضنا للأمير فقال الرجل: ولو شاء الأمير لأخذه، فأنكروا قوله فقال سعيد بن العاص: (السواد بستان قريش إلخ) فقال الرجل: لا! إنه منايح رماحنا فأنت ترى أن النزاع بين الجند وأمير البلد هنا هو النزاع الذي كان بين بعض الصحابة وعمر الفاروق وأي متشبَّث في ذلك للمؤلف؟ فإن سعيد بن العاص قال ما قال ردًّا على الجند بدعوى أن الأرض لا تقسم بين فاتحي البلاد بل هي تحت يد الخليفة أو من ينوب عنه وإنما ذكر سعيد قريشًا؛ لأن الخلافة على زعمهم لقريش خاصة. قال المؤلف: (فكان الخلفاء يكتبون إلى عمالهم بجمع الأموال وحشدها والعمال لا يبالون كيف يجمعونها فقد كتب معاوية إلى زياد) اصطفِ لي الصفراء والبيضاء (فكتب زياد إلى عماله بذلك وأوصاهم أن يوافوه بالمال ولا يقسموا بين المسلمين ذهبًا ولا فضة) (الجزء الرابع صفحة ٧٥ وأحال الرواية في الهامش على العقد الفريد صفحة ١٨ من المجلد الأول) . ننقل مآخذ هذه الرواية كما صرح به المؤلف في الهامش لترى خيانات المؤلف واحدة بعد واحدة، قال صاحب العقد: (ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشعبي أن زيادًا كتب إلى الحكم بن عمر الغِفَاري وكان على الطائفة أن أمير المؤمنين كتب إليّ أن أصطفي له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهبًا ولا فضة فكتب إليه: (إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين) إلخ ما كتب ثم نادى في الناس فقسم لهم ما اجتمع من الفيء) (العقد الفريد المجلد الأول صفحة ١٧ أو ١٨) . فانظر! (أولاً) : إنه ليس في هذه الرواية أن معاوية كتب إلى زياد بل إن زيادًا كتب إلى الحكم أن أمير المؤمنين كتب إليّ إلخ، ولعل زيادًا كذب في ذلك أو فهم غير ما أراد معاوية بقوله. (ثانيًا) : إن المؤلف حذف كل ما قال الشعبي وما عمل به من تقسيم الفيء لدلالته على أن في عمال بني أمية من لا يمنعه عن الصدع بالحق وأداء الواجب أحد، لا ولاة الأمصار ولا من فوقهم أي الخليفة نفسه. (ثالثًا) : إنه ليس في هذه العبارة ما يستدل به على استئثار معاوية بالمال لنفسه فإن مراده أن العمال ليس لهم تقسيم الفيء بل الأمر موكول إلى الخليفة فعلى العامل أن يجمع الأموال ويرسلها إلى الخليفة وللخليفة أن يضعها موضعها. قال المؤلف: (فكان العمال يبذلون الجهد في جمع الأموال بأية وسيلة كانت ومصادرها الجزية والخَرَاج والزكاة والصدقة والعُشور. وأهمها في أول الإسلام الجزية لكثرة أهل الذمة فكان عمال بني أمية يشددون في تحصيلها فأخذ أهل الذمة يدخلون في الإسلام فلم يكن ذلك لينجيهم منها؛ لأن العمال عدوا إسلامهم حيلة للفرار من الجزية وليس رغبة في الإسلام فطالبوهم بالجزية بعد إسلامهم. وأول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف واقتدى به غيره من عمال بني أمية في إفريقية وخراسان وما وراء النهر فارتد الناس عن الإسلام وهم يودون البقاء فيه وخصوصًا أهل خراسان وما وراء النهر فإنهم ظلوا إلى أواخر أيام بني أمية لا يمنعهم عن الإسلام إلا ظلم العمال بطلب الجزية منهم بعد إسلامهم) (الجزء الرابع صفحة ١٦) . ذكر المؤلف هذه الواقعة، أي أَخْذ الجزية بعد الإسلام، في غير موضع بعبارات متنوعة، قوية الأخذ بالنفس، شديدة الوطأة على القلب، يتراءى للناظر فيها أن الناس أحيطوا من كل جانب جورًا وعدوانًا، فإذا بقوا على الكفر يعانون من الشدة ما يلجئهم إلى الإسلام، وإذا أسلموا فالجزية باقية على حالها، لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون. *** تحقيق مسألة الجزية في الإسلام ١- اعلم أن الجزية ليست إلا بدلاً عسكريًّا فمن يذب عن بيضة الملك بنفسه فهو غير مأخوذ بها أما من ضن بالنفس أو كان لا يصلح لذلك فعليه أن يؤدي شيئًا من المال ليكون عُدة للعسكر وعونًا له. وأول من سن الجزية وجعل لها وضائع كسرى أنو شروان كما ذكره ابن الأثير وصرح بأنها هي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب، وكم تجد في البلاذري والطبري وغيرهما أن أقوامًا من النصارى في عصر عمر بن الخطاب لما قاموا بالدفاع عن الملك أو دخلوا في الجند سقطت عنهم الجزية وأعفى عمر بن الخطاب نصارى تغلب من الجزية، وأضعف عليها الصدقة. وجملة القول أن الجزية لم تكن في الأصل شيئًا يحد بين الكفر والإسلام ولكن لما كان غالب الحال أن أهل البلاد من النصارى والمجوس واليهود كانوا أصحاب حرث وزرع وعمالاً في الديوان وكانوا لا يرضون بمخاطرة النفس واقتحام الحرب لذلك كانوا مطالبين بالجزية والمسلم لا يمكن له الاعتزال عن الحرب فإنه مضطر إلى الذب عن بلاد الإسلام طائعًا أو مكرهًا - صارت الجزية كأنها حد فاصل بين الرئيس والمرءوس ثم بين المسلم وغير المسلم. ٢- ولما لم ينفصل الأمر بتةً وبقي للاجتهاد موضع ومتسع كان بعض العمال يضرب الجزية على حديثي العهد بالإسلام. ٣- ولكن مع هذا لم يتفق ذلك في مدة الخلافة الأموية إلا مرات معدودات يشهد بذلك الفحص والتقصي وإمرار النظر والكد في البحث والتنقيب ومع ذلك فكلما وقع مثل هذا لم يكن له بقاء فإما أن تكون الأمة هي التي تقيم النكير على العامل أو يصل الخبر إلى الخليفة فيرد عمله ويمنعه عن الوقوع في مثله آتيًا ففي سنة ١٠١ لما كتب الحجاج إلى البصرة برد من أسلم من أهل القرى إلى مساكنهم وضرب الجزية عليهم ضج القراء وخرجوا يبكون مع البكاة من أهل القرى وبايعوا عبد الرحمن بن الأشعث مشمئزين من عمل الحَجَّاج منكرين عليه كما هو مشروح في تاريخ الكامل لابن الأثير وكذلك لما اقتدى الجراح الحكمي بصنيع الحجاج كتب إليه عمر بن عبد العزيز يأمره بإسقاط الجزية، والواقعة مذكورة في حوادث سنة ١٠٠ في تاريخ الكامل، وكذلك لما فعل يزيد بن أبي مسلم في إفريقية سنة ١٠٢ هجرية ألّب الناس عليه وقتلوه وكتبوا إلى الخليفة يزيد بن عبد الملك فكتب إليهم إني ما كنت مستحسنًا عمل يزيد والقصة مذكورة في الكامل تحت حوادث سنة ١٠٢ وكان آخر ما وقع من مثل ذلك ما فعل الأشرس في خراسان فأورث ثورة واشترك العرب مع الثائرين ونصروهم، أما خلفاء بني أمية فلم يثبت عن أحد منهم مثل ذلك وإنما كان أراد عبد الملك وضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة فكلمه ابن حُجْرة فترك. والقصة مذكورة في المَقْريزي بنوع من التفصيل (انظر صفحة ٢٨ من الجزء الأول) . والآن نقص عليك بعض خيانات المؤلف: ١- ذكر واقعة الحجاج وترك نكير القراء عليه وبيعتهم على يد ابن الأشعث إنكارًا على صنيع الحجاج. ٢- ذكر واقعة الجراح (الجزء الثاني صفحة ٢٠) وترك إنكار عمر بن عبد العزيز عليه ومنعه عن ضرب الجزية عليهم. ٣- ذكر واقعة يزيد بن أبي مسلم وترك أن الناس قتلوه وأن الخليفة يزيد بن عبد الملك استصوب صنيعهم أي قتلهم يزيد بن أبي مسلم. ٤- ذكر واقعة الأشرس ولم يذكر أن العرب قاموا عليه وكانوا مع الثائرين عليه ولما ثبت أن ضرب الجزية على حديثي العهد بالإسلام لم يأمر به أحد من خلفاء بني أمية وإنما كان اجتهادًا من بعض العمال بناء على أن إسقاط الجزية يورث نقصًا في الخراج وأن الخلفاء كلما عثروا على ذلك منعوا العمال عن ضرب الجزية وردوا عملهم وأنه كلما وقع مثل ذلك تألب العلماء والخيار من الناس وأقاموا النكير على ضارب الجزية حتى قتلوا بعض العمال واستحسن الخليفة قتله، فهل للمؤلف أن يحل أوزار بعض العمال على بني أمية كافة؟ وهل يصح قوله؟ (ولم يكن عمال بني أمية يأتون هذه الأعمال من عند أنفسهم دائمًا بل كثيرًا ما كانوا يفعلونها بأمر خلفائهم كما قد رأيت مما كتبه معاوية إلى وردان) (الجزء الثاني صفحة ٢٢) . أما كتاب معاوية إلى وردان فقد مر ذكره وليس فيه للمؤلف موضع حجة. قال المؤلف (ورأى هؤلاء) أي أهل الذمة (أن اعتناق الإسلام لا ينجيهم من ذلك فعمد بعضهم إلى التلبس بثوب الرهبنة؛ لأن الرهبان لا جزية عليهم. فأدرك العمال غرضهم من ذلك فوضعوا الجزية على الرهبان. وأول من فعل ذلك منهم عبد العزيز بن مروان عامل مصر فأمر بإحصاء الرُّهبان وفرض على كل راهب دينارًا) (الجزء الثاني صفحة ٢٠ مستندًا إلى المقريزي صفحة ٣٩٢ من الجزء الثاني) . أيها الفاضل المؤلف! ما هذا الاجتراء؟ ما هذا الاختلاق؟ ما هذا الكذب الظاهر؟ هاك نص المقريزي (ثم قدم اليعاقبة في سنة إحدى وثمانين الإسكندروس فقام أربعًا وعشرين سنة ونصفًا وقيل: خمسًا وعشرين سنة ومات سنة ست ومئة ومرت به شدائد صودر فيها مرتين أخذ منه فيهما ستة آلاف دينار وفي أيامه أمر عبد العزيز بن مروان فأمر بإحصاء الرهبان فأحصوا وأخذت منهم الجزية على كل راهب دينار وهي أول جزية أُخذت من الرهبان، (الجزء الثاني من المقريزي صفحة ٣٩٣ أو ٣٩٤) . فهل تجد في هذه العبارة أدنى إشارة إلى أن عبد العزيز أو أحدًا غيره شدّد في الجزية فاختاروا الرهبنة طلبًا للنجاة من الجزية فما نفعهم؟ لا وإنما فيها أن عبد العزيز بن مروان وضع الجزية على الرهبان وهذا ليس فيه كبير شيء فإن الرهبان وإن كانوا معافون من الجزية ولكن لما لم يكن الأمر منصوصًا لا في الكتاب ولا في السنة كان للاجتهاد فيه مساغ فاجتهد عبد العزيز وأخطأ. *** إنهاء هذا البحث لو سردنا كل ما قال المؤلف عن جور بني أمية وعمالهم واستئثارهم بالأموال وإسرافهم في استلابها وبينا ما في كل قول من التحريف والتدليس وتغيير المعنى والخيانة في النقل وصرف العبارة عن وجهها لطال الكلام واحتجنا إلى عمل كتاب منفرد بنفسه؛ فلأجل ذلك اقتصرنا على كشف بعض دسائسه مع أنه قلّ من كل وغَيْض من فيض [١] . ونقول بعد كل ذلك: إن موضوع الكتاب ليس إلا بيان تمدن الإسلام فأي متعلق في ذلك لإبداء مساوئ بني أمية؟ ولعلك تقول: لا بد في تاريخ تمدن الإسلام من بيان منهج السياسة وأنها هل كانت مؤسسة على الاستبداد والجور أو العدل والنصفة فجرّ ذلك إلى كشف عوار بني أمية عرضًا. ولكن أناشدك بالله أما كان لأحد منهم مأثرة تذكر، ومَنْقبة تنقل، وسياسة تنفع البلاد، ومعدلة تعم الناس؟ ؟ نعم إن بني أمية لا يوزنون بالخلفاء الراشدين وليس هذا عارًا عليهم ولا فيه حط لمنزلتهم فإن إدراك شأو الراشدين واللحوق بهم أمر خارج عن طوق البشر، وليس فيه مطمع لأحد، ولا موضع رجاء لمجتهد، ولكن التوازن والتكايل بين الأموية والعباسية وإنما هم ملوك فيهم المحسن والمسيء، والعادل والجائر، والناسك والخليع، والحازم والمغفل، بل الذي أعدلهم سيرة وأمثلهم طريقة وأوفاهم ذممًا وأرضاهم طورًا لا يخلو من عثرات لا تقال وهنات لا تذكر - فلو لزم المؤلف جادة الإنصاف ووفى لكل أحد قسطه وأعطى كل ذي حق حقه لاستراح واسترحنا ولكنه مال إلى واحد فأطرى في مدحه، ونال من الآخر فأسرف في تهجينه وذمه، ثم إنه لم يفارق في مدحه وذمه عمود الكتاب أي ذم العرب والحط من شأنهم فإنه ذم بني أمية؛ لأنهم العرب بحتة ومدح العباسيين لا لأنهم العرب أو أنهم من سلالة هاشم أو من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لأن دولتهم دولة أعجمية وقد مر نصه في ذلك سابقًا. وحان لنا أن نذكر طرفًا من مآثر بني أمية وسيرتهم ومبلغهم من حسن السياسة وتعمير البلاد وتمهيد السبل وتوطيد الأمن وإقامة المرافق وتعميم المعارف. اعلم أن دولة بني أمية عبارة عن معاوية ويزيد وعبد الملك بن مروان والوليد وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، وهشام فأما ما عداهم فلم تطل مدتهم وليس العبرة بهم إن أحسنوا أو أساءوا. *** سيرة معاوية في دولته فأما معاوية فنذكر من سيرته ما ذكره المؤرخ المسعودي في مُروجه مع نوع من الاختصار قال: (كان من أخلاق معاوية أنه كان يؤذن في اليوم والليلة خمس مرات، كان إذا صلى الفجر جلس للقصَّاص حتى يفرغ من قصصه فيخرج إلى المسجد فيسند ظهره إلى المقصورة ويجلس على الكرسي ويقوم الأحداث فيتقدم إليه الضعيف والأعرابي والصبي والمرأة ومن لا أحد له فيقول: ظلمت، فيقول: أعزّوه، ويقول: عُدي إليَّ، فيقول: ابعثوا معه، ويقول: صنع بي، فيقول: انظروا في أمره، حتى إذا لم يبق أحد دخل فجلس على السرير ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم فإذا استووا جلوسًا قال: يا هؤلاء إنما سميتم أشرافًا لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا، فيقوم الرجل فيقول: شهد فلان، فيقول: افرضوا له، ويقول آخر: غاب فلان عن أهله، فيقول: تعاهدوهم واقضوا حوائجهم، ثم يؤتى بالغداء والكاتب يقرأ كتابه فيأمر فيه حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم وربما قدم إليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء. وأطال المسعودي في بيان أعمال معاوية يوميًّا، ثم قال بعد حكاية معترضة: (فلنرجع الآن إلى أخبار معاوية وسياسته وما وسع الناس من أخلاقه وما أفاض عليهم من بره وعطائه وشملهم من إحسانه مما اجتذب به القلوب واستدعى به النفوس حتى آثروه على الأهل والقرابات) ثم ذكر بعد ذلك عدة وقائع تركناها هربًا من الإطناب. *** سيرة عبد الملك بن مروان في دولته وأما عبد الملك فقال المدايني (كان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم، وهو الذي جعل على بيوت الأموال والخزائن رجاء بن حَيْوة ذلك المحدث المشهور وعلى كتابة الخراج والجند سرحون بن منصور الرومي) وهو نصراني (وحول الدواوين من الرومية والفارسية إلى العربية وزاد على ما مكان فرض معاوية للموالي خمسة فبلغها عشرين ودخل في بيعته عبد الله بن عمر ومحمد بن الحنفية) ذكر كل ذلك صاحب العقد في ترجمته، وقد سبق من نسكه وعبادته ما فيه كفاية فيما مر. ومما ينقم عليه تأميره الحجاج ولكن الدولة تحتاج في إبّانها وأول نشأتها إلى أمثال ذلك وهذا أبو مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية قتل ستمائة ألف رجل صبرًا وهذا أبو جعفر المنصور فعل بالهاشميين ما لم يسبق له نظير في الإسلام ومع ذلك فإني أعوذ بالله أن أقوم ذابًّا عن الحجاج ومدافعًا عنه. *** سيرة الوليد في دولته وأما الوليد فكان أهل الشام يفتخرون به وحق لهم ذلك قال صاحب العقد الفريد: (كان الوليد عند أهل الشام أفضل خلفائهم وأكثرهم فتوحًا، وأعظمهم نفقة في سبيل الله، بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة ووضع المنابر وأعطى المجذومين حتى أغناهم عن سؤال الناس وأعطى كل مقعد خادمًا وكل ضريرًا قائدًا، وكان يمر بالبقال فيتناول قبضة فيقول: بكم هذه؟ فيقول بفلس فيقول: زد فيها فإنك تربح) وهو الذي وسع مسجد النبي وذهَّب البيت. قال اليعقوبي: (إن الوليد بعث إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد رسول الله فليعنه فيه فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهبًا ومائة فاعل وأربعين جملاً فسيفساء، وبعث الوليد إلى خالد بن عبد الله القَسْري وهو على مكة بثلاثين ألف دينار فضربت صفائح وجعلت على باب الكعبة، فكان أول من ذهَّب البيت في الإسلام وحج الوليد سنة ٩١ لينظر إلى البيت وإلى المسجد وما أصلح منه وإلى البيت وتذهيبه) . وقال اليعقوبي: (كان أول من عمل البيمارستان للمرضى ودار الضيافة، وأول من أجرى على العميان والمساكين والمجذومين الأرزاق) . وقال السيوطي في تاريخه للخلفاء: (وكان مع ذلك) أي كونه جبارًا ظلومًا (يختن الأيتام ويرتب لهم المؤدّين) . *** فتوحات بني أمية ثم إن الدول تعرف أقدارها بآثارها ويقضى بفضلها بعملها وأخلد الآثار التي تتفاضل بها مقادير الملوك وتتطاول بها رتب الدول كثرة الفتوح واستتباب أمور الملك والرعية وتوطد دعائم العدل وانتشار العلم ودولة بني أمية قد أخذت من كل ذلك قسطًا وضربت في كل ذلك بسهم. أما كثرة الفتوح فقد بلغت دولتهم منها غاية ليس وراءها مطلع لطامح. انقضت أيام الخلافة الراشدة والإسلام يزخر عُبابه في جزيرة العرب وديار الشام ومصر وبلاد الفرس فلما تسنَّم بنو أمية عرش الخلافة ازداد الإسلام فتوحًا، واتسعت ممالكه وغلب سلطانه، وامتدت سطوته، ودخلت البلاد النائية المترامية الأكناف في حوزة حكمه، فملكوا ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام قبلهم ولا بعدهم. فتحوا طرابلس وطَنْجة وسائر بلاد المغرب والأندلس وبلاد الديلم، والأتراك والمغول والسند وقبرص وأقريطش (كريد) ورودس وغيرها من جزائر البحر. وغزوا صقلية وصالحوا النوبة وتوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا سور القسطنطينية وضربوا السيف على أبوابها، وافتتح السند محمد الثقفي أحد أبناء قوادهم وهو ابن سبع عشرة سنة، وقد وطئت جيوشهم ثغور الصين وثغور بلاد الإفرنج وعاصمة بلاد الروم، وحدود بلاد الهند، وملكوا من السند إلى ثغور بلاد الإفرنج طولاً ومن البحر الأحمر إلى بلاد الخزر عرضًا، ودخل في حوزة ملكهم العرب وديار الشام والعراق والجزيرة ومصر والبجة وبرقة وطرابلس وتونس ومراكش والأندلس وأرمينية وخراسان وفارس وتوران والديلم وبلاد الران وطبرستان وجرجان وسجستان وخوارزم وما وراء النهر وبلاد الخزر وأفغانستان والسند وبعض بلاد الهند. فمن يدانيهم من الملوك في سعة الملك؟ ومن يباريهم في كثرة الفتوح؟ *** استتباب أمور الملك والرعية ليس في سعة الملك كبير فضل إذا لم يكن هناك تأنق في أمور المملكة، ونظر في أمور الرعية، وقيام بمصالح العباد، وتشمير في عمارة البلاد، ولذلك كان الذين فتحوا البلاد ولم ينظروا في أمور أهلها ليسوا عند ذوي الخبرة من أهل التاريخ أسمى منزلة وأعلى مكانة من قطاع الطريق الذين يعيثون في الأرض مفسدين. أما ملوك بني أمية فقد جمعوا بين بيعة الملك والنظر في أمور العباد، وكثرة الفتوح وعمارة البلاد، حفروا الأنهار، وعمروا الطرق، وشادوا المصانع، وابتنوا المساجد، وبذلوا الأموال، وقضوا الحوائج، وكشفوا المظالم، وغمروا المجذومين والعميان والمقعدين والصعاليك بالجزيل من الإحسان، وأجروا لهم الأرزاق. ثم رتبوا المصالح ودونوا الدواوين وحصنوا الحصون وبنوا المدن والقصور وقد مر من ذلك شيء كثير فيما تقدم من سيرهم وأعمالهم وإليك هذه العجالة التي هي كالطل من الوابل. (يتلى) ((يتبع بمقال تالٍ))