للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

الشذرة السابعة من جريدة أراسم [*]
(رؤيا منام، أرجو أن تحققها لنا الأيام)
رأيتني ممتطيًا جوادًا أسيح في بلاد مجهولة لا أدري إن كانت من الدنيا
القديمة أو الجديدة ولكني بحسب ما بدا لي من ظواهرها أرى أنها لا بد أن تكون
واقعة على تخوم بلاد الألدورادو [١] أو الأوتوبيا [٢] .
بصرت في طريقي بحظائرمسيجة باسيجة خضراء فيها قطعان من البقر
والغنم وغيرها من الحيوانات المجترة التي لا توجد قط في مراعينا تسوم آمنة لا
كلب يحرسها ولا راعي يراقبها ولاحظت في انتظام طرق الري في هذه البلاد
وحسن توزيع الماء بين جهاتها على نحو يثير الاستحسان، ويدعو إلى الإعجاب أنه كان من مزاياه امتلاء جو ريفها بالنسيم البارد على ما فيه من حرارة النهار وشاهدت سلاسل من الهضاب مكللة بالأشجار كأنها في تتابعها واتصال بعضها ببعض تخط للرياح والسحاب طريقهما، ضرب الغنى سرادق حول قرى هذا الريف وظهرت
على أهله آثار النعمة والاغتباط، نساؤه حسان وولدانه أسوياء أصحاء الأبدان
يبشرون حكومتهم بأنهم سيكونون نسلاً قويًّا باسلاً.
ثم رأيت حواضر هذا القطر فلم أكن لرؤيتها أقل مني دهشًا لرؤية قراه ومما
أرشدت إليه من إحداها بناءان كانا أقيما في عصر يسميه أهلها الآن عصر الهمجية
أحدهما سجن والثاني مأوى للمساكين وقد أصبحا من أهلهما خلاءً لعدم اللصوص
والبؤساء ومع أنهما لم تبق لوجودهما فائدة حفظهما القائمون على شئون المدينة
ليكون للأجانب فيها ذكرى لتاريخهم.
حدد في هذه البلاد ما للناس وما عليهم من الحقوق والفروض وما للحكومة
وما عليها من ذلك وامتاز بعضه عن بعض امتيازًا بينًا ولهذا تجد الرعايا لا يُوَلُّون
حُكَّامهم من شئونهم إلا ما ليس من مصلحتهم أن يتولوْه بأنفسهم، وحقيقة الأمر أن
القوانين فيها على قلتها جدًّا وصدورها عن رأي من اختارتهم الأمة نوابًا عنها لا
سبيل لها إلا على ما كان من الأعمال متعلقًا بالحكومة، ولما كان الناس جميعًا هم
الذين قد سنوا لأنفسهم هذه القوانين لحماية كل منهم كانت مخالفتها وعدم الرضوخ
لأحكامها حمقًا وسخفًا على أنهم يؤملون تعديلها والتقليل من سلطانها بترقية العلوم
وبث أضواء العرفان.
رأيهم هو حاكمهم المطاع أمره النافذ قوله، ولم يعهد أن ملكًا من الملوك
الممتنعين في صياصهم المعتزين بحصونهم كان له من المعاقل والمتاريس ما يعادل
ما حيط به ذلك الحاكم من ضروب الكفالة وأنواع الضمان المؤيدة له القائمة على
إعزازه فالقوم أحرار يتفكرون في كل ما يكتبون، ويكتبون كل ما يتفكرون، وإنه
ليدهشم كثيرًا على ما أرى أن يعلموا أن فوق الأرض أممًا في قدرتها أن تستسلم للحاكم
وتلقي بنفسها في قبضة ظالم.
لاقيت في هذه المدينة شيخًا لا أذكر أين ولا كيف لاقيته، وقع التعارف بيني
وبينه فأخذ على نفسه أن يشرح لي نظام حكومتهم ويطوف بي على المعاهد المُعَدَّة
للمنافع العامة؛ لأني لم أر في المدينة قصورًا بُنِيَتْ لبعض الأفراد توفية لأسباب
لذاته ولا مسالح ولا دور لجيش ولا مواخير للفحش.
لما راقنى ما شاهدته قلت للشيخ: هل لك أن تخبرني باسم ذلك الواضع
الكبير الذي سن لكم هذه القوانين.
فتبسم ضاحكًا من قولي وقال: أراك آتيًا من عالم آخر فاعلم أن قوانينا ليست
من وضع البشر وإني أراني الآن مضطرًّا إلى أن أقص عليك تاريخنا في كلمات
قلائل فاستمع لما أقول: إننا قبل اليوم بنحو قرنين لم نكن أحسن حالاً من غيرنا من
الأمم وآخر ملك تولى علينا ولا نذكر منه شيئًا حتى اسمه (لأن النسيان أحسن
عقاب للمسيئين الأشرار) خلع عنه عرشه بعد حكم أسخط عليه جميع رعاياه وأَلَّبَهُم
على نبذ طاعته والخروج عليه، ثم عرض الثائرون بعد خلعه صورًا مختلفة وأشكالاً
متنوعة للحكومة، وكادوا يقتتلون على اختيارهم حاكم لولا أن آباءنا بما كان لهم من
حكمة الدراية قد تراجعوا وقال بعضهم لبعض: إن الأولى لنا أن نرجئ الفصل فيما
شجر بيننا وأن نترك لأعقابنا النظر لأنفسهم فيما هو خير لهم فإنه لا خير في أحسن
الأوضاع ولا في أعدل القوانين إن لم نجد في أخلاق الناشئين وسيلة لاستبقائها
وحينئذ اتفق القوم على أن يُبقوا من قوانيهم القديمة أكثرها مطابقة لحكم العقل حينًا
من الدهر، وأن يُنَشِّأوا الجيل الجديد في هذه الفترة على حب الحرية والأخذ بها ثم
لعلك لم تر مدرستنا، إنها أصل نظامنا السياسي فهيَّا بنا إليها.
أخذني إلى مكان على مقربة من المدينة فما هو إلا أن تجلى لنظري في لسعة
الشمس المشرقة قصر أو هيكل فوق ربوة شجراء قد عادل اتساعه وانفساح أرجائه
ما له من الفخامة والجلال لو أردت أن أصف لك جملته لعييت بذلك. بني كل قسم
من أقسامه الداخلية على طريقة حديثة في فن العمارة وبلغ من الازديان بما وضع
فيه من التماثيل والصور وآثار الفنون إلى حيث إن جدرانه كانت تكاد تكفي أن
تكون وحدها طريقة من طرق التعليم بكون ما حوته ينقش على أذهان التلامذة
ومشاعرهم، وينقسم هؤلاء إلى عدة أمم يمثل كل منها جيلاً من أجيال الإنسان وقد
وقع ذلك البناء في وسط مشاهد تأسر القلب وتأخذ باللب بما فيها من ضروب التباين
ووجوه التخالف فنجد حوله الآجام والصخور ومساقط الماء وتحته البحر.
وقفت على إحدى حلقات الدروس فإذا بغلمان يمارسون أنواعًا مختلفة من
الرياضات البدنية بالمصارعة والعدو والرماية بالقوس، أكثر ما دهشت له في هذه
الحلقات أن معلميها كانوا من هنود أمريكا الحمر الأصليين كما تبينت ذلك من لونهم
ونحافة أعضائهم وما كان على شعورهم من مواد الزينة الوهمية.
قال لي الدليل: إن هذه القبيلة المتوحشة لم تأت إلى بلادنا إلا من عهد قريب
وإنما جذبها إلى حدودها حسن أخلاق قومنا ورقة طباعهم فإننا لم نعتبرهم أعداء لنا
كما يفعل غيرنا بل دعوناهم إلى مشاركتنا في نعم الحضارة وأرشدناهم إلى ما
تحصله لنا من الفوائد ومزايا مبينين لهم مقدار رُجْحانها على البداوة، ولما كنا لا
نجهل ما لهم من المذاهب الفطرية التي نحن محرومون منها قد عرضنا عليهم
معاوضة المنافع ومبادلة المرافق فقبل فريق منهم ذلك منا وهاهم أولاء الآن يروضون
أبناءنا على احتمال الآلام الجسدية غير معطلين من جباههم وعلى استعمال
أبصارهم وأسماعهم في اجتناب ما يُنْصَب لهم من الحبائل وإبطال ما يكاد لجلّهم من
المكائد ويعودونهم على البسالة في ثني أعضائهم وإدارة مرافقهم لسلطان الإرادة،
وعلى تعرُّف أخلاق الحيوانات وعوائدها في حالتها الوحشية.
وفيما نحن نجول داخل هذا المكان الذي هو منقسم كما قلت إلى دارات مختلفة
للتربية والتعليم شهدت أحد الأعياد التي تقام في هذه الدارات التاريخية أو العلمية
من حين إلى حين فخيل لي أننا في أثينا (عاصمة بلاد اليونان) إن لم أكن واهما
وأبصرت قامتها المسماة بالأقروبول شاخصة أمامي على صخرة يعلوها معبد
وتماثيل وآلهة صنعت من النحاس الأحمر والمرمر ورأيت في الجانب الغربي لهذه
القامة دهاليزها التي أقامها بريكليس [٣] وكنت أشاهد طوائف من القيان في أزياء
يونانية يُشَخِّصُون اليونان في أطوارهم وأحوالهم تشخيصًا يقرب من الفطرة
ويتكلمون بلغتهم ويمثلونهم في تنزههم في المدينة أو غُدُّوهم إلى مرافئ بيريه [٤]
ومونخيي [٥] وفالير [٦] فاستغربت ما رأيت مع قلة استغراب الحالم وأقسمت بآتينيه
بروماخوس لاكتنهن هذا السر.
فلما رأى صاحبي شدة ولعي بمعرفة حقيقة ما رأيته قال لي: إن الأمر في
غاية السهولة ذلك أننا لما تبين لنا بالاختبار أن التاريخ في تعليمه للأحداث يمر
بأذهانهم مرور الظل غير تارك له فيها آثارًا بينة اجتهدنا في أن نجعل له جسمًا
تخلد فيها صورته فترى تلامذتنا لا يقتصرون في تعلمه على مطالعة ما كان في
العصور الخالية بل إنهم يعيشون في تلك العصور.
فقلت له: لا بد أن تكون جمهوريتكم قد بلغت من الثروة غايتها حتى تقوم
بنفقات هذه المعاهد فكان جوابه أنها غنية لمهارتها في طرق الكسب؛ ولأنها هي التي
تدبر نفقاتها بنفسها على أني أرجو أن لا تنخدع بما تراه فإن ما تظنه بذلاً للمال
وإسرافًا فيه هو في الحقيقة تدبير له وتوفير لو صح ما نسمعه عن أوربا القديمة
لكان ما تنفقه أممها على حكوماتها في جانب التبذير وما تنفقه على التعليم العام في
طرف التقتير، وأما نحن فأمورنا تجري على خلاف ذلك فحكومتنا لا تكلفنا أو لا
تكاد تكلفنا شيئًا وتنفق كل أرزاقنا على مدارسنا فكان لنا بالسير على هذه السنن ما
يسمى في عرف التجارة صفقة رابحة، ولله طريقتنا في التربية فإننا ببركتها استغنينا
عن اتخاذ جيش دائم وكهنوت وغيرها من الأثقال التي توقع الحكومات في مهواة
الفاقة وتؤديها إلى الخراب.
هذه الأمة التي ضل عني الآن اسمها لا تقصد في تربية عقول أبنائها وتقويم
طباعهم إعدادهم لأن يتبعوا في مستقبلهم نظامًا مقررًا كائنًا ما كان بل إنها عقدت
النية على أن تقبل ما ينتج من التربية الحرة المؤسسة على نواميس الكون وأصول
العلم من الثمرات فبعثها إقدامها على أن تعهد بمستقبل بلادها إلى معارف الأجيال
الجديدة وعلومهم، فهي تعتبر المدرسة أمة في سبيل نشأتها لها قوانينها كما أن
للحكومة قوانينها وترى تلك القوانين كأنها مقدمة لهذه وتبكر بتعليم التلامذة ممارسة
ما يتحلى به الرجال من الفضائل القومية.
ليس لمعلمي المدرسة على التلامذة أدنى سبيل إلى التأديب ولكنهم لا يُسَلَّمُون
عليها بما يقترفونه من مخالفة قوانينها وعوائدها بل إنهم يعاقب بعضهم بعضًا على
ما يقع منهم من المخالفات، فالمخالفون يحاكمون إلى محكمة ينتخب أعضاؤها من
أخواتهم لمدة معلومة، ومن مصلحة هؤلاء الأعضاء أن يعدلوا في أحكامهم وأن لا
يطيعوا فيها دواعي الهوى والغرض؛ لعلمهم أن الاعتداء على حقوق الناس قد يعود
عليهم ضرره في الحال أو في المآل.
ويقوم أمام هذه المحكمة محاميان أحدهما من جانب المدَّعِي والثاني من جانب
المدَّعى عليه فيبينان لها وقائع الدعوى بالرزانة والوقار ثم يصدر المحلفون
المتطوعون أحكامهم وهي واجبة الاحترام على الدوام وما يحكم به من الجزاء يصير
على كونه غاية في الخفة شديد الإرهاب والزجر لأنه يؤدي إلى لوم المحكوم عليه
وتأنيبه من المدرسة جميعها لا من معلميه فقط. يقيم الصبايا التلميذات بهذه المدرسة
في قسم آخر منها غير قسم الصبيان ولكنهن يحضرن معهم في غرف التعليم بعض
الدروس العامة التي تلقى نهارًا.
قال لي الشيخ: إننا نعول كثيرًا في طريقة تربيتنا للناشئين على ما للنساء من
التأثير المعنوي في النفوس فهن اللاتي نعهد إليهن بتوزيع الجوائز والمكافآت على
التلامذة، فترى المهرة من هؤلاء في الرياضات البدنية يختبرون أنفسهم أمامهن في
ساحتها ببعض الحركات التي هي مظاهر البأس والقوة، والمستعدين منهم لأنْ
يكونوا خطباء المستقبل يَمثلون بين أيديهن على منبر المدرسة ويثير بعضهم على
بعض في ميدان الفصاحة والبلاغة حربًا عوانًا كل ذلك في سبيل إرضائهن وهيج
إعجابهن، ولما كان المعروف فيهن أنهن صائبات الرأي سديدات الحكم في مواد
الفنون كان معلمو المدرسة تطيب أنفسهم بالركون إلى رأيهن في امتحان الشعر
والموسيقى والتصوير فإذا صرن محكمات في الذوق، أعلنَّ حسان الأعمال ونوَّهن
بقدرها وتوجنها تاج الشرف والفخار.
كذلك يعتاد أحداثنا على أن يستشيروا النساء ويسترشدوا بآرائهن ويلتمسوا
تصديق وجدانهم لحسن أعمالهم فيما يبديه لهم مما يرقنهم منهن من دلائل استحسان
هذه الأعمال بتلقيها بالابتسام والبشاشة وينشأون على أن يعتبروا عيون ربات الجمال
مرايا تمثل لهم فيها الفروض التي كتب عليهم أداؤها.
لا يزال صدى الكلمات الأخيرة التي سمعتها من ذلك الشيخ يرن في أذني إذ
قال لي في نهاية حديثه: لو طال زمن مكثك بيننا لشاهدت من مستحدثاتنا ما لا
أشك في أنه كان يبعث في نفسك دواعي الدهش والعجب، فحسبك أن تعلم كيف أننا
قطعنا ما كان يربطنا بماضينا من قيود الذل والبؤس والاستعباد التي كانت كالثلج
جمودًا وبرودة ونفيًا لحرارة الحياة وأن تعرف أن الأمم الحرة إنما تنشأ برجالها
الأحرار وأن آباءنا لم يخطئوا في أن يلتمسوا في وجدان كل إنسان أقوى ناصر
على الاستبداد لاعتقادهم أن أحسن الحكومات أقلها وجودًا فتراهم قد فضلوا أن
ينقشوا في نفوس الأحداث وجدان العدل والحق الذي لا تغيره الحوادث ولا تمحوه
الكوارث على أن يدونوا لهم قانونًا نظاميًا في كتاب ربما أن رياح الفتن وعواصف
الثورات الداخلية كانت مزقته من زمن بعيد.
وجملة القول أن الحكومة عندنا ليست هي التي تدير المدرسة بل إن المدرسة
هي التي توجدها وتنشئها. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))