للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرد على من أفتى بكتمان بعض القرآن
ثم حرَّف بعضه استدلالاً على فتواه

نشرنا في الجزء الأول من منار هذا العام استفتاء في قول من زعم أن في
القرآن الحكيم آيات لا يجوز إذاعتها، ولا إسماعها لأهل الكتاب من ذوي ذمتنا،
وأخرى لا يجوز إسماعها للنساء هي قصة يوسف، بل قال سورته (عليه السلام) .
ذكر المستفتي اسم الذي زعم ما نقله عنه في السؤال، ولم نذكره نحن في
الجواب تكريمًا له، وأملاً منا بأن يبين هو الحقيقة بما يبرئ به نفسه مما اتهمه به
السائل أو يتأوله، وصرحنا بشكنا في عزو هذا المنكر العظيم إليه كما قاله السائل،
ولم نصرح باسم الصحيفة وهو (الوطنية) التي نشر فيه السائل هذه التهمة مبالغة
في كتمانها، فلما اطلع على المنار بادر إلى الدفاع عن نفسه بما أثبت التهمة وجنى
على القرآن جناية جديدة، فجاز لنا أن نصرح باسمه تبعًا له، ووجب أن نرد عليه،
ولو كان خطؤه في غير كتمان القرآن والاستدلال عليه بتحريف بعض آياته عن
موضعها وتصوير المسألة بغير صورتها لما كان من شأننا أن نرد عليه، ولكن هذا
الرد دفاع آخر عن حق القرآن.
يؤسفنا أن صاحب الزعمين هو الأستاذ الشيخ محمود محمود وكيل جمعية
مكارم الأخلاق، فقد نشر في الجزء التاسع من مجلة الجمعية الذي صدر في شهر
ربيع الآخر تفسير آيات له من سورة الأنعام منها قوله عز وجل: {وَلاَ تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: ١٠٨) فأدخل
في عموم النهي عن سب آلهة المشركين سب أهل الكتاب، بل قال: آلهة النصارى
... إلخ ما ستراه، ونقل عمن عبر عنه بقوله (عمدة العلماء في الأندلس) قوله:
(فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الله أو الإسلام أو الرسول فلا يحل لمسلم
ذم دينه، ولا صنمه، ولا صليبه، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك) اهـ.
ثم قال: (هذا هو مفهوم القرآن الكريم، والقرآن أعز علينا وأحب إلى قلوبنا
من صاحب المنار الذي حملته خصومته مع بعض الأساتذة أن يفتي في الجزء الأول
من عام ١٣٥٣ بما يخالف ذلك، ولعله قد نسي ما قاله في مناره في تفسير هذه الآية،
والكمال المطلق لله وحده، والعصمة خاصة بالأنبياء وما سمي الإنسان إلا لنسيه)
(أظن أن الشيخ قد كبر، فخانته ذاكرته، فقد نشر منذ أعوام أن العلماء
استنبطوا من هذه الآية أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها، وأن
إطلاق لفظ الكفر على من يحرم إيذاؤه من أهل الأديان محرم شرعًا إذا تأذى به،
ولا سيما في الخطاب، ونقل عن الغنية ومعين الحكام أنه لو قال للذمي: يا كافر.
يأثم إن شق عليه.
(وقد أغرب الشيخ في فتواه القائمة على مسألة مكذوبة، وطالب من المفتي
أن يتوب، وما سمعنا أن من أفتى فأخطأ - على سبيل الفرض - يطالب بالتوبة.
(بعد هذا أستطيع أن أقول وأظنك معي في الفهم: أن سب آلهة المسيحيين
وقديسيهم في هذا العصر الذي ضعف فيه المسلمون وتفرقوا وذلوا، وقوي الكافرون
واتحدوا وعزوا، ولا سيما بالمذياع (الراديو) يدخل في مفهوم هذه الآية، ولو لم
يكن فيه إلا تفريق الأمة وإفساد باطنها كما فسد ظاهرها، لكان كافيًا في استحباب
منعه، حتى يعود للإسلام عزه ومجده، وتكون كلمته هي العليا في الخافقين، كما
كانت في أيام سيد الكونيين والثقلين، ويظهره الله على الدين كله مرة أخرى،
وعسى أن يكون قريبًا إن شاء الله) اهـ.
(المنار)
إن الخطأ في تفسير الأستاذ الشيخ محمود محمود لهذه الآية كثير من ناحية
تفسير الآية، ومن ناحية الرد به على الفتوى التي أشار إليها، ومن ناحية ما تضمنه
من وصف المسلمين في هذا العصر بأسوأ الأوصاف وأخسها، ووصف النصارى
بأحسنها وأشرفها، ومن ناحية إثبات الآلهة للمسيحيين، وغير ذلك من النواحي، وما
كان لنا أن نتصدى لبيان تلك الأنواع من الخطأ فيها وفي غيرها، ولا أن نناظره في
شيء منها ولا من غيرها، إلا مسألة بعد المسافة بين آية سورة الأنعام في النهي عن
سب المسلمين لمعبودات المشركين، وبين الفتوى التي أفتاها هو في كتمان بعض
القرآن الذي يسوء أهل ذمتنا منهم بزعمه، وأهل ذمتنا لا يكونون أعز منا، ولا نكون
أذلاء لهم وهم تابعون لنا، ومسألة إفتاء المنار بأن كتمان القرآن لا يجوز، وأن الله
قد لعن فاعله إلا أن يتوب.
فإذا كان القرآن أعز عليه، وأحب إلى قلبه من صاحب المنار كما ادعى،
فصاحب المنار أحق أن يكون القرآن أحب إليه منه؛ فإنه أفتى بكتمان بعض آيات
القرآن؛ لئلا يسخط النصارى، وبكتمان بعضها عن النساء بزعمه أنها مفسدة لهن
وصاحب المنار أفتى ببطلان فتواه في المسألتين تعظيمًا للقرآن ودفاعًا عنه،
وتنزيهًا له عما ظنه فيه، وجزمًا بأن كل ما أُنزل فيه نافع لا ضرر فيه يبيح كتمانه
برأي مثله، ولا برأي أعلم أهل الأرض، فأي المفتيين أحق بعزة القرآن وحب
القرآن؟ الذي يزعم أن فيه سبًّا وشتمًا وإفسادًا للنساء يقتضي كتمانهما، أم الذي
ينزهه عن هذا وهذا، وعن كل ما لا يليق بكلام الله عز وجل، ويثبت أن كل ما
فيه صلاح وإصلاح يجب إظهاره والدعوة إليه، وتفنيد كل من يصد عنه؟
فإن كان ظن أن صاحب المنار كبر فخانته ذاكرته، فأنساه كبر السن ما نشره
منذ أعوام موافقًا لرأيه هو، فأفتى أخيرًا بما يخالفه (لخصومته مع بعض الأساتذة)
فأحرى به هو أن يكون صغر سنه هو، أو شرخ شبابه قد حال بينه وبين فهم ما
كتبه صاحب المنار أولاً وآخرًا؛ فإنه لا خلاف ولا تعارض بين فتوييه، ولم يقع
بينه وبين أحد من الأساتذة خصومة حملته على ذلك، وإنما يعني ببعض الأساتذة
نفسه، ولم يكن بيننا وبينه خصومة، بل كان آخر عهدنا بمودته المتصلة أن يبرنا
بر الولد لوالده، ونوده ود الأخ لأخيه، فكان بتواضعه يبالغ في المودة جهرًا،
ونعتدل فيها سرًّا وجهرًا، فالواجب عليه إذن أن يترك اتباع ظنه في صاحب المنار
{ِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: ١٢) ويأخذ باليقين في شأن نفسه، ونحن
لا نزال على فتوانا بعدم جواز سب النصارى ولا غيرهم، وإن كان فيهم من
يسبوننا ويطعنون في ديننا وكتاب ربنا ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا لما زعمه
باطلاً، بل لأن المسلم ليس بسبَّاب ولا لعَّان.
تحرير الموضوع أن الفتوى التي أفتاها صاحب المنار الشيخ الكبير، ورد
عليها الشيخ محمود الشاب الطرير، وكيل جمعية مكارم الأخلاق ومفسر مجلتها
ومفتيها النحرير، بما فسر به آية الأنعام برأيه وبنقله، لا يدخل في موضوعها ما
ادَّعاه من سب المسلمين الأذلاء بزعمه لآلهة النصارى الأعزاء وصليبهم وقديسيهم
بوهمه، وإنما موضوعها أنه لا يجوز كتمان شيء من آيات القرآن العظيم الحكيم
في هذا العصر بدعوى أنه كان لهذه الآيات ما يبررها في عصر نزولها دون هذا
العصر، هذا ما علل به فتواه أولاً بحسب ما نقله السائل عنه؛ وإنه لحوب كبير
وإثم عظيم، وقد زاده في الدفاع عنه في مجلة الجمعية إثمًا وجرمًا بما زعمه أن تلك
الآيات الكريمة متضمنة لسب آلهة القوم وصليبهم وقديسيهم، والقرآن أجل وأعظم
وأنزه من ذلك، وقد قال في أهل الكتاب: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} (العنكبوت:
٤٦) ولم يذكر صليبهم بسب ولا غيره، وكل ما قرره فيهم أحكام حق وعدل
وإصلاح ونزاهة، فهل هذه محبته للقرآن؟ وهل يقره عليه أعضاء جمعيته أو
أعضاء مجلس إدارتها كما يقرونه على جميع تصرفاته في الجمعية ومدرستها،
وتعليم صبيانها وبناتها؟ نحب أن نعلم هذا.
ومن فروع رده الغريب علينا قوله: إن أغرب شيء في فتوانا مطالبته بالتوبة
وإنه ما سمع أن من أفتى فأخطأ يُطَالَب بالتوبة. يعني بمطالبتنا إياه بالتوبة إيرادنا
لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا} (البقرة: ١٥٩-١٦٠) الآية، فهو يرد على تذكيرنا إياه بالآية الكريمة
بأنه ما سمع أن من أفتى فأخطأ يطالب بالتوبة، ولا يدري أن سماعه غير حجة
فضلاً عن عدم سماعه، فليخبرنا ممن سمع أن من يفتي بما يخالف كتاب الله
وإجماع المسلمين لا يُطَالَب بالتوبة ولا يجوز تذكيره بحكم الله في فتواه إذا كان في
قوله تعالى إرشاد له إلى التوبة؟ ومن قيَّد هذا التذكير بكتاب الله بهذا الشرط؟ وما
حجته على ذلك؟
إنني أعود فأطالبه بأن يتوب إلى الله من فتواه الأولى بخلاف كتاب الله، ومن
استدلاله عليها بما بينت بطلانه؛ فإن الأمر بالتوبة مشروع فيما دون ذلك على
الهفوات {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: ٣١)
فإن لم يقبل هذه النصيحة فليقتصر على ما هو أليق بها مما نشره في أواخر هذا
الجزء من المجلة من سب الشيخ رشيد رضا وشتمه والطعن فيه، وفي أستاذه الإمام
إن شاء، وإن كان يحظر سب الكفار، وله الأمان بأن لا نرد عليه بكلمة واحدة
ما لم يكن فيما ينشره عبث بالقرآن أو بالسنة، كعبث ذلك الشيخ الذي أفتى بأن كل
من يؤمن بظاهر القرآن من صفات الله كما كان يؤمن السلف الصالح فهو كافر،
وبغير هذا من البدع ومخالفة السنة، وكان الأستاذ الشيخ محمود من أنصارنا عليه،
وعاد الآن لتأييده ونصره، ونسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعليهما من كل ذنب،
ويهبنا كمال الإخلاص والتقوى، والسلام على من اتبع الهدى.