للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد التاسع والعشرين من المنار

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الأعظم الأجل، والثناء الأكبر الأكمل، لربنا ذي العظمة والجلال،
والكبرياء والكمال، مقدر الآجال للأفراد والأجيال، ومقلب القلوب ومحول الأحوال
على ممر السنين والأحوال , والتسبيح الأرفع الأسمى، لاسم ربنا الأعلى (الذي
خلق فسوى، والذي قدر فهدى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، عالم الغيب
والشهادة الكبير المتعال) .
خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقام بين عباده ميزان الحكم
بالعدل، وحكمه في كل من التكوين والتشريع هو الفصل، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ
مِن وَالٍ} (الرعد: ١١) .
والصلاة الإلهية النورانية، وتحية السلام الربانية الرحمانية، على خاتم دولة
النبيين، ولبنة الزاوية الذي أكمل الله به بناء الدين، وأتم نعمة هداية الوحي على
المؤمنين، محمد بن عبد الله العربي الأمي الملقب من قومه بالأمين، المرسل من ربه
رحمة للعالمين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه المهاجرين والأنصار، ومن اقتفى
آثارهم من المقربين والأبرار، واجعلنا اللهم من هؤلاء المصطفين الأخيار، الذين
يذكرونك ذكرًا كثيرًا، ويسبحون بحمدك بالغدو والآصال.
أما بعد، فإن المنار يذكّر قرّاءه في فاتحة مجلده التاسع والعشرين، بمثل ما
عهدوا منه في غابر السنين، من العظات والمثلات العامة والخاصة بالمسلمين،
وما هم عرضة له من صلاح وفساد، وما يحتاجون إليه من إصلاح وإرشاد، وما
له من هذا شأن فيه، وذكرى في نواحيه، وما أريد أن أذكرهم به اليوم أجل مما
سبق من أمثاله خطرًا، وأوسع فجاجًا وسبلاً، وأدق علمًا وعملاً، على أنه عين ما
ذكرتهم به من قبل في جملته، وإنما هو أجل منه شأنًا وأبعد شأوًا في تفصيله مع
ضيق وقته.
كان سير الأمم والشعوب فيما سبق وئيدًا، كالأباعر يحملن جندلاً أو حديدًا،
ثم صار يسير بسرعة البخار، فيما يجر من المركبات في البر والجواري المنشآت
في البحار، ثم صار يطير في الهواء، ويسير سفنه في جو السماء، ثم إن الإنسان
العالم العامل، فسر لنا كيف سخر الله له ما في السموات وما في الأرض باستخدام
الكهرباء لمنافعه، وتصرفه بنورها وقوتها النافذين في الكائنات كلها لمصالحه،
وهذا ما أشرنا إليه آنفًَا في الصفحة الأولى من الصحيفة الأولى من المنار؛ منذ إحدى
وثلاثين سنة هجرية.
كان أكثر ما وصفنا به أعمال الإنسان المستيقظ يومئذ حقائق واقعة، وأقلها
تصورات متوقعة، وقد وقع ما كان متوقعًا، وتجاوز كل ما كان متصورًا، وعدا
كل ما كان مقدرًا، وأغربها المناطيد والطيارات، وتقريب المسافات، ونطق
الجمادات، وتراسل أهل الأمصار البعيدة بالصور والمخطوطات؛ كتناجيهم
بالأصوات، واستماعهم للخطباء والعازفين والمسمعات (المغنيات) ، فمن هو في
العالم القديم، قد صار بمرأى ومسمع ممن في العالم الجديد، بل ظهر من أسرار
الله في هذه الكهرباء ما صار به كل ما كان يستغرب من أخبار الوحي عن عالم
الغيب غير غريب، وكل ما كنا وصفنا من سعة سير الإنسان في أطوار الحضارة
بطيئًا غير سريع، بل كشف من عجائب سنن الله في الكهرباء ما لم يكن يخطر
على قلب بشر، وهو كل يوم في ازدياد، والناس من عجائب صنع الله في شأن،
يتنقلون بها من طور إلى طور، يتوقلون في نجد ويهبطون إلى غور، وقد عمت
مصنوعاتها الخافقين، فهي مبصرة بالعينين، مسموعة بالأذنين، ملموسة باليدين
موطوءة بالرجلين.
لكن كل هذه العلوم الزاخرة، والفنون الساحرة، والصناعات التي لو خفيت
أسبابها لعدت من السحر أو المعجزات، لم تزد المستمتعين بها إلا فسادًا في
الأخلاق وكفرًا بنعم الخلاق باستعمالها وسائل للحرب والنزال، وأسلحة للعدوان
والصيال، وآلات لتخريب ما لغيرهم من عمران، وتدمير ما لهم من بنيان، أو
يكون لهم ملكًا وأهله من العبدان، فماذا يجب على المسلمين أن ينتفعوا به من تلك
العلوم، وماذا يجب عليهم من اتقاء ضررها؟ .
طغى الغرب على الشرق بقواه العلمية والآلية يستغله ويستذله، ثم دفع دوله
التنازع على غنائمه والسيادة على أهله إلى طغيان بعضهم على بعض في حروب
صغيرة وكبيرة، حتى جاءت الطامة الكبرى وحرب المدنية العظمى، فخربوا
بيوتهم بأيديهم، وأحرقوا ثمرات كسبهم بنارهم، وأضاعوا فيها من رجالهم العاملين
زهاء عشرين ألف ألف نسمة بين قتيل ومشوه، من أقطع وأبتر وأجذم، دع عدد
المسلولين من مخابئ الخنادق والسراديب الشديدة الرطوبة على جوعهم، وفقدهم
الثياب الكافية لتدفئتهم، وأكثرهم كَلّ على أهله وحكومته، ولعل جملة خسائرهم في
أربع سنين تربي على ما ربحوه كلهم من الشرق في مائة سنة أو أكثر.
فإن كانوا كسبوا بهذه الحرب توسعًا في العلوم والفنون والصناعات، فقد
أعقبتهم فسادًا على فسادهم، وزادتهم رجسًا إلى رجسهم، فهم يستعدون في الباطن
لحرب أشر منها وأضر وأدهى وأمر، من حيث يسعون في الظاهر إلى عقد
المحالفات؛ لتحديد صنع الأسلحة وتقليل إنشاء الأساطيل والطيارات، وما كانت
عهودهم إلا دخلاً بينهم؛ أن تكون أمة هي أربى من أمة. فكل دولة من دولهم تمكر
بالأخرى وتكيد لها، بل هم يكيدون لشعوبهم ويمكرون بها، أعني أن كل حكومة
تمكر بشعبها نفسه وتخدعه؛ ليواتيها ويؤيد سياستها الحربية ويقرر لها نوابه المال
الذي تطلبه لها، وقد أحدثت الحرب الأخيرة في قلوب هذه الشعوب مقتًا للحرب
ورعبًا؛ مما عرفوا من أهوالها، ضاعف ما في الغرائز من كراهتها، فإذا جاءت
الحرب التالية كانت هي القاضية، ولن يستطيع أعداء البشر من وزراء دول
الاستعمار أن يتصرفوا في أموال شعوبهم وأنفسها بكيدهم تصرف سفهاء الوارثين،
وخونة القوامين على اليتامى والمجانين، ولا أن يسوقوا مئات الألوف بل
الملايين من شبان مستعمراتهم إلى جحيم الحرب، كما تساق الغنم إلى مجازر الذبح،
ولا أن يستحوذوا على ذهبها وفضتها وغلالها ومواشيها وجمالها وخيلها وبغالها
وحميرها فينتزعوها بالقوة القاهرة، كما فعلوا في الحرب السابقة، وإن صادفوا من
رجال حكوماتها المحلية من يسخرونهم لذلك كما سخروا الحكومة المصرية، فكيف
إذا لم يجدوا حكومةً وطنيةً قابلةً لمثل ذلك التسخير الذي لا يرضى به إلا الحمير؟
فلا ييأسن مسلم ولا شرقي من تحرير أمته من رق أوربة، فإن الفرصة ستسنح عن
قريب، والويل يومئذ للغافلين والمتخاذلين، بل الويل الأكبر للشعب الذي يفرق شمله
ملاحدة المجددين، فهم الخطر الأكبر على المسلمين وسائر الشرقيين.
ازدادت أوربة بعد الحرب علمًا وصناعة، وكذلك ازدادت جشعًا في
الاستعمار، وطمعًا في الدرهم والدينار، وضراوة في سفك الدماء , وتفننًا في المكر
والدهاء، وصراحة في نقض العهود، وإخلاف الوعود، كما فعلوا في البلاد
العربية التي ضمنوا لها الاستقلال والحرية، ثم تجاوزوا بالعدوان عليها ما كانوا
قرروه سرًّا من اقتسام ذات الثروة الغزيرة منها: تجاوزوا العراق وسورية
الساحلية إلى الصحراء العربية، بل إلى البلاد المقدسة الحجازية، فاقتسموا سكة
الحديد الممتدة من سورية وفلسطين إلى المدينة المنورة؛ وهي وقف إسلامي على
الحرمين الشريفين ثم انتزع الإنكليز منطقة العقبة ومعان التابعة لمدينة الرسول
- صلى الله عليه وسلم - وأنشئوا يقيمون فيها الثكنات العسكرية والمعاقل الحربية،
وسيمدون فيها سكة حديدية تصل ما بين العقبة والبصرة، أو ما بين ساحل الحجاز
من البحر الأحمر وشط العرب، وحينئذ يكون أداء فريضة الحج تحت مظلة
سلطانهم، وذلة صلبانهم من كل بر وبحر، ويكون الحرم النبوي تحت رحمة
طياراتهم وجنودهم في كل وقت، كل هذا فعلوه بمساعدة الشريفين المكيين
الهاشميين والحسنيين الأميرين الملكين ملك الحجاز - بزعمه - في ذلك الوقت
الشريف علي، وأمير شرق الأردن البريطاني إلى يومنا هذا الشريف عبد الله، فإذا
سكت العرب على هذا العدوان جهلاً، فلماذا يسكت سائر المسلمين والحجاز قبلة
ومنسك للجميع؟ وماذا يخافون والله يقول: {فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٧٥) .
سارع الإنكليز وحلفاؤهم بعد الحرب إلى استعباد ما لم يكونوا قد استعبدوه من
الشرق، وجعله كله من غنائمهم المحللة لهم، وظنوا أنهم قد ملكوا القسطنطينية
العظمى وبحر مرمرة والبحر الأسود والقسمين الجنوبي والشرقي من البحر
المتوسط وبلاد العرب من مصر والبحر الأحمر إلى شط العرب وبلاد إيران، وأن
قد اتصلت مصر بالهند، وستتصل بمدينة الرأس، ولكن ماذا كان؟ استبسل لهم
الترك استبسال المستيئسين فطردوهم من الآستانة وما حولها، وتنمر لهم الفرس
تنمر المستهتر المستقتل، فأحبطوا أملهم في إيران وضربوا بقصاصة معاهدة
كرزون عرض الحائط، وأعلنوا الاستقلال المطلق، وإلغاء الامتيازات الأجنبية فتم
لهم ما يريدون، وقامت في وجوههم ثورة مصر العزلاء، فاضطرتهم إلى إلغاء
الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال والسيادة القومية. ولكنهم قدموا هذا الاعتراف
بتحفظات، لا تزال مثار النزاع والمفاوضات.
وقامت على إدارتهم الهندية في العراق الثورة المسلحة، فألجأتهم إلى تأليف
حكومة عراقية ملكية. لكنهم جعلوا فيصل بن حسين أخلص صنائعهم لهم ملكًا عليها،
يحقق لهم بالسلم والاقتصاد كل ما يريدون منها، وسوف يخيب بتوفيق الله أملهم
فيها.
وآذنهم بالحرب أمان الله خان أمير الأفغان، فاضطروا للاعتراف له
بالاستقلال المطلق التام، وكانت بلاده تحت حمايتهم المذلة، فأصبحت عزيزة
مستقلة، وكان ما كان من أمر ثورة الصين عداوة لهم ونبذًا لسيطرة امتيازاتهم
واستعمارهم، فحاولوا تأليب أوربة عليهم كما هو المعروف من شنشنتهم، فخذلتها
الدول في هذه المرة، وما كل مرة تسلم الجرة، فعادوا خاسرين وانقلبوا خاسئين.
وثبت الإمام يحيى في اليمن على سياسته السلبية معهم، فلم يستطيعوا إقناعه
بالاعتراف لهم بأدنى حق في بلاده، بل لا يزال يطالبهم بالمقاطعات التسع وبعدن
نفسها.
وانتزع ابن السعود الحرمين الشريفين من صنيعتهم الشريف حسين الذي ولوه
عليه، وكان يعترف لهم بأنه موظفهم فيه، ونقض ما كان من اتفاق سنة ١٩١٥ الذي
كان ضربًا من الحماية، واضطرهم إلى الاعتراف له بالاستقلال التام المطلق في
الحجاز ونجد وملحقاتها ولا يزال الخلاف بينهما قائمًا على السكة الحجازية ومنطقة
العقبة ومعان، يطالبونه بالاعتراف بدخول هذه في شرق الأردن أو بالسكوت لهم
عنها، وينذرونه تأليب عرب العراق والأردن عليه، وتهييج مسلمي الهند وإيران
ومصر عليه.
نعم.. يطمع الإنكليز بالاستيلاء على الحجاز بقوة المسلمين عامة والعرب
خاصة؛ لأنهم رأوا من تخاذل العرب الوطني والجنسي، مثلما رأوا من تخاذل
المسلمين الديني، فكان زعيمان من أشهر خصومهم في الهند أشد خدمة لهم في هذا
السبيل من أخلص صنائعهم في بلاد العرب (الملك فيصل والأمير عبد الله) ،
هذان يهددان ملك الحجاز ونجد، ويعتديان حدود الله بالتعدى على حدوده والتحرش
بقوته، وذانك قد اجتهدا في إيقاع الفشل في المؤتمر الإسلامي العام الذي أجمع على
الإنكار على الإنكليز مسألة العقبة ومعان، ومسألة اقتسام منافع السكة الحجازية
بينهم وبين أحلافهم الفرنسيس. وما فعلا ذلك حبًا في الإنكليز بل بغضًا في ابن
السعود؛ لأنه لم يتبع هواهما فيما يريدان أن تكون عليه حكومة الحجاز وهو هوى
باطل، وتنفيذه محال وطلبه غرور بل جنون.
هذه حالهم في الشرق، خابوا في كل عمل، وانكشف خداعهم لكل أحد، ولم
يبق لهم أمل جديد إلا في بلاد العرب، ولولا فيصل وعبد الله ولدا الشريف حسين،
لرجعوا منا بخفي حنين؛ إذ كان يستحيل على التقاليد الإنكليزية أن تستولي على
شيء من أرض الحجاز لنفسها، وقد سبق لنا أن استنجدنا العالم الإسلامي على
والدهما موجد هذا الخطر فأنجد. والآن نستصرخه ليتم ما بدا، وينقذ حرم الله
وحرم رسوله من الردى.
إن الدفاع عن الحجاز واجب على المسلمين أينما كانوا، كل بقدر طاقته، فإن
استيلاء الإنكليز على ثغر العقبة وحده أكبر خطر على المدينة المنورة، وإن هذه
البلاد قد حرمها الإسلام على غير المسلمين، فلا يجوز لإنكليزي ولا لغيره أن يملك
فيها ذراعًا ولا شبرًا، ولا أن يصدر فيها نهيًا أو أمرًا، فإذا لم يبال المسلمون كافة
بمبدأ دينهم، ونقض الأجانب لوصية نبيهم، ولا بجعل ركن الإسلام الاجتماعي
العام تحت رايتهم ووصايتهم، فأي دين يبقى لهؤلاء المسلمين؟ أيظنون أن الإنكليز
يحافظون على حرية الحج وكرامة الحرمين في ظل ملكهم حامي الكنيسة الإنجيلية،
وهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويقرءون في الكتب والصحف ما يفعل دعاة
النصرانية في ثالث الحرمين (القدس) ؛ من الطعن في الإسلام، والتواطؤ على
تنصير جميع مسلمي الأرض، وتخصيص الحرمين الشريفين وعرفات وسائر
العرب بالذكر؟ وقد ظهر لهم سر قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل
الإسلام) رواه أبو يعلى بسند صحيح.
أيها المسلمون:
أصغوا، أصيخوا، أنصتوا، استمعوا، وانظروا، وتأملوا في عاقبة دينكم،
وبيت ربكم، وحرم رسولكم، ليست المسألة مسألة حكومة ملكية أو جمهورية، ولا
مسألة أسرة سعودية أو هاشمية، ولا مسألة وطنية حجازية أو يمنية أو نجدية، ولا
عصبية مذاهب سنية أو زيدية أو إمامية، ولا قضية جنسية عربية أو فارسية أو
أفغانية أو هندية، ولا تعاليم سلفية وهابية أو خلفية تأويلية، بل المسألة العظمى
وهي الطامة الكبرى مسألة الديانة الإسلامية والملة الحنفية والوصية المحمدية، كل
ذلك على خطر الزوال، والذل والخزي والنكال؛ إذا ظل الأجانب محتلين بقواتهم
العسكرية للعقبة ومعان إن سكتنا عن القدس وشرق الأردن الآن، وهم يخترقون
منها قلب الصحراء العربية إلى العراق.
سبحان الله! ما بالكم تسمعون الإنكليز يصرحون بأن استقلال المصريين في
مصرهم خطر على الهند البريطانية - وبريطانيا أقوى دول الأرض - ولا يكون
احتلالهم هم للعقبة ومعان وعمان واستيلاؤهم على سكة الحديد الحجازية مع
حلفائهم الفرنسيس خطرًا على الحجاز، وليس للحجاز دولة ذات قوة برية بحرية
جوية، يمكنها أن تدفع عنه هاتين الدولتين القاهرتين كلتيهما ولا واحدة منهما،
اللهم إلا قوة الإيمان في الشعوب الإسلامية التي يجب أن تكون مع الحجاز إلبا
واحدًا عليهم.
ألا يجب عليكم شرعًا أن تستعملوا قوتكم المعنوية، فتجمعوا على مطالبة
الدولة البريطانية بترك ما انتزعت من الحجاز للحجاز، وتطالبوا الدولتين وسائر
الدول بالاعتراف باستقلال الحجاز وسائر جزيرة العرب، وبكونها بلاد حرة حيادية
لا يعتدي عليها أحد؟ بلى والله لئن سكتم عن هذا، ليحكمن عليكم الأجانب بالموت
والفناء أو لتكونن أنتم والحشرات الدنيئة في نظرهم سواء.
انظروا وتأملوا: لماذا أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم في مرض موته بإخراج
اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأن لا يبقى فيها دينان؟ على ما علمتم من
تسامح الإسلام وما جاء به من حرية الأديان؟ أليس قد أوصى بذلك؛ لأن حرم الله
وحرم رسوله في الحجاز؟ وهما مهبطُ الإسلام ومثابةُ أهله ومفزعُهم وملجؤهم عند
الشدة، ولا يتم ذلك إلا إذا كان الحجاز خاصًّا بهم هو وسياجه من جزيرة العرب.
إذا كان هذا المعنى قد خفي على بعض العلماء المتقدمين، فلا يصح أن يخفى
على عوام المعاصرين فضلا عن العلماء ولا سيما المحدثين الذي اطلعوا على قوله
صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحْرها)
رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، وهو يأرز بين المسجدين كما
تأرز الحية في جُحْرها) رواه مسلم من حديث ابن عمر، وحديث (إن الدين ليأرز
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحْرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
من رأس الجبل) .. إلخ، رواه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني، ومعنى أرز:
عاد وانكمش وانضم، والمراد الذي يدل على مجموع الروايات وحالة هذا العصر:
أن الإسلام عندما يضعف ويعود غريبًا ينكمش إلى الحجاز ويلجأ إليه، فيعتصم به
كما تعتصم الوعول في رؤوس الجبال، وهو الواقع الآن الذي أظهر لنا حكمة
وصيته صلى الله عليه وسلم بأن لا يبقى في جزيرة العرب غير الإسلام.
أيها المسلمون: إن الدولة البريطانية أطمع الدول ولكنها أعقلها، فإذا رأت
إجماع السواد الأعظم منكم على مطالبتها بما ذكرنا، وإذا بثثتم الدعوة في العالم
الإسلامي كله على وجوب عداوتها ومقاطعتها، فإنه يرجى أن تترك منطقة العقبة
ومعان للحجاز في المفاوضة السياسية التي ستكون بينها وبين حكومته عن قريب؛
لأن البت فيها قد أرجئ إلى هذه المفاوضة، وكذلك مسألة سكة الحديد الحجازية،
فإن لم تفعل وجب على كل مسلم أن يبث الدعاية التي أشرنا إليها آنفًا بمقتضى
النظام الذي يضعه الزعماء لها، وقد آن وقت الفصل بين الإسلام والإنكليز: فإما
صداقةٌ تامةٌ وهي خير لنا ولهم، وإما عداوةٌ عامةٌ ولن تكون شرًّا علينا منهم.
إن الدولة البريطانية تعلم أن لدى الإمام عبد العزيز بن السعود قوة حربية لم
تر مثلها جزيرة العرب بعد عصر الصحابة، وأن الجيش البريطاني لا يمكنه أن
ينازل هذه القوة في نجد ولا في الحجاز؛ لأسباب جغرافية وسياسية وتقليدية
واقتصادية معروفة، وأن الطيارات ما صارت قوة فاصلة في الحرب ولا سيما في
مثل هذه الأرض، فسالمته ودارته من جهة، ووضعت على حدوده في نجد
والحجاز عدويه الحاقدين عليه في العراق وشرق الأردن من جهة ثانية، وهو أقوى
منهما، ولكنه لا يرضى أن يتقارع العرب والمصلحة لغيرهما.
أفلم يئن للعرب أن يعرفوا كيف أسست أمبراطورية الهند وغيرها بمثل هذه
الحيل، أو لم يئن للمسلمين أن يتقوا الوقوع اليوم في شر مما وقع فيها من أضاعوا
بلادهم من قبل، وهو إضاعة دينهم مع بقية دنياهم.
أيها المسلمون: إن الإسلام لا يزال قوة عظيمة في الشرق كله؛ إذا وجد لها
زعماء جامعون بين العقل والعلم والحزم، فإنه يمكنهم أن يحفظوه ويرقوه ويحفظوا
له بقية بلاده، ويستعيدوا الكثير مما فقد منها، بل يمكنهم أن يحلوا بها عقدة مشكلة
المدنية الكبرى، ويعمموا نشره في بلاد الغرب كلها، أقول هذا عن علم وخبرة
اكتسبتها في بحث استمر زهاء ثلث قرن، ولما أجد لها الزعماء الصالحين لتنفيذها.
وكان شيخنا الأستاذ الإمام موقنًا بهذا وصرح به في الدرس العام بالجامع
الأزهر، وكان قبله حكيم الإسلام والشرق السيد جمال الدين موقنًا بهذا، ويحاول
أن يكون بسعيه - وكان قبلهما بطل أوربة نابليون بونابرت يحاول ذلك عن عقيدة
راسخة - وما أحبط سعي هؤلاء كلهم إلا الدولة البريطانية، وهي التي تحاول
إحباط عمل كل عامل يعمل للإسلام أيضا ما استطاعت. ولكن الزمان قد اختلف،
ومثل هذا العمل يعمله الإنكليز سرًّا لا جهرًا، وكل قوتهم فيه خفاؤه وإخفاؤه، فمتى
ظهر فشل إذا أحكم في مقاومته العمل.
أيها المسلمون: إن مدنية أوربة المادية، لا تجد لها منفذًا من الهلاك القريب
في التنازع بين عباد المال والشيوعيين، وفي الإسراف في الشهوات والمطامع إلا
بدين القرآن، فعلى المؤمنين الراسخين أن يعجلوا بإنقاذها به قبل أن تقضي هي
على ما بقي لهم من ملك وملك وثروة وقوة، وقد شرحنا لهم هذا المعنى في كتاب
الخلافة، وسيرون في باب أحوال العالم الإسلامي من الجزء التالي تتمة ما كنت
عزمت على بيانه من جوانبه في هذه الفاتحة. فمن لم يعلم فليبحث وليسأل إن كان
لديه من الإيمان ما يؤهله للعمل، وإلا فلا يغشن نفسه بدعوى الإيمان.
اللهم إنك قد أمرت بالتبليغ، وقد بلغت ما عندي، اللهم فاشهد وأنت خير
الشاهدين.