حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ العظيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية حفظه الله، وأدام النفع به آمين. السلام على سيدي الصديق ورحمة الله، أما بعد: فقد طلع على العالم الإسلامي في هذا الأيام الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم، الذي دبجه يراعك، وأحكمه تفكيرك ورسوخك في علوم الدين، فقد أودعت فيه من آيات العلم والحكمة ما يشهد لك بالنبوغ والتفوق على رغم من حسادك، ولقد كان من دلائل نصر الله لك على الدوام أن تزداد ثقة الناس بك واقتناعهم بعظيم فضلك، كما برز لك أثر جليل - وآثارك الجليلة لا تنقطع - وأن تشتد حاجتهم إليك وإلى قولك الفصل كلما ظهرت فتنة عمياء، تكاد لشدتها تقضي على الكثير من الحق، وتنتقص من أطراف النور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وسار عليه الراشدون من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين؛ لأنك من وقت إلى آخر تطلع على الناس في منارك بما يزيل الجهل ويمحو آثار الظلمة، ولقد عرفك الناس من عهد بعيد، وعرفك المنصفون منذ بدء حياتك العلمية على خير ما يعرف العلماء الأفذاذ. ولقد كان إعجاب رجال العلم الديني بك شديدًا في جميع بلاد الإسلام؛ منذ ظهرت مجلة المنار الإسلامية التي أنشأتها من ثلاثين عامًا، ولا تزال تنشئها بفضل الله إلى اليوم حافلة بالأبحاث العلمية القيمة التي لا توجد في أمهات الكتب، ولا يخلو عدد من أعدادها من مشكلة دينة يكشفها منارك، وقد خفي أمرها وتعذر حلها على كثير من الرجال المبرزين. أما المتقدمون فعذرهم أن أحداث الناس الاجتماعية التي لها صلة بالدين، لم يكن قد اتسع نطاقها، ولم تصل في كثرة وجوهها المختلفة إلى ما وصلت إليه اليوم وقد كانت أمارات الحوادث الدقيقة التي يحملها كتاب الوجود العام غير واضحة للعقول، وليس في إمكان العقل مهما قوي أن يقضي قضاءه الصحيح في حادثة لم يكشف لها الوجود وجه الدليل، والعقل الإنساني في فطرته السليمة اليوم أقوى منه بالأمس؛ لأن مواد التغذية العقلية الآن بين يديه أدسم وأوفر، وليس التفاضل بين المتقدم من القرون والمتأخر منها راجعًا إلى جوهر العقول، واستكمال عناصرها الذاتية، فالعقل هو العقل، والقرآن هو القرآن، وشواهد هذا العصر أتم منها في كل عصر سابق، وإنما مرجع التفاضل؛ ضعف الإرادة وتأثرها بالأوساط السيئة التي لم تكن لها قوة في عصر النبوة ولا في القرون التي تليها. أما العقل من حيث ذاته وجوهره فلا دخل له في هذا التفاضل، فالمسألة هنا وهناك مسألة هداية وتوفيق. وأما المتأخرون، فعذرهم إن صح أن يكون ذلك عذرًا أنهم أضاعوا كل شيء وباعدوا بينهم وبين منهل التشريع الإلهي، وما مثلهم في حياتهم العلمية الدينية إلا كمثل من استعمل الماء الآسن في حياته للشرب، ينحدر من مستنقع إلى مستنقع، وقد انقطع تمام الانقطاع عن مهبط السيل ومجاري الأنهار، لا يحمل غير جراثيم الضعف وعوامل الفناء - كذلك رجال الدين في عصورهم المتأخرة، قد انقطعوا عن الكتاب والسنة وعن فهمهما على الوجه الصحيح، وهما بلا شك مصدر الحياة والقوة، عليهما مدار السعادة التامة - لهذا لا بدع إذا وهبك الله من الذكاء والفهم في الدين ما لا عهد للناس به، ومكنك من استعراض الحوادث والحكم عليها بما لاح لك من الأمارات والدلائل، وليس ذلك بدعًا في دين الله ولا من الدعاوى العريضة كما يظن الجاهلون؛ لأن الإنسانية الكاملة التي لا تسابق ولا تجارى هي إنسانية الأنبياء وحدهم لا يشاركهم فيها مشارك؛ لأنها موهبة من الله تعالى خاصة بهم لا دخل للكسب فيها و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: ١٢٤) . أما من عداهم من الورثة فلكل نصيبه بقدر اجتهاده، فكتاب الله الذي خاطب به العالم على السواء، لم يتغير ولم يتبدل وكذلك سنة رسوله، وفضل اليوم على الأمس ما دام الإنسان مرموقًا بالهداية والتوفيق، إن العقل أقوى والدلائل أوضح، وإن كان الفضل دائما للمتقدم. وليست المسألة أكثر من متشابهات في الدين، يجليها الله على يد من يمنحهم فضله، ولا تقوم الساعة إلا والحلال كله بيِّن والحرام كله بيِّن، حيث يرد العقل بالدليل كل مشتبه في الماضي إلى فصيلته الحقيقية. وإذا لم يحقق الله بك وبأمثالك هذه السنة فيمن يحققها؟ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: ٢١) . وقد كان من مزيد توفيق الله لك؛ أن خصصت جزءًا عظيمًا من منارك لتفسير كتاب الله تعالى على طريقة لم تسبق إليها من كبار رجال التاريخ [١] في عصور الإسلام، فقد وجهت كل عنايتك إلى بيان أغراض الكتاب والكشف عن مراميه، وأجهدت نفسك في لفت العقل إلى روح التشريع الإلهي وإظهار سره في الوجود، ولم يفتك المهم من الأبحاث الإصلاحية التي ألهت جمهور المفسرين عن غرض الكتاب الأسمى، وصرفتهم عن الغاية التي من أجلها نزل الكتاب الكريم؛ وهي الهداية والسعادة. نعم.. لا ننكر نحن ولا أنت أن واضع طريقتك ومحكم أساسها هو أستاذنا الإمام؛ الذي جدد الله به عهد الإسلام على رأس القرن الرابع عشر الهجري (الشيخ محمد عبده) رحمه الله ورضي عنه. ولكن إحكام البناء إلى التمام على الوجه الذي وضع عليه هذا الأساس المتين لشاهد صدق على النبوغ والتفوق. ومن الإنصاف أن نجاهر بأن الروح التي جارت في عملها التكميلي روح ذلك المؤسس الحكيم؛ لهي الروح الكبيرة التي تستحق مزيد الإكبار والإجلال، والتي لها مع استعدادها الفطري القوي بالمؤسس العظيم مزيد صلة وارتباط؛ لأنك في أبحاثك القيمة تأتي كل يوم بالجديد المثمر، ولا زلت ترقب عن كثب في تفسيرك وأبحاثك الدينية آثار سنن الله في الوجود، وهي نعمة كبرى لن تستطيع شكرها مهما حاولته، وسر هذه النعمة فيما أعتقد أنك آمنت، كما آمن الموفقون من قبلك بأن خير ما يفسر به كتاب الله فعل الله وسننه في عالم الشهادة، وكثيرًا ما أسمع من أهل العلم وعنهم أن سبب انحطاط المسلمين؛ هو عدم العمل بالدين، وهو كلام حق في ذاته إن لم يريدوا الدين بحسب تقدير عقولهم. إلا أن وراء هذا القول حلقة مفقودة يجب إظهارها للعالم والتصريح بها على الدوام، حيث السعادة موقوفة عليها في نظر العقل والدين معًا: هي أن سبب التأخر الحقيقي عدم فهم الكتاب والسنة على الوجه الصحيح؛ لأن فهمهما كذلك يولد الإيمان بهما إيمانًا قويًا، والإيمان بهما كذلك لا محالة يولد السعادة والقوة والعمل الصالح، رغم الصوارف التي ازدحم بها الوجود، فالوجود ملوث بمثل هذه الصوارف منذ بدء الخلقة، والصراع قديم بين الخير والشر وبين النور والظلمة. ولقد أخذتني الدهشة يا صديقي حينما اطلعت على الجزء الأول من التفسير الذي أخرجته في هذه الأيام مستقلاًّ عن مجلة المنار، لأنا كلما تصفحنا منارك وراجعنا ما ظهر من التفسير، نظن أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإذا بالجزء الأول يطالعنا بخير ما أخرج للناس في هذا الباب. وفي الحق أن هذا السفر آية الآيات ومعجزة المعجزات في التفسير إلى اليوم وليس من المبالغة في القول أن أصارحك بأن هذا السفر الجليل منحة إلهية كبرى، قدر الله بها أن يكمل فضلك، ويعظم أمرك، وما يدرينا ما يجود به الغيب عليك في المستقبل القريب والبعيد. لهذا أحمد الله لك، وأرجو أن يديمك سعيدًا آمنًا في سربك، صحيحًا في بدنك؛ لتكمل التفسير على النحو الذي سرت عليه إلى اليوم، كما أرجو أن يوفقك الله قريبًا لإنجاز تفسير متوسط ينتفع به العامة والخاصة، فالخير كل الخير في هدي الكتاب. ولقد حقق الله لي يا صديقي ما كنت أرجوه من قبل، فقد تمنيت من عهد بعيد أن أكتب عنك كلمة الحق التي امتلأت بها نفسي؛ ليسجلها التاريخ لي ولك فيما يسجل، وأنا أحوج إليها منك؛ فلك من الآثار الخالدة في خدمة العلم والدين ما لا سبيل إلى إنكاره. أما أنا فأقل ما أنتفع به من وراء هذه الكلمة الصادقة أن يقول المنصفون: إنها كلمة حق بريئة من الحقد والحسد، فرحم الله قائلها. وقد كانت هذه الأمنية اللذيذة تتردد وتقوى في نفسي كلما انتشر فضلك، وازدادت عناية الله بك، إلا أن الحياء الشديد قد حال دوني ودون أمنيتي، فقد خشيت أن تقصر العبارة عن آداء ما تحمله نفسي لك من الإكبار، فيمقتني منصفوك وعارفو فضلك، أو يقول حسادك وهم كثيرون: إن الأمر لا يعدو مدح صديق لصديق؛ أما وقد ظهر الجزء الأول من تفسيرك وفيه من الإبداع ما لا عهد لنا به، ومن الزيادات ما لم يشافهنا به الأستاذ الإمام في درسه، فها أناذا أتقدم إليك بكلمتي هذه شاكرًا داعيًا لأبلغ النفس أمنيتها غير مبال بالتقصير، ولا بما يتحدث به الجاهلون والحاسدون، وتفضل يا صديقي بقبول خالص تحياتي والسلام. ... ... ... ... ... ... ... علي سرور الزنكلوني ... ... ... ... مدرس التفسير والحديث بالقسم العالي للأزهر (المنار) الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني من أشهر علماء الأزهر المستقلي الفكر العارفين بحال العصر، وحاجة المسلمين إلى الإصلاح الديني والمدني، وإخوانه المشاركون له في هذه المزية قليلون، ولو كانوا كثيرين لما كان الأزهر محتاجًا إلى الإصلاح، وحاجته إلى الإصلاح صارت مسألة اجتماعية بين جمهور أهله حتى الجامدين منهم وبين سائر طبقات الناس، لا خفية كما كانت في أول عهد الأستاذ الإمام , وقد كان الجامدون يضطهدون هؤلاء العلماء المستقلين ولا سيما دعاة الاعتصام بالكتاب والسنة. ولكن الزمان يظهر فضلهم وشدة حاجة الأزهر إليهم وسيكونون هم المحبين للعلم فيه إذا أذن الله أن يعود إليه مجده كما يحب كل مسلم ثم إن الأستاذ الزنكلوني ممتاز فيهم بالصراحة والفصاحة قولاً وكتابة وخطابة ومناظرة، يمده في ذلك ما أوتي من عزة النفس والشجاعة الأدبية، فهو يقول ما يعتقد ولا يبالي بمخالفه فيه مهما تكن منزلته، ومهما يكن سبب خلافه له، وهذا ما أشار إليه بقوله في آخر كلمته: إنه لا يبالي بما يتحدث به الجاهلون والحاسدون. لست أقول هذا لأثيبه حمدًا بحمد، وأقارضه ثناء بثناء، فكل منا بعيد الطبع والخلق عن هذه التجارة أو المداينة، وإنما قلته لأبين لبعض قراء المنار في الأقطار النائية الذين لا يعرفون من مزايا الرجل ما تعرفه مصر، ومن لا يحصى من زائريها في هذا العصر، أن قيمة كلمته عندي ليست في إطرائي الذي لا أستحقه بل في صدورها عن عقيدة وإخلاص، مع تواضع حمله على الاعتذار، فقد أرسل إليَّ معها رقعة قال فيها: (هذه كلمتي أبعث بها إليك؛ عنوان فرح وشكر لله على ظهور الجزء الأول من التفسير، أكتبها وأنا متحقق بأنها غير وافيه بالغرض. ولكن شفيعها إخلاص صاحبها) فهو كأفراد أجواد العرب الذين كان أحدهم يبذل النوال العظيم وربما كان كل ما في يده؛ ثم يعتذر مع هذا لمن يبذله له. ما هذه أول منة لصديقي التليد الشيخ علي سرورعلى المنار، بل كان في أيام المجاورة يدعو إلى المنار في أيام مسامحات الأزهر، ويطوف على البلاد في مديرية الشرقية وغيرها فيحصل قيمة الاشتراك من المشتركين، ثم يوصلها إلينا ولا يأخذ على ذلك عمولة ولا جزاءً - وكان هذا قبل شروعه في حضور دروس الاستاذ الإمام - فهو عملٌ دعته إليه فطرته الزكية وميله العقلي إلى الإصلاح، فالله تعالى يشكر له ذلك ويثيبه عليه والله شاكر عليم.