سلام عليكم أيها القارئون ورحمة الله وبركاته، وإنعامه وإكرامه، هذه كلمات قليلة قدمتها لكم على صفحات هذه المجلة النافعة، أشير فيها لبيان شيء من حال علم الكلام وأختمها بذكر طريقة سهله للسالك قريبة للآخذ في إثبات الوحي. الذي دعاني لتحرير هذا كيفما التفت الإنسان بحسه أو فكره لا يجد شيئًا إلا وشيء آخر يقابله هو ضدٌّ له، وكيفما تقلب لا يلقى نفسه إلا بين شيئين يُسمَّى أحدهما (المحبة) والآخر (النُّفرة) . وكيفما تحرك فهو إما طالب لما يحب، وإما هارب مما ينفر، يا ويح الإنسان الذي يشتغل مدة حياته بالطلب والهرب، ثم يا ويحه حين يرى لما يطلبه طلابًا كثيرين يزاحمونه وينازعونه، ثم حين يجد نفسه غير مستقل فيما يحب وينفر يحب شيئًا فيعاتب ويكره شيئًا فيعاقب، ثم يا ويحه حين يعلم أفراد نوعه متاضدين ومتجادلين من أجل التضاد. هذا الجدال قد يحتدم بين الإخوة بني النوع من أجل الاحتياج الذي فطروا عليه، وقد يكون الاحتياج دواء مسكنًا من هذا الغليان، وطالما شوهدت أشياء مثل الاحتياج تكون داءً ودواءً. من أجل الاحتياج يتفرق النوع ويتخاذل، ومن أجله يلتئم ويتعاون، وليس كل احتياج منشأه الضرر بل كثير منه حب التميز، ومن فضل الخالق أن جعل كلاً محتاجًا ومُحتاجًا إليه؛ المطعمون محتاجون للكاسين، والكاسون محتاجون للمطعمين، والفريقان محتاجان للبانين، والثلاثة محتاجون للبائعين، والأربعة محتاجون للحافظين، وفحول الكل محتاجون للإناث، وإناث الكل محتاجون للفحول، والكل حريصون على تحصيل الأولاد وأمهاتهم، والكل محتاجون مع العمل إلى العلم والمعلمين، وفي هذا كله حِكم عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها. ما أحوجنا مع هذا الاحتياج والتعاون في لوازم الحس إلى التحابّ والتعاون في لوازم العقل، فيا للأسف لم نر أنفسنا إلا على هذه الحالة متفرقين وما نحن ابتدعنا التفرق، بل كان قبل أن كانت أشخاصًا وسيبقى إلى من بعدنا ليس علينا رفع الخلاف ولا نقوى نحن عليه، ولكن علينا أن لا نزيده كما زاده المتعالمون المطاعون في حياتهم والمُتَّبَعُون بعد موتهم، أولئك الذين يكدرون على الناس صفاء فطرتهم، ويفسدون عليهم سلامة تصورهم، بل علينا أن نجتهد في تحقيقه وذلك لا يكون إلا بصقل العقول من صدأ الأوهام، فعلينا مجاهدة الأوهام وأهلها مبلغ جهدنا، وما أجمل هذه من وظيفة نشكر عليها المحيط المقسِم الممِد الذي جعل لنا منها نصيبًا، وآتانا عليها عونًا. وأحسن جلاء للعقول هو إزالة سيطرة المتعالمين عنها فهو الصدأ العظيم واستعمالها في فهم أسرار الكائنات وحكم الشرائع، وأفضل عون لها في بلوغها في هذا السبيل هو الدين الخالص من شوب الناس، ذلك؛ لأن البشر منذ القديم كدروا العقل بتصورات سقيمة في شأن الموجد الأول فالدين يرشد لأسلم، وحملوا النفوس على عادات قبيحة ضارة سموها عبادات، فالدين يهدي لأجمل وأنفع، وحمّلوها أثقالاً من القوانين الجائرة، فالدين يوصي بأعدل، وزيّنوا لها أخلاقًا فاسدة، فالدين يدل على أصلح. لكن الناس أصناف مصنفة، أكثرهم يميلون لما هو ضد الخير وتَحِنّ نفوسهم إلى الرذائل الخارجة عن حد الاعتدال في كل شيء كما هو دأب الذين خلوا من قبل، فمن لم يتمسك بالدين ألبتة فلا كلام فيه هنا، ومن تمسك فيه تراهم في مغايرته على نوعين: نوع يغايرونه بالفعل ويتمسكون منه بالاسم وهم كثيرون. ونوع يغايرونه بعلوم يحدثونها يُبصّرون الناس فيها أنهم أولياؤه. فأما الذين يغايرونه بالفعل؛ فالوظيفة معهم وظيفة العاقل مع العاقل في الدعاوى والبينات، وتحق الحقيقة ويبطل الغلط. ولما عرفت أن الدين كلام يفهمه العاقلون، ولا يحتمل ما يعزوه إليه المتفرقون، حرصت نفسي على كشف حال كثير من العلوم المحدثة فأقول ما لها وما عليها، ليعلم طلابها ما يضرهم وما ينفعهم، ذلك منذ علمت أن سعادتي في أن أكون مخلص القلب للمجتمع الإنساني القائم على ناموس ربانيّ، وأن أكون شاكرًا لنعم العاملين بما ينفع الناس ملتئمًا مع من عرفوا النعم فشكروها، أو جهلوها فاستعرفوها، نافرًا عمن كفروا بها واستيقنتها أنفسهم. فهذا ما دعاني اليوم لتحرير هذه الكلمات الشارحة رأيًا في علم الكلام، وطريقة في إثبات الوحي. تمهيد وتقسيم هذا الإدراك الذي أوتيه الإنسان لم يقف به عند استعراف ما يطعمه ويكتسيه ويأوي إليه بل ساح به من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، من عالم الحس إلى عالم الحدس. يسأل الإنسان نفسه بنفسه ما هو المُوجِد الأول أو ما هو الموجود الأول، من صنع هذه الكواكب الزاهرة، مَن أوجد هذه البحار الزاخرة، مَن أنشأ هذه الأرواح العاقلة، من خلق هذه الأسباب الظاهرة والباطنة، مَن سَوَّى هذه الروابط الثابتة، من صور هذه الصور المتغيرة، من يُدبر هذه الكائنات المتنوعة. ثم ينتقل من هذا السؤال إلى سؤال آخر فيقول، ما هي نفسنا ما هو إدراكنا، لماذا أفرادنا متفاوتون فيه، ما هي هذه الحياة التي نحياها، ما الفائدة لنا منها، ما الحكمة للذي سوّى فيها، ما الذي يجب أن نعمله معها، أين تذهب أرواحنا عند اضمحلال هذه الحياة، لماذا نحبها وهي مع قصرها مُرّة المذاق، كدرة الموارد، لماذا نتزاحم، لماذا نتجادل، ما السبيل لسلامتنا بعضنا من بعض؟ هذه الأسئلة وأمثالها شغلت فكر هذا النوع من زمن قديم ليس لنا ولا لغيرنا علمه، وما زال الناس ولا يزالون يتساءلون ويتجاوبون في هذا إلى ما شاء الله، وليس البحث في هذه الأمم المتفرقة، وقد يعقب البحث والتفكر تصور ويعقب التصور عقد، ويحمل العاقد بشيء غيره أن يعتقد كما أعتقد، فهكذا تكونت نحل الناس ومِلَلهم. والذين اشتغلوا بتدوين العلوم قد تقيدوا باصطلاحات خاصة زَعْمَ أن بها يمكنهم تعميم فائدتها، وأما الذين عرفوا كيف يُقَّرب العلم من أفهام الطبقات المختلفة فيحبون أن تتجافى عباراتهم عن الاصطلاحات مهما أمكنهم. ذكَّرني بذكر هذه القضية أني رأيت مدوني هذه المباحث في لغتنا قد تباعدوا بها عن أفهام الأكثرين بكثرة ما جاءوا فيها من الاصطلاحات وهم ما قصدوا إلا التفهيم بل زعم بعضهم أن الناس أجمعين مكلفون أن يعلموا علمهم ذلك، ولا بد أن يزعم هذا أن اصطلاحاتهم يفهمها كل أحد من أهل اللغات المختلفة، ولعل عذرهم أنهم دونوها كما وجدوها على اصطلاح الباحثين من أمم أخرى، وهو عذر مقبول في الجملة. هذه المباحث يقال لمجموعها في اصطلاح المدونين (فلسفة) وهي كلمة منحوتة من اليونانية قالوا معناها (حب الحكمة) ، ومن أجل شيوع هذه الكلمة بهذا المعنى ظن البعض أن الفلسفة اليونانية هي أول فلسفة ومن أجل أن علم الكلام - الآتي ذكره - يَرُدُّ كثيرًا من أراء فلاسفة اليونان كما يَرُدُّ الفلاسفة بعضهم على بعض ظن أن علم الكلام إنما جعل لنقض الفلسفة، والظن الأول يُزهقه التدقيق في التاريخ العام للأزمنة القديمة التي يجهل منها أكثر مما يعرف، والثاني يزهقه معرفة أن علم الكلام فلسفة يعرف بها صحة الدين، وليست كل الفلسفة مناقضة للدين حتى يحتاج الدين إلى علم به تنقض الفلسفة كما أنه ليس كل كلام أهل الكلام مقبولاً عند الدين بل كثير منه مردود بشهادة بعضهم على بعض، والمدقق يعلم أن ليس علم الكلام إلا قسمين قسمًا يجمعون فيه نظريات على طريقة الفلاسفة القدماء يوافقونهم في أشياء ويخالفونهم في أشياء، وقسمًا يجمعون فيه خلافات ومنازعات بينهم أنفسهم. ويعلم أيضًا أن الدين انتصر بروحه الذكية السالمة من الشوائب قبل أن يجيء علم الكلام ناصرًا له وناقضًا للفلسفة، ولكي يعلم الناظر ههنا آراء الناس في الإلهيات قبل الإسلام وقبل علم الكلام أذكر نموذجًا يسيرًا منها في فصل، ومنه أنتقل لعلم الكلام في فصل آخر. (الفصل الأول) الفلسفة الإلهية عند الأمم السالفة كان الصابئة (وهم طائفة منبتها بلاد فارس منها انفصل إبراهيم النبي الذي هاجر إلى فلسطين وتسلسلت النبوة في عقبه) يقولون: إن للعالم صانعًا فاطرًا حكيمًا مقدسًا عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرًا وفعلاً وحالة وهم ينكرون نبوة البشر ولكنهم يعترفون بمعلمهم الأول هرمس (قيل هو إدريس) ويثبتون عالمًا روحانيًّا على نحو ما يسميه الكتابيون الملائكة وقسموا هذا العالم الروحانيّ إلى طوائف منها مدبرات الكواكب التي هي هياكلها؛ إذ لكل روحانيّ هيكل ولكل هيكل فلك ونسبة الروحانيّ إلى ذلك الهيكل نسبة الروح إلى الجسد فهو ربه ومدبره ومديره، وربما يسمون الهياكل أربابًا وربما يسمونها آباءً والعناصر أمهات، فوظيفة هذه المدبرات تحريك الكواكب على قدر مخصوص ويحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانيّة مثل أنواع النبات والحيوان، ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحانيّ كليّ وقد تكون جزئية صادرة عن روحانيّ جزئيّ، فمع جنس المطر ملك ومع كل قطرة ملك. واتخذ هؤلاء صورًا وتماثيل على صور الكواكب وأمثلتها وبنوا لها البيوت وأقاموا لها الهياكل واحتفلوا من أجلها بفروض ومراسم شرحها يناسب كتب الجدل والتاريخ، وليس غرضنا إلا النموذج اليسير. وكان (الزروانية) (وهم طائفة من الفرس) يقولون: إن النور أبدع أشخاصًا من نور كلها روحانية نورانية ربانية لكن الشخص الذي اسمه (زوران) شك في شيء من الأشياء فحدث (أهرمن) (الشيطان) من ذلك الشك ولهم في ذلك أساطير لم نجوز سردها لقلة فائدتها. وكان (الزرادشتية) (وهم طائفة فارسية أخرى زعيمهم زرادشت) يقولون إن النور والظلمة أصلان متضادان وكذلك (يزدان) و (أهرمن) وهما مبدأ موجودات العالم وحصلت التراكيب من امتزاجهما وحدثت الصور المختلفة، والبارئ تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما وهو واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند ويدعي أصحاب (زردا شت) معجزات كثيرة له. وكان (طاليس) اليوناني-الذي تعلّم الإلهيات والهندسة والهيئة في مصر وهو أعظم مؤلفي الفلسفة المسماة يونانية، يقول: إن جميع ما في الكون لا يخلو عن إحساس ما، وإنه مملوء بما لا يدركه الطرف من المخلوقات وكلها متحركة ذات أرواح. وكان (فيثاغورث) يقول: إن العالم له روح وإدراك وإن روح هذا الدولاب العظيم هو الأثير فمنه جميع الأرواح الجزئية وكان يقول: إن الأرواح لا تفنى فهي تسيح في الهواء إلى أن تصادف جسمًا فتدخل فيه، ولذلك كان يشدد في منع أكل الحيوانات، وادعى فيثاغورث معجزات كثيرة جلها لتأييد مذهبه في تناسخ الأرواح ومما فعل أنه بنى له تحت الأرض حجرة صغيرة وعاهد أمه أن تكتب له كل ما يكون ويحدث فغاب فيها سنة ثم خرج نحيفًا أشعث أغبر وجمع الناس وأخبرهم أنه كان في جهنم ولا حل أن يصدقوه، شرع يخبرهم بما حصل في غيبته فظنوا أنه فوق جميع البشر (تأمّلْْ) . وكان (هيرقليس) يقول: إن الكون ممتلئ مِن الجن والعقول وإن الإله لما قضى أزلاً بوجود الأشياء تركها لتدبير خلقه (تأمّلْ) . وكان (إنكسغوراس) يقول بالعقل الذي يفيض على كل مادة ما يليق بها من الصورة وكان يقول لا فراغ في الجو بل هو مملوء وإنّ جميع الأجسام تقبل القسمة إلى ما لا نهاية له، ولو كان الجسم صغيرًا جدًّا بحيث لو وجد قاسم ماهر وآلة تقسيم لأمكن أن يستخرج من رِجْلِ البعوضة أجزاءً لو وضعت على ألف ألف سماء لسترتها من غير تنهاهيا في نفسها بل لا تزال قابلة للقسمة (تأمل) . وكان (أفلاطون) يقول إن الأصول ثلاثة: الإله والمادة والإدراك؛ فالإله يشبه عقل العقول والمادة تشبه السبب الأول للتولد والفساد، والإدراك كجوهر روحانيّ قائم بذات الإله، كان الناس يلقبون أفلاطون بالإلهيّ وكانوا يقولون: إن أفلاطون يعرف الإله الحقيقيّ معرفة جيدة وهذا إما من جودة ذهنه أو مما اطلع عليه من كتب العبرانيين (تأمل) . ووقع من أفلاطون أنه نوَّع الآلهة مراتب ثلاثًا: عُلويين مسكنهم السماء، ومتوسطين يُسَمَّوْنَ جنًّا كوزراء للعلويين مسكنهم الهواء، وسفليين مسكنهم الماء سماهم أنصاف آلهة (تأمل) . وقال: إن جميع عناصر العالم وسائر أجزائه ممتلئة بهذا النوع الثالث، وقد يظهرون في بعض الأحيان لأبصارنا ويختفون أحيانًا، وتبع أفلاطون فيثاغورث في تناسخ الأرواح وكان (أرسطاطاليس) يقول: الأصول ثلاثة: العدم، والمادة، والصورة. وعرَّف المادة بتعريفين مختلفين سلبًا وإيجابًا فقال في الأول: المادة هي ما ليست جوهر ذلك الشيء ولا امتداده ولا عرضه ولا نوعًا آخر من الأمور الوجودية العارضة له، وقال في الثاني: المادة هي مبدأ تركيب الأشياء ومنتهى تغييراتها، وليس في الاثنين ما يفيد حقيقتها (تأمل) . وكان (أبيقور) يقول بأن الروح جسمانية مُعلِّلاً ذلك بأنها محركة لأجسامنا مشاركة لها ألمًا ولذة وأننا في حالة ثقل النوم نتيقظ بها بغتة وبها تتغير ألواننا على حسب ما يعرض لها من الحركات والأعراض. هؤلاء من مشاهير اليونان الذين تكلموا في الإلهيات، وهذه مشهورات من آرائهم فيها (وأما علومهم الرياضية والمنطقية فليست من صدد موضوعنا ولا تنقضها الإلهيات والعلوم الخادمة لها ولا تأمر بنقضها بل بإبرامها؛ لأنها لازمة نافعة، وأما علومهم الطبيعية فلا ننكرها عليهم أيضًا إلا ما أنكروا فيها الصانع وصنعه) . وكان (اليهود) يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه ويقولون إن عيسى ابن مريم الذي خلق من غير أب زنت به أمه وأتى من الزنا وخالف بعمله النواميس الشرعية فقتلناه وصلبناه، وكان النصارى يقولون: لا، بل عيسى هو ابن الله بعثه ليخلص الناس من خطيئة آدم التي لحقت بأولاده وجعله فداءً لهم من الخطيئة التي لم يسكن غضب الرب من أجلها ثم اختار أن يكون سكون غضبة وتخليص الناس منه بواسطة إراقة دم ابنه، ولا تنس أن النصارى يقولون: أيضًا بأصول ثلاثة الأب والابن وروح القدس، وكان العرب أصنافًا منهم من أنكروا الخالق والبعث وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني كما حكى ذلك القرآن عنهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} (الجاثية: ٢٤) إشارة إلى الطبائع المحسوسة وقصر الحياة على تركيبها وتحللها , فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر. ومنهم صنف أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الآخرة وهم الدهماء من العرب إلا شراذم منهم. ومن العرب من كان يعتقد التناسخ فيقول: إذا مات الإنسان أو قتل اجتمع دم الدماغ وأجزاء بنيته فانتصب طيرًا هامة. ومنهم من كان على ملة إبراهيم كزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من تهود، ومنهم من تنصر، ومنهم من تفلسف وأدرك بعقله الحشر والجزاء. قال قسُّ بنُ ساعدَه (وهو أحد حكماء العرب) : كلا ورب الكعبة ليعودن ما باد، وقال أيضًا: كلا بل هو الله إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا. وقال (عامر بن الظرب العدوي) وهو من حكماء العرب أيضًا: إني ما رأيت شيئًا قط خلق نفسه، ولا رأيت موضوعًا إلا مصنوعًا، ولا جائيًا إلا ذاهبًا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء. ثم قال: إني أرى أمورًا شتّى وحتّى. قيل له ماذا؟ قال: يرجع الميّت حيًّا، ويعود اللاشيء شيئًا؛ ولذلك خلقت السموات والأرض. وقال علاف بن شهاب التميمي: وعلمت أن الله جازٍ عبده ... يوم الحساب بأحسن الأبدال
ظهور محمد عليه السلام فبينا حال الناس عامة والعرب خاصة على ما قصصناه ظهر (محمد) من العرب بين أظهرهم بهدى عظيم، ودعا إلى صراط مستقيم، صدَّقه بدعوته الواحد والاثنان، وكذبه الشعب الكبير المتشعب إلى جماجم وبطون وأفخاذ، صدّقه مَن صدّقه لنور قذف في قلبه رأى به وجهه وجه صادق وخطته خطة مرشد ودعوته دعوة مؤيد من عالم الغيب، وكذّبه مَن كذّبه لشبهة عنت له، وحجاب أسدل على بصيرته، ثم صدَّقه آخراً من كذبه أولاً، ولم يفارق هذه الدار وفي جزيرة العرب جماعة مكذبون، كيف آمن جمهور العرب به من بعد أن أورد متعاقلوهم كل شبهة عنت لهم، من بعد أن قالوا: ساحرٌ كذاب، من بعد أن قالوا: شاعرٌ مجنون؟ هل آمنوا رهبةً من سيفه؟ فكيف أرهب سيف الواحد قلوب تلك القبائل الكثيرة؟ هل آمنوا رغبة في الغنائم؟ فكيف سرى هذا الخاطر الواحد في أفكار الكل بعد أن صدوا أعظم الصدود وحارب بعضهم بعضًا من أجل أن ينصره قوم ويكيده قوم. إنما آمن العرب بعد حين من دعوته تربصوا فيه أن تظهر لهم أعلام صدقه فظهرت - كما سيظهر لك - ويومئذ دخلوا في دينه أفواجًا، ووفدوا على حضرته زمرًا، يبايعونه على التصديق والاتباع، ويستعلمون منه الوظائف والواجبات، ويرجعون عنه بأفئدة مسرورة، وعزائم مشتدة. أما العقيدة التي كان هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بها فهي أن يشهد الرجل أن (لا إله إلا الله) وأن (محمدًا رسول الله) . كلمة (الله) عند العرب علم على الخالق كانوا يقولون به ولكنهم لا يعرفون كماله كما يجب فكان منهم من يظن أن الملائكة بناته وأن الأصنام شركاؤه في بعض ملكه فعرَّفهم أن الله لا يشبه المخلوقات فلا يلد ولا يولد وليس له شريك في الملك ولا إله غيره ولا معبود سواه ولا ينبغي أن يرجى ويخاف من غيره، فكل هذه المعاني مجموعة في كلمة (لا إله إلا الله) وأما الكلمة الثانية فالمقصود منها التسليم بما جاء به في الكتاب والخضوع لما يحكم به ويمضيه واعتقاد أن هذا الكتاب كلام الله أوحاه إليه بواسطة ملك من الملائكة الذين هم خلق مدركون لا يعصون الله تعالى ويندرج في هذه العقيدة الإيمان باليوم الآخر. هذه هي العقيدة التي يصير بها المصدق مُحمديًّا، وقد ورد تفصيلها في القرآن كصفات الله تعالى والاحتجاج على المكذبين والوعد والوعيد في الدار الآخرة ويعلم القارئ أن العرب المدعوين لما آمنوا ما كانوا يعلمون القرآن كله؛ لأنه لم يكن قد تم نزولاً، بل أكثرهم ما كانوا يعلمون غير الآيات القليلة وكان أعلمهم به (أي الذين يعلمون كثيرًا من الآيات) لا يجد في هذه الألفاظ شيئًا غريبًا في مدلوله ليتساءلوا عنه ويتباحثوا فيه (إلا ما روي نادرًا) بل كان هذا التباحث من قسمة الذين أتوا بعيدهم. أتى بُعَيْدَ عصره أناس قرأوا القرآن فعلموا شيئًا وجهلوا شيئًا، وأناس استمعوا لآراء الناس في الإلهيات من نحو ما قصصناه عليكم وانقسموا فيه فرقتين: محبة وكارهة، ثم انقسمت المصوبة طائفتين: مؤولة للدين على مقتضاها، وتاركة له على حاله. ثم انقسمت المؤولة زمرتين: معتدلة وغالية، فهذا الشكل كان تفرق أهل هذه الفلسفة. (الفصل الثاني) الفلسفة الإلهية عند المسلمين، أو علم الكلام لا يصح أن نقول: إن العصر الأول للإسلام كان خاليًا من بذور البدع التي حدثت بعده في الأصول والفروع، ونحن لا نقول هذا القول؛ لأن أقوال المعاصرين للرسول كثير منها محكي في القرآن ونرى في بعضها ما يدل على أنه كمذهب الجبرية وفي بعضها ما يدل على أنه كمذهب القدرية وغير ذلك، ولكننا نقول لم تنبت تلك البذور إلا في آواخر أيام الصحابة حين أظهر معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري القول بإنكار إضافة الخير والشر إلى الخالق سبحانه، ونسج على منوالهم واصل بن عطاء الغزال وكان هذا تلميذًا للحسن البصري، ويحكى أنه دخل واحد على الحسن فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يُكفّرون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم كفر يخرج بها صاحبها عن الِملّة، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان فكيف تحكم لنا بذلك اعتقادًا؟ فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب، قال واصل: أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة في المسجد وأخذ يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل فسُمِّي هو وأصحابه (معتزلة) . وقال (واصل) هذا بقول معبد وغيلان في مسألة أفعال العباد وأنكر مثلهما قضاء الله وقدره، فسمُّوا (قدرية) (سماهم بهذا خصومهم) ، قال: إن البارئ تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمرهم به، وأن يحكم عليهم حكمًا يجازيهم عليه، وقال (واصل) وأصحابه: يستحيل وجود إلهين قديمين أزليين ولذلك نفوا صفة العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام عن الباري أي لم يقولوا هذه صفات للباري قديمة أزلية بل إن الله حيّ قادر وليس علمه ولا حياته ولا قدرته إلا لذاته. هذا رأس الطائفة (المعتزلة) وطالع بعده الشيوخ الذين اتبعوه كتب الفلاسفة فخلطت مناهجها بمناهج الكلام وأفردتها فنًّا من فنون العلم وسمتها باسم (الكلام) إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها هي مسألة الكلام فسمي الفن باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنًّا من فنون علمهم بالمنطق والمنطق والكلام مترادفان (كذا قيل) وتفنن (المعتزلة) في هذه المباحث وزاد الآخر على الأول وترونق كلامهم في أيام المأمون والواثق والمعتصم. أما مسألة الكلام المشار إليها فهي القول بأن القرآن مخلوق، وممن اشتهر بهذا القول جهم بن صفوان وكان هذا جبريًّا، أي يقول: إن العبد مجبور في أفعاله، وهذا المذهب ضد مذهب المعتزلة الذي معناه أن العبد حرٌّ في أفعاله أي ليس مسلوب الاختيار بإرادة الله وحكمه. وكان بين (المعتزلة) العلماء العقليين وبين أهل الرواية في كل زمان اختلافات ومنازعات في مسألة الصفات، وكان العلماء النقليون يناظرون الآخرين لا على قانون منطقيٍّ بل على طريقة المفتين في الدين، وكان من أحسنهم إتقانًا أبو العباس القلانسي والحارث المحاسبي، وجرت مناظرة بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه أبي عليّ الجُبّائيّ في بعض مسائل وألزمه أمورًا لم يتخلص عنها بجواب فأعرض عنه وانحاز إلى النقليين السالكين طريقة السلف ونصر مذهبهم على قواعد منطقية وأساسات نظرية ذلك مذهبًا منفردًا وهو المشهور اليوم بأنه مذهب أهل السنة والجماعة، ويظن البعض بأنه بقي في مذهبه بقايا من مقالات أساتذته قبل أن يتركهم وهم من شيوخ الاعتزال، وقرر طريقته جماعة من الأذكياء كالقاضي أبي بكر الباقلاني والأستاذ أبي إسحق الإسفرائيني والأستاذ أبي بكر بن فورك على اختلاف بينهم قليل، ومن يطالع مقالات المعتزلة بإمعان يتبين له أن مقاصدهم التوفيق بين الدين والفلسفة ولم يتيسر لهم ذلك لأمرين الأول أن الفلسفة التي طالعوها أكثرها غير صحيحة؛ فلذلك لم تلتئم مع الدين، الثاني: أن المقصد الأصليّ من الدين هو العمل وهؤلاء أفرطوا في الجدل فشطّوا عن مقصد الدين كما شطّ مجادلوهم من الجبرية الخالصة والجبرية المتوسطة والمرجئة، لكن القوم بما صنعوه في احتجاجاتهم وبما اضطروا مناظريهم أن يقلدوهم في النظر والاستدلال قد رفعوا شأن العقل كما يجب له ووسعوا ميدان نظره، وقرروا آدابًا مهمة وقوانين محكمة في المناظرة من حيث هي وفي المناظرة في موضوعهم هذا بخصوصه، من أهم تلك الآداب معرفة كل منهم أن مناظرهم نظيرهم، وعدم تكفير بعضهم بعضًا لمجرد المباينة بالفهم، ولا يلفتنك عن تسليم هذا شذوذ البعض عن هذا الأدب المَرعيّ المعتمد على أصل شرعي. ومن أهم تلك القوانين تقريرهم جميعًا أن الدليل العقليّ يقدم على الدليل النقليّ عند التعارض ويستعان له بالمجاز والتأويل لئلا يذهب سُدًى كذا قال بعض الأذكياء، وأقول يا ليتنا استفدنا هذه الفائدة التي أشار إليها من غير باب الجدل في الدين، والتجربة ترينا أن هذه الفائدة لم تتم إلا في أعقل الباحثين وأكملهم قصدًا وأوفرهم حكمة وليس هؤلاء بكثيرين حتى نقول إن مخالفهم قد شذّ، نعم ليس بمنكور عندي أن صنيعهم ذلك رفع شأن العقل، وكاد أن يبلغه أشده في هذا الباب ويسير به إلى أبواب أخرى من استعراف أسرار الكائنات وحكم الشرائع عامة والشريعة المحمدية خاصة ويومئذ كان يرجى للدين دوام سيره وانتشاره على السيرة الأولى، ولكن هو الخطأ في الدين يقف به ويمنع سيره إن كان قويًّا ويزهقه إن كان ضعيفًا. نرجو أن تكون قد عرفت مما تقدم أن مدار الفلسفة الإلهية الإسلامية على آراء (المعتزلة) ومناظريهم، أما مناظروهم فالمتكلمون من أهل السنة (وأشهرهم الأشاعرة) والنقليون من أهل السنة والغلاة من الفريقين كالجبرية والحشوية والمشبهة والمرجئة والغلو في كل شيء مذموم. وقد أجللنا هذه الفلسفة عن أن نعد في أهلها أولئك الذين يتشيعون لرجل بعينه ويتعصبون عليه وإنْ عدّهم الناس الباحثون في فرق المحمديين إذ الشرط أن نحكي ما له علاقة بالفلسفة دون ما لا علاقة له إلا بالهوى والسياسة. وهذه أول كلمه نوجهها لعلم الكلام وعلمائه متأسفين على اشتغال أفاضل أهل هذه الصناعة من المعتزلة ومناظريهم في هذه المسألة التي أومأنا إليها، ولئن كان للمتقدمين منهم عذر؛ لأن الزمان زمانها فليس للمتوسطين فضلاً عن المتأخرين وجه من الوجوه المزينة أو سبب من الأسباب الحاملة اللهم إلا هوى البعض وتقليد البعض ولا يؤلم قلبي إلا المتبعون على عمه الذين نزلوا أنفسهم منزلة القاصرين. والكلمة الثانية أوجهها لجمهورهم أيضًا على عدم تروي كل منهم في كلام الآخر؛ لأننا حين التأمل والتروي نجد اختلافهم إنما هو على الاصطلاحات دائر، وقلما نجد بينهم اختلافًا عظيمًا في حقيقة من الحقائق بل اختلافاتهم مع الفلاسفة يمكن القول فيها هكذا أيضًا، ولتوضيح هذا نورد ههنا أمثلة: (١) هل بين العقول السليمة اختلاف في أن الموجودات ترجع إلى مبدأ، هل بينها اختلاف في أن مبدأها يجب أن لا يكون قبله شيء، هل بينها اختلاف في أن النفوس مستشرفة دائمًا أن تعرف ما هو ذلك المبدأ. (٢) ما هو ذلك الشيء؟ ههنا الاختلاف إذا لم يتروَّ الناس مع بعضهم وإذا تَرَوُّوا فلا خلاف، نحلل هذا السؤال إلى أربعة: ١- ما هي ذاته؟ ٢- ما هي صفاته؟ ٣- ما هي أفعاله٤؟ - ما هو اسمه؟ أما السؤال الأول فجواب كل عاقل فيه لا نعلمها، لا يخالف في ذلك عقلاً مليٌّ ولا فليسوف على اختلاف فرق المليين والفلاسفة اللهم إلا من لا يتدبرون، وأما الثاني فالجواب فيه لا يحدّ؛ لأنه لم يحس، ولا يوصف لأنه لم يعرف، لا يخالف في هذا أيضًا أحد، ومن يصفونه من المليين لا يصفونه من الفلاسفة فإنما يصفونه بما هو مقتضى وجوده كقولهم: واجب الوجود: بل جعلوا ذلك علمًا عليه، وأنت خبير أن هذا ليس وصفًا، وأما الثالث فالجواب فيه أن فعله البدء والتصوير، وهذا لا يخالف فيه أحد أيضًا اللهم إلا الجاهلون جهلاً مركبًا، ولا يعد خلافهم خلافًا ولا يجدر بعاقل أن يتصدى للرد على من يقول وجدت الأشياء بنفسها، وقامت منتسقة لحالها. جهلنا فلم نعلم حقيقة نفسنا ... وقلنا بأن الكون قام بنفسه! ! ! وأما الرابع فالجواب فيه بالاتفاق أن هذا يختلف باختلاف اللغات ولا يعرض هذا الاختلاف للتصور تبعًا للاختلاف في اللفظ كما لا تختلف النفوس في معرفة الأبيض لكون الدالّ عليه مختلفًا، ولا أرى العقلاء إلا متفقين على أن اختلاف الاصطلاح كاختلاف اللغة فلا يجب تجافي الِملّيّ عن اصطلاح الفيلسوف ولا تجافي هذا عن اصطلاح ذاك، هذه الكلمة تغنيك عن أكثر ما في علم الكلام الذي ولع أهله بتشعيب الاختلافات التي منشأها اللفظ لا التصور وكما سترى في الأمثلة الآتية وأنت قسْ عليها. (٢) كيف بدأ ذلك الشيء غيره؟ أي عاقل يتجاسر على ادعاء معرفة هذا من طريق العقل على وجه اليقين، هل ثمة من يتجاسر على هذه الدعوى، وهل من يتجاسر عليها عاقل؟ مع صعوبة هذه المسألة لا تجد الناس سكتوا في جوابها، أما المِلّييون فحلها لهم الوحي فقالوا: أراد أن يوجد فأوجد، وقال ناس من الفلاسفة نشأ عنه غيره وجوبًا (أو عبارة هذا مآلها) وللفريقين كلام كثير، ولئن سألت المِلّي هل تعرف إرادته؟ وهل يمكنك أن تشبهها بإرادتك التي تعرفها؟ ليكونن جوابه لا، ولئن سألت الفيلسوف ما الذي أوجب أن ينشأ عنه غيره وهل تعرفه؟ ليقولن لا أعلم أو يخترع اسمًا يجوز أن يكون بمعنى الإرادة التي يقول بها المِلّيّ، فكلاهما بالعجز عن الإدراك مشتركان، وعلى وجود غيره بتأثيره (المجهول عندهما) متفقان على أن المتكلمين صرّحوا بأن الإرادة القديمة (تلك التي لا يعرفونها) توجب المراد. (٣) متى أوجد ذلك الشيء غيره؟ لم يجب عن هذه المسألة المتفلسفون ولا اللاهوتيون المحمديون، ولكن قال اللاهوتيون (المتكلمون) : إن ذلك الموجد قديم وفسروه بأنه غير مسبوق بعدم وأن الموجودات حادثة أي مسبوقة بعدم، وقال المتفلسفون هو قديم وهي قديمة، وللفريقين كلام كثير، وهذه المسألة لا خلاف فيها أيضًا؛ لأنهم متفقون على أنه أوجدها وعلى أنهم يجهلون متى أوجدها، وما كان للمِلّيّ أن يقفو ما ليس له به عِلْم من العقل، ولم يسمع فيه كلامًا من الوحي، فليس في الدين ما يحمله على الخوض في هذه المَزالّ، وما كان للفيلسوف أن يجزم بشيء لم يقم عليه دليل يقينيّ، فهما متفقان على العجز هنا إن تقاربا للحق، كما اتفقا على العجز عن معرفة كيف أوجدها. هذا والمِلّيّون (نَقْلِيُّوهم وعَقْلِيُّوهم) قد يسألون عن أشياء لا يسأل عنها الفيلسوف الذي لم يتبع ملة، يسأل هؤلاء عن معنى نصوص لا يستطيعون إبقاءها على ظاهرها كالنصوص القائلة أن السموات والأرض خلقت في ستة أيام، يقال لهم: هل هي أيام مثل التي تعرفونها أم أيام أخرى لا تعرفونها؟ إن قلتم بالأول فالأيام هذه إنما عرفت بعد خلق السموات والأرض، وإن كان المقصود مقدار مدتها دل ذلك على أن هناك مدة وزمنًا، وإن قلتم بالثاني (وهو ما نقوله) فقولوا نعرف أنه خلقها، ولكن لا نعرف كيف خلقها، ومتى خلقها، ومم خلقها، ونؤمن بقول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: ١١) (٤) لِمَ أوجد ذلك الشيء غيره؟ وهذه محارة أيضًا للعقل وينبغي أن يجتمعا هنا أيضًا على العجز عن المعرفة، على أن المِلّيّ يقول لحكمة خفية فيصح أن يقول الفيلسوف مثله {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: ٨٥) . (٥) ما هي صفات ذلك الشيء؟ قلنا: ثمة الجواب مختصرًا ولكن هذه المسألة جديرة بزيادة البيان؛ لأن الخلاف العظيم فيها بين المليين أنفسهم، بين النقليين منهم والعقلين أولاً، وبين المعتزلة من العقليين والأشاعرة ثانيًا، وأحب أن أنفي الخلاف الحقيقيّ هنا كما نفيته بينهم وبين الفلاسفة في الأمثلة المارة. قال النقليون ومتبعوهم من المتكلمين: إن الله قديم وعلمه قديم وحياته قديمة وسمعه قديم وبصره قديم وكلامه قديم وإرادته قديمة وقدرته قديمة وفعله قديم، وقال المعتزلة: هذا يوجب تعدد القدماء، فالله ذات مستجمعة لصفات، فهو عالم مريد قادر حيّ سميع بصير متكلم، وهو قديم، وصفاته عينه. وقال الأشاعرة: هي أمور زائدة على ذاته لا هي عينه ولا هي غيره، ولكلٍّ كلمات سموها أدلة معروفة في محلها. ونحن نقول إذا تَرَوَّوْا فلا خلاف، وتوضيحه أنَّ الكل قائلون هو حيٌّ عالم مريد قادر سميع بصير متكلم والكل قائلون: إن معنى الحيّ ذو حياة، والعالم ذو علم إلى آخره، والكل قائلون هو واحد بلا تعدد، فإذا لم يبق إلا أن هذه الصفات زائدة أو غير زائدة؟ بقي الخلاف لفظيًا عند المدققين ولا يلزم من القول بها تعدد القدماء كما توهم البعض، ولا من عدم القول بها نفيها كما توهم البعض، وليس للحس هنا مبلغ من العلم، ولا للعقل سند في الحكم، ولا في الدين قول يحمل على الجزم. أما الخلاف بين النقليين والعقليين فهو في فهم بعض الأشياء التي وصف بها الباري وبعض الأعضاء التي نسبت إليه وهو في الظاهر خلاف مهم جدًّا، وقد ظهرت آثاره من القول إلى الفعل، وخلاصته أن كل طائفة من هذين الفريقين تنقسم طائفتين: معتدلة وغالية، فنحن لا ننكر وجود الخلاف حقيقةً بين الغاليتين منهما ولكن الخلاف بين المعتدلتين نُرْجِعُهُ لا إلى شيء، توضيحه أن المعتدلين من النقليين قالوا: ورد الوحي بصفات للباري فنحن نقف مع عبارة الوحي وقفة المتأدب الحكيم ونصفه بما وصفه لا ننفي معانيها ولا نعتقد أنها كالمعاني المخصوصة بالمحدثات وهذه هي طريقة الصحابة ومن تابعهم عليها (قلت: وليس على هذه من غبار) ثم المعتدلون من العقليين. قالوا: إننا قد علمنا أنه ليس كمثله شيء فعلمنا من هذا العلم أن الكلمات الموهمة تشبيهًا لا يصح اعتقاد معانيها كما يُعتقد في المعاني المخصوصة بالمحدثات فاستفدنا لها معاني قريبة راعينا فيها قرائن اللغة وقرائن كلام الوحي (قلت: وهذه أيضًا ليس عليها من غبار) ولقد لاح من هذا أن لا خلاف بين الفريقين، غاية الأمر أن أولئك أحجموا عن ادعاء التفسير وهؤلاء أقدموا ولم يأتوا في تفسيرهم مُنْكَرًا من القول ولا تباعدوا عن القرائن ولا تعدوا حدود ما ورد من الكلمات، فهذا لا يعد خلافًا. أما الغالية من النقليين فاعتقدت الكلمات على ظاهرها وربما تعدتها إلى غيرها، وأما الغالية من العقليين فلم تعتقد شيئًا على ظاهره فلا هم منكرون للنصوص ولاهم واقفون معها قط، وقد اشتبه على الناس الذين لم يعرفوا هذا التقسيم فاعتقدوا بالسلف ومعتدلي الخلف ما لا يجوز لهم اعتقاده، هذا هو تحقيق الأمر في المسألة ونحن من الغاليتين برآء، ومع المعتدلين سواء. (٦) ما هي أفعال ذلك الشيء؟ مر الجواب عن هذا آنفًا مختصرًا والكلام هنالك مع الفلاسفة من غير الملّيين وأعدناه ههنا لخلاف في الظاهر بين المليين الفلاسفة ومناظريهم، قال النقليون ومتابعوهم من المتكلمين: إن الله تعالى يفعل كل شيء يقع في هذه الدنيا، وقال العقليون: إن الله تعالى خلق خواصَّ وأسبابًا وأسند إليها الفعل، قلت: هذا أصل لمسألة مهمة، وهي أن الإنسان من جملة الأشياء وفعله من جملة الأشياء، فعلى رأي الأولين أن الله يفعل الإنسان وفعله، وعلى رأي الآخرين أن الإنسان يفعله الخاصة التي خلقها الله، وفعله يفعله هو بالخاصة التي آتاه الله إيّاها. وأقول: هل ثمة من لا يعجب من عدم تروي الفريقين في هذه المسألة التي كل كلام فيها يرجع إلى نقطة واحدة، ألم يأن للذين آمنوا أن يعلموا أن الله خلق الإنسان عاقلاً متصرفًا في هذه الدار بغيره من جماد ونبات وحيوان، ومحاسبًا على عقله وتصرفه، ومهانًا أو مكرمًا بعمله فليقولوا كيفما شاءوا أن يقولوا، أفما هم بمؤمنين بأن الإنسان محاسب على عمله ومَجْزِيّ عليه؟ أراد المعتزلة أن ينفوا الشرور والقبائح عن الباري، فقالوا: الإنسان هو يفعل فعله، وأراد أهل السنة أن لا يثبتوا في الوجود معه فاعلاً، فقالوا: الله هو الذي يفعل كل شيء. اطوِ المراتب في أعين الأولين، وابسطها في أعين الآخرين، تجدهم متفقين كاتفاقهم على أن المرء مأخوذ بعمله وهي المرتبة الأخيرة. في هذه المسألة تولد من البحث غلاة من الفريقين غالية قالوا بالجبر المحض وأفرطوا في تقريره ابتغاء تقريره وابتغاء تعطيل الشريعة، وعليه قالوا بالاستقلال المحض وأفرطوا في تقريره ابتغاء التوصل لفصل الكون عن المُكَّوِن في كل الشئون، ويومئذ لا يُتقى ولا يُرجى ولا يُدعى، وفي هذا مصادمة لنصوص الدين وأسراره، على ما فيه من الرجم بالغيب واتباع الظن المحض الذي لا يليق بالعقلاء؛ لأنه يضرهم ولا ينفعهم. في هذه الأمثلة الستة قد أوضحنا تصديهم للمجادلة فيما لا خلاف فيه، وفيما التبس عليهم من الأمر ولا أريد أن أتكلم على اختلافهم في خلود أصحاب الكبائر وعدم خلودهم، بل ولا في اختلافهم في خلود الكفار وعدم خلودهم، وأكتفي في هذا المحل بكلمة خرجت من بيت النبوة قالها أحد أئمة أهل البيت وهي: (إن الله أراد مِنّا أمورًا، وأراد بنا أشياءً تحجب عنّا ما أراده بنا، وبيّن لنا ما أراده منّا، فالأجدر بنا أن نشتغل ونتعاون فيما أراده منّا، ولا نتجادل فيما حجبه عنّا ممّا أراده بنا) . هذا والكلمة الثانية من اللاتي أردنا أن نقولهن أوجهها للناس من أهل عصري لا يزالون يحرصون على دراسة الكتب المدونة في علم الكلام ويجتهدون في حلها وتفسيرها، ولا يسمحون لأنفسهم أن ينظروا في غيرها من كتب الفلسفة العصرية، ولا أن يتعدوا حدود ما كتب لهم الأولون من اصطلاحات وتعريفات، وما قرروا لهم وكتبوا عليهم من مذهب واعتقاد، أقول لهؤلاء: (١) إن تلك الكتب كتبت على أسلوب الفلسفة القديمة، والآن قد تغيرت الرسوم، ودرست الرقوم، وحدثت بعد تلك العلوم علوم، فاقرأوا ما تيسر فما وجدتموه مباينًا فاسعوا في معرفة أسباب التباين. (٢) علم الكلام فائدته على ما قالوا الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان وأنتم في هذه الكتب تلتزمون مذهب رجل معين وتحفظون حدودًا وتعاريف ما أنزل الله بها من سلطان، ولا شهد لجملتها العقل بتبيان، فالذي تزعمون الخلاص منه هو الذي أنتم فيه. (٣) إن الشُّبه التي تقرأونها في كتبكم هذه قد تسمعون خلافها فينبغي أن تكونوا مستعدين للاحتجاج على كل شبهة كما هو مطلوبكم من هذه الكتب وهي لا تفي بمطلوبكم هذا، والكلمة الرابعة أُوَجِّهُهَا لناس آخرين من أهل عصري دأبهم الاستهداء بالذين ماتوا. أقول لهؤلاء: (١) إن الذين ماتوا لم تختبروهم، ولم تعلموا السبب في كثير من مقالاتهم. (٢) إن الناس قد يحدثون مقالات بحسب زمانهم ومكانهم وغرض نفسهم أو حاكمهم. (٣) إن الحي شخصه محسوس، وحاله محدود، يقتدر المرء أن يعرف أن الحكمة في مقالاته، والناس منهم مخلصون لا حكمة في مقالهم ولا سر ولا غرض إلا قول الحق وبذل النصح ومنهم ضد ذلك. (٤) إن أخذ الأدلة عن الأحياء المخلصين والاستهداء بهم في دفع الشبه أولى من الاستهداء بالذين لا نعلم من أمرهم شيئًا، وأعني بهذا أن يعالج العصريون أنفسهم من بعض الجمود. والكلمة الخامسة أوجهها لناس آخرين من أهل عصري قد قرأوا شيئًا من الفلسفة وما قرأوا شيئًا من الدين فإمّا هم حيارى في الأمر وإمّا هم مارقون من الملة، أقول لهؤلاء: إن طريقة الدين حنيفة سمحة، أركان اعتقاده معرفة أن لهذه الموجودات موجدًا هو (الله) ، وأنه لا يشبه شيئًا من الموجودات، وأنه متصرف فيها مدبرًا لها، وأن الإنسان الذي ميزه في عوالم الأرض بالعقل مسئول عنده عن عقله وعمّا عمل بعقله وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم النبي العربي أرسله ليتم مكارم الأخلاق، ويرشد الناس على الإطلاق. وأركان عباداته ذكر الله تعالى بصلوات خمس في اليوم لتخف الغفلة المهلكة، وصوم شهر في السنة لتغلب النهمة المتعبة، وحج في العمر إلى حيث يتلاقى الإخوان في البيت الحرام والمشاعر المعلومة لتتأكد الوحدة الملية وتزداد الألفة، وإيتاء الزكاة في الحول للفقراء والضعفاء لتجبر الحاجة المضطرة، وبناء أحكامه على العدل في الحقوق، وبناء آدابه على الإحسان للمخلوق. هذه جملة الدين ولا والله لا تند فروعه عن قيود هذه الجملة، فيجدر بكم أيها الأذكياء أن تتعرفوا بالدين وأسراره لتجمعوا بين فائدة الفلسفة التي تنور عقولكم، وبين فائدة الدين التي تزكي نفوسكم، وإن سألتموني ما الدليل على صحة الوحي الذي هو أساس الأديان، وما الدليل على صحة دعوى النبي العربي صلى الله عليه وسلم، فأقول: إني لست بأعلم منكم فتفكروا يظهر لكم هذا الأمر العظيم على أنني لا أضن عليكم بمبلغي مما عرفت. (طريقة في إثبات الوحي) إني تفكرت أولاً (والإنسان خُلِقَ متفكرًا) في: ما هو العقل الإنساني الذي ميزه على الحيوانات المدركة بحواسها فقط بل ما هو الإدراك؟ فلم أستطع علم هذا. سألت أعالم الناس الذين اجتمعت بهم من عرب وترك وفرس وهنود وإفرنج فلم أُهْدَ لعلم هذا. رجعت إلى آثار الموتى قلبت في الكتب أوراقًا تعد بالآلاف فلم ألفِ المطلوب، فسكنت إعياءً عن طلبه سكونًا حاليًا، واكتفيت بمعرفة أنه قوة عظيمة قد رفعت الإنسان إلى طبقات الكواكب، وهو لم يتحرك لجهتها فأرته بغير عينه بدائع صنعها، وإتقان نظامها، وصورة دورانها، وشكل تقابلها بعضها مع بعض، وهبطت به إلى طبقات هذا الكوكب الذي هو فيه (الأرض) فأرته بعينه وبغير عينه بدائع كونها، وخزائن أسرارها، وانتظام سيرتها، وبصرته أنه (أي الإنسان) هو سلطان عوالمها، تنقاد كلها لتصرفه، وتصير تحت أمره، فهو المنفرد في الأرض بحياة جامعة للعلم (بالشاهد والغائب) والقدرة (على التصوير والتشكيل) والإرادة (لما يلزم البدن وما يلزم العقل) والكلام (الذي يبلغ به إرادته للحاضر معه بواسطة الآلة البدنية الطبيعية، وللغائب عنه بواسطة الآلات الجمادية الصناعية، منها هذه الكتابة التي تبلغنا كلام من قبلنا من أهل الأدوار، وتبلغ كلامنا للنائي.. والآتي بعدنا في الأجيال.. هذا التلغراف الذي يسمع به المشرقي ما يريد المغربي في لحظة من الزمان) والسمع (الذي نفهم به إرادة غيرنا) والبصر (الذي يطبع في فكره صور الأشياء) فبمجموع مزايا هذه الحياة كان له السلطة والتصرف في عوالم هذه الأرض تصرفًا تابعًا لنواميس هي فوق إرادته، وفوق سمعه وبصره وفوق علمه وقدرته، وفوق أمره ونهيه. هذا القدر عرفت بادئ بدء من آثار تلك القوة العظيمة التي هي العقل، وبهذا القدر تم لي معرفة أن هذه القوة هي أكمل وأعظم قوة في العوالم الأرضية، وإن تلك النواميس التي هي فوقها وحاكمة عليها يجب أن تكون من عالم آخر. ما هو ذلك العالم؟ هذه نقطة ثانية عرج إليها فكري وفي هذه الدرجة وقف عقلي زمانًا كثيرًا يلتمس الدليل في معراجه هذا، ثم أتاه الدليل من نفسه، فقال: إن ذلك العالم هو المحجوب عن حسِّنَا المعروف المألوف عند تصوُّرنا، هو عالم الحقائق والقوى والطبائع التي نعرفها بآثارها ونجهل كنهها وذواتها، هو عالم الغيب وهو بحر عظيم لا ساحل له، والذي ظهر لنا منه نقط قليلة بعد ظهور أمثلتها في عالم الشهادة. قال بعض الأذكياء: (كنا لا نُدْرِكُ السر في قيام هذه الكرة في الفضاء، ثم علمنا من أمثلة ظهرت للحس أن هنالك قوه تمسكها، لا نرى تلك القوه بأبصارنا، ولا نسمعها بآذاننا، ولا نحسها بأيدينا، ولا نشمها بأنوفنا، ولا نذوقها بفمنا، ولم تبلغها عقول الأكثرين منا من المتقدمين والمتأخرين، واليوم أدركها بعض أقطاب العلم الباحثين في أسرار الوجود وقرب إدراكها لعقولنا فصرنا نقول بها، ونلهج بالاسم الذي وضع لها (الجاذبية) وكذلك كنا لا ندرك السر في حركتها ثم ظهر، وكنا لا نعلم متى تكونت ومتى تحركت، ويدّعي البعض اليوم أنهم يعلمون ذلك، وكذلك كنا لا ندرك طبائع الأجسام البسيطة والناس اليوم إنما يعرفونها بآثارها وبخواصها في البساطة وبعد التركيب كل ذلك يرشدنا إلى أنَّ عالَم الغيب (أي الأسرار التي حجبت عنا) واسع، وقلة ما انكشف لا ترشدنا إلى انحصاره فيها وإحاطتنا بمجموعها، بل ترشدنا إلى أنَّ ما جَهِلْناه كثير بالنسبة إلى ما عرفناه وتأمرّنا أن نقف عن تعيين طرف لهذا الميدان الذي خولت البصيرة أن تجول فيه وحُرم البصر. قلت: في فكري إن الإنسان محكوم في خلقته لنواميس تحدث خواطره وخواطره متضادة متنازعة كمال التضاد والتنازع، فإما أن هنالك قانونين متضادين (من جنس القوه التي هي العقل) مسلطتين عليه وتصرفه تابع لنفوذهما على النسبة، وإما أن الأثرين المتضادين منفعلان عن المزاج الإنسانيّ المركب من متضادات، وعلى الرأي الأول فالقوتان إما لهما وجود خارج الجسد أو لا وجود لهما إلا في الجسد، وإن وجدا خارج الجسد، فالمادة التي تقومان بها إما بسيطة وإما مركبة، هذه أسئلة تخطر في بال الذين يريدون أن يتوصلوا للحقائق من طريق كونيتها لا من طريق اسميتها، والعقل السليم يعلم أن هذه الاحتمالات كلها جائزة، والقول بكل واحد ينفع في الدلالة على أن النواميس التي لها نفوذ على الإنسان هي أمور وجودية لها العلاقة العظمى في تفاوت أفراد النوع العاقل هذا التفاوت العظيم الذي يرينا رجلاً يعلم أفضل شرع وأكمل آداب، ورجلاً يكشف سر البخار والكهرباء وما يفعلان من سحر الألباب بروائع آثارهما وبدائعهما، ورجلاً يستحوذ على قلوب الألوف المؤلفة ببيان يبديه ويستنزل النفوس عن محبة الحياة بين القواصف والقواذف، ورجالاً لا يعرفون من الأمر إلا حيوانية ومَوتانًا. ولنا أن نقول: إن النسبة بين الإنسان وبين من هو دونه محفوظة بواسطة قريبة منه ومن التي هي دونها (كالنبات مثلاً هو قريب من الحيوان لنموه مثله من الجماد لعدم تحركه بالإرادة مثله) ، ونعلم قطعًا أن الإنسان على عظمته في الأرض غير كامل، إمَّا من حيث الصورة فلفنائها، وأما من حيث الخاصة فلتردده في تحصيل ما يعتبره سعادة (ولذلك يعيش الإنسان في هذه الدار شقيًّا على كل حال إما بالآلام والأتعاب الجسدية، وإما بالآلام والأتعاب الفكرية، وإما بهما معًا) فيجب أن تكون النسبة المحفوظة بالتسلسل مع من دونه محفوظة أيضًا مع من فوقه، وليس في عالم الحس فوقه شيء. ففي عالم الغيب متضادان (تضاد المليح والقبيح) لهما علاقة بالإنسان كعلاقة الإنسان بمن دونه، وعلاقة الإنسان بمن دونه هي احتياجه إليها لتكميل خاصته واحتياجها إليه لظهور خواصهما فعلاقة هذين هكذا: يحتاجان إليه (بسنة الله في الخلق) لتكميل خواصهما ويحتاج إليهما لظهور خاصته، هذا القدر يكفيني ويكفيك ولا تسلني عن اسميهما وكنههما فإني أكره جدًّا أن يختلف العقلاء بسبب الأسماء وأحب أن يتقاربوا من صوب المعاني ويعتبروا الدلالات عرضًا تابعًا ويتساهلوا مع بعضهم في الاصطلاحات كيلا يكون سبب اختلافهم. أما خاصة الإنسان التي يطلب تكميلها ما دام حيًّا فهي التصرف بعوالم هذه الأرض، فأما الذين تغلب فيهم فهو محبة الخير فيلهمون تصفية العقل الغريزي (القابل للصفاء والكدورة) فتظهر في مرائي أفكارهم صور المعقولات، وتشرق عليهم من عالم الغيب أسرار معارف يحسن بها تصرفهم وتحمد آثارهم ويبقى ذكرهم حيًّا إذا اضمحلت صورهم يومًا من الأيام، وأما الذين تغلب فيهم القوة الأخرى المضادة فتكدر عقولهم وتتشوش بكثرة الوساوس والتردد ويكثر شقاؤهم في طلب المشهيات المادية ولن تنتهي وحرمانها أكثر من حصولها وألم التزاحم عليها والتذابح لا توازيه ولا تسكنه لذتها، فبسوء تصرفهم تذم عقباهم ويموت ذكرهم كما يموت ذكر الأنعام التي تحيي زمانها ثم تهلك. ولما كان الإنسان على هذه الصورة من التضاد المحسوس الذي يبتدئ في النفس على وجه التردد ثم ينفرج وتتمادى به الخطوط المتباينة وكان بحكم هذا التضاد منقسمًا إلى أبرارهم أقل وأشرارهم أكثر لم يستغن عن قانون عام عادل وآداب جميلة مهذبة للنفوس ومعينة للقانون وعند قراءتنا في ماضي الإنسان نجد أن الله جبر نقصه هذا فاصطفى من البشر ناسًا هداهم، أوحى إليهم، علمهم شرائع وآدابًا كما اقتضته حاجة الناس، وما وجدنا قط أمة مرتقية ليست على أساس واحد من أسس الدين الذي جاء به المصطفون. وهذا التضاد كما هو دليل (أول) على ما ذكرناه هو دليل (ثان) على أن الباري تعالى هو المدبر للموجودات، لأن تصرف الإنسان الذي نوهنا به تصرف ناقص كما هو محسوس، وتصرف إحدى القوتين ناقص أيضًا كما هو معقول ولا بد لنا من تصرف أكمل؛ لأنه ظهر لنا شيء شاهد أن هنالك فوقه ما هو أكمل فالتصرف الأكمل هو لأكمل شيء فيجب أن يكون هو الباري تعالى رب العالمين، فكان الله تعالى خلق الإنسان خلقًا خاصًا مدركًا ليعرفه بنفسه وخلق فيه أمثلة من الكمال ليعلم كمال الله ويعرف أن يمجده -وهو الغني- بعبارات يستعيرها، وأوصاف يستعين بها مما عرف من الكمال المتجلي بنفسه المصنوعة على أبدع مثال في المحسوس، وأقرب مثال في المعقول، ثم ليدل بنقصه على كماله لم يجعله جازمًا مستقلاً في إرادته ولا دائمًا مستمرًا في حياته، ولا متحدًا منتظمًا في كلامه، ولا مجيدًا في كل تصرفه، ولا كاشفًا لكل شيء في علمه، بل لم يجعل أفراده وهم واحد في النوع على نسق واحد في الإرادة والحياة والكلام والقدرة والعلم، فكأنه أراد أن يبين بهذا التفاوت في الأحوال والدرجات ناقصًا منهم وأنقص وكاملاً وأكمل لتجلي برهانه أن له السلطان والملك وبيده الأمر كله والحكم. وهو دليل (ثالث) على أن الشرائع والآداب التي جاء بها المصطفون إنما هي وحي منه؛ لأنها معرفة به بادئ بدء نصًا على وفق ما تعرف به خِلْقة الإنسان حالاً وإشارة، وهذا أكمل تعريف وهيهات أن يستقل به عقل الإنسان الناقص المتردد والتعريف الحق به هو أول ركن من أركان الشرائع التي يراد بها زجر النفوس، و (محمد) ذلك الرسول العربي قد لبث في الأميين زمنًا طويلاً من عمره، ثم ظهر عليهم وهو الأميّ بمعارف من عالم الغيب يملأ شرحها على أسلوب الفلسفة دفاتر، وأتى من القواعد العامة التي تصلح شرعًا لكل زمان ومكان بما يملأ التفريع عليه أسفارًا، ومن الآداب الجميلة بكلمات يسيرة، بما يعجز أساطين علم الأخلاق عن ترتيب مثلها بدواوين، قام بالأمر وحيدًا وصدع بالهدى على رؤوس الملأ فقوبل الرد والدَّعِّ، فصبرت نفسه ولم تجزع همته ولم تصغر، واشتد عزمه ولم يضعف، وما زال يخطب ويدعو، ويؤنب طورًا ويترفق مرة، حتى انتصر وأُمر أمْرُهُ، وتهذب على يديه جماعة منهم يقوون أن يتسلطوا بسلطاني العدل والإحسان على الأرواح والأشباح وما زال اسمه يسمو، ودينه ينمو، حتى طاف المشارق والمغارب، واستقر في نفوس الأعاجم والأعارب، فما في دينه من الأدب الرافع، والنظام النافع، وما في قومه الذين رباهم وأرشدهم من علو الهمة، ومضاء العزيمة، وما في سيرته الخصوصية من الكمال الإنساني البديع، وما في بقاء قرآنه على الحفظ من التبديل، وما في وعوده التي وعد بها المؤمنين (كتمكنهم في الأرض وصيرورتهم خلفاء في الأرض) من الصحة، كل هذه تكفي مَن سلمت فطرته، وصحت فطنته أن يعلم صحة دعواه، وفضيلة هداه، ولا ينكر هذا إلا مقلد أو معاند، اللهم صلِّ وسلم عليه ما شكرك الشاكرون، وذكره الذاكرون. (اليوم الآخر) بين الفلاسفة والمتكلمين اختلافات كثيرة في إمكان الحشر وعدمه وفي وقوعه وعدمه، وفي لزومه وعدمه، وفي كيفيته، ونحن نختم هذه الرسالة بهذه الكلمة: العقل حين يرى أن الإنسان لم يبلغ في هذه الحياة غايته من سبيل الارتقاء لا من حيث الصورة؛ لأنه يموت، ولا من حيث الحال؛ لأنه في شقاء الطلب والهرب، وفي شقاء التردد بين الحصول والحرمان والتوفيق والخذلان، ولا من حيث العقل؛ لأنه محجوب عن عالم الغيب، يجنح إلى أنه لا بد من يوم آخر ليبلغ فيه الإنسان غايته من حيث عدم الفناء، ومن حيث عدم الحجاب، ومن حيث التخلص من الأضداد، فينقسم فيه الناس إلى نصفين متباينين قسم في جنة نعيم البال وسعادة الرضاء بما كسبوه في حسن تصرفهم ونعم المصير، وقسم في سعير شقاء الحال وشقاء الندم على ما اجترحوه بسوء تصرفهم وبئس المصير. لتعي هذا أوجه حسك وعقلك إلى انتهاء الأجسام المركبة الفانية إلى أجسام بسيطة باقية سواء رجعت بها إلى المبدأ أو ذهبت بها إلى المصير بتصيير ما، فهذا يرشدك إلى إمكان أن يرجع الشيء الباقي لأصله مهما امتزج بغيره، والروحيون من الفلاسفة لا يقولون بفناء الروح كما لا يقول الماديون منهم بفناء البسائط، فالروحيُّ أن يلزمه أن لا يستبعد رجوع هذه الروح يومًا من الأيام كما جاءت أولاً للماهية التي عرفت بها لتبلغ تلك الماهية بهذه الروح في ذلك اليوم غايتها التي أعدت لها، والماديُّ يلزمه أن لا يستبعد امتزاج تلك البسائط امتزاجا تامًا في يوم آخر كالامتزاج الأول الذي حصلت منه ماهية حي من الأحياء ليبلغ هذا الحي بهذا الامتزاج الثاني (الذي يحصل على كيفية ثانية) في هذا اليوم الآخر غايته التي أعدت له، وعارٌ على من يعلم أن الماس (هذا الجوهر الكريم عندنا) قد استخلص من جنسه الفحم حتى صار كما يرى أن يستبعد أن يستخلص الإنسان (هذا المخلوق المدرك الكريم عند فاطره تعالى) من جنسه الحيوان. وفريق منه من نوعه الإنسان بأعظم من هذا المثال، أما إذا لم نقل باليوم الآخر فأين تمييز الإنسان على الحيوان إذا ماتا ميتة واحدة، وأين تمييز الأبرار على الأشرار إذا كان الأمر مقصورًا على هذه الحياة. أقول قولي هذا وأستغفر الله وأنيب إليه وأسأله لي ولكم الهداية والتوفيق إلى سبل السلام. اهـ في رمضان سنة ١٣٢٠ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز)