للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أصول الفقه عند الظاهرية

وهي المسائل التي جعلها الإمام أبو محمد علي بن حزم مقدمة لكتابه (المُحَلَّى)
وعناوين المسائل من زيادة المنار
(٢)

أفعال النبي (صلى الله عليه وسلم) :
(مسألة) وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست فرضًا، إلا ما كان
منها بيانًا لأمر، فهو حينئذ أمر؛ لكن الائتساء به - عليه السلام - فيها حسن،
برهان ذلك هذا الخبر الذي ذكرنا آنفًا من أنه لا يلزمنا شيء إلا ما أَمَرَنا به، أو
نهانا عنه، وإن ما سكت عنه فهو ساقط عنا، قال الله - عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: ٢١)
***
شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا:
(مسألة) ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا، عليه السلام. قال
الله - عز وجل -: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: ٤٨) حدثنا
أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن مرة، نا محمد بن وضاح، نا أبو بكر بن
أبي شيبة، نا هشيم، نا بشار، نا يزيد الفقير: أخبرني جابر بن عبد الله أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي:
نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من
أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت
الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة " فإذا صح
أن الأنبياء - عليهم السلام - كلهم لم يبعث أحد منهم إلا إلى قومه خاصة، فقد صح
أن شرائعهم لم تلزم إلا من بُعثوا إليه فقط، وإذا لم يبعثوا إلينا، فلم يخاطبونا قط
بشيء، ولا أمرونا ولا نهونا، ولو أمرونا ونهونا وخاطبونا لما كان لنبينا - عليه
السلام فضيلة - عليهم في هذا الباب، ومن قال بهذا فقد كذَّب هذا الحديث وأبطل
هذه الفضيلة التي خصنا الله تعالى بها.
فإن صح أنهم - عليهم السلام - لم يخاطبونا بشيء، فقد صح يقينًا أن
شرائعهم لا تلزمنا أصلاً، وبالله تعالى التوفيق.
***
تحريم التقليد:
(مسألة) ولا يحل لأحد أن يقلد أحدًا، لا حيًّا، ولا ميتًا، وعلى كل أحد
من الناس الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله
- عز وجل - في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل عن أعلم
أهل بلده بالدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا دُل عليه سأله،
فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله ورسوله؟ ، فإن قال له: نعم، أخذ بذلك وعمل
به أبدًا، وإن قال له: هذا رأيي، أو هذا قياس، أو هذا قول فلان، وذكر له
صاحبًا، أو تابعًا، أو فقيهًا قديمًا أو حديثًا، أو سكت أو انتهره، أو قال له لا
أدري، فلا يحل له أن يأخذ بقوله؛ ولكن يسأل غيره، وبرهان ذلك قوله - عز
وجل -:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [[١]
(النساء: ٥٩) ، فلم يأمر عز وجل قط بطاعة بعض أولي الأمر، فمن قلد عالمًا،
أو جماعة علماء فلم يطع الله تعالى، ولا رسوله _ صلى الله عليه وسلم -، ولا أولي
الأمر، وإذا لم يردا إلى ما ذكرنا فقد خالف أمر الله - عز وجل -، ولم يأمر الله -
عز وجل - قط بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض.
فإن قيل فإن الله تعالى قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) ، وقال تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: ١٢٢) قلنا نعم ولم يأمر الله - عز وجل - أن تقبل من النافر للتفقه
في الدين رأيه، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ولا في دين يشرعونه لم يأذن به
الله - عز وجل -، وإنما أمر تعالى أن نسأل أهل الذكر عما لا نعلم من الذكر
الوارد من عند الله تعالى فقط، لا عما قاله [٢] من لا سمع له ولا طاعة، وإنما أمر
تعالى بقبول نذارة النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به
رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا في دين لم يشرعه الله عز وجل.
ومن ادَّعى وجوب تقليد العامي للمفتي، فقد ادعى الباطل، وقال قولاً لم يأت
به قط نص قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل
لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بإبطاله، قال الله تعالى ذامًّا لقوم: {إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} (الأحزاب: ٦٧) .
والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله تعالى الذي أوجبه على
عباده، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلمًا إلا حتى يُقر
بأن الله تعالى إلهه لا إله له غيره، وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فهذا الدين إليه وإلى غيره، فإذ لا شك في هذا ففرض عليه أن يسأل إذا سمع فتيا:
أهذا هو حكم الله تعالى، وحكم رسوله؟ ، وهذا لا يعجز عنه من يدري بالإسلام
ولو أنه كما جلب من (قوقو) ، وبالله تعالى التوفيق.
***
استفتاء أهل الحديث لا الرأي:
(مسألة) وإن قيل له إذا سأل عن أعلم بلده في الدين: هذا صاحب حديث
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا صاحب رأي وقياس، فليسأل
صاحب الحديث، ولا يحل له أن يسأل صاحب الرأي أصلاً، وبرهان ذلك قول الله
تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) ، وقوله تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) فهذا هو الدين لا دين سوى ذلك، والرأي والقياس
ظن، والظن باطل.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أحمد بن سعيد، نا ابن وضَّاح، نا
يحيى بن يحيى، نا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) .
حدثنا يونس بن عبد الله، نا يحيى بن مالك بن عائذ، نا أبو عبد الله بن أبي
حنيفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، نا يوسف بن يزيد
القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم
عن الشعبي قال (السنة لم توضع بالمقاييس) حدثنا محمد بن سعيد بن ثبات نا
إسماعيل بن إسحاق البصري، نا أحمد بن سعيد بن حزم، نا محمد بن إبراهيم بن
حمون الحجازي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول (الحديث
الضعيف أحب إلينا من الرأي) [٣] ، حدثنا همام بن أحمد، نا عباس بن أصبغ، نا
محمد بن عبد الملك بن أعين، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال سألت أبي عن
الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث، لا يعرف صحيحه من سقيمه،
وأصحاب رأي فتنزل به النازلة: من يسأل؟ فقال أبي: يسأل صاحب الحديث،
ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة.
***
رفع الخطأ والنسيان:
(مسألة) ولا حكم للخطأ ولا للنسيان إلا حيث جاء في القرآن أو السنة لهما
حكم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: ٥) ، وقال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة:
٢٨٦) .
***
إنما التكليف بالاستطاعة:
(مسألة) وكل فرض كلفه الله تعالى الإنسان، فإن قدر عليه لزمه، وإن
عجز عن جميعه سقط عنه، وإن قوي على بعضه، وعجز عن بعضه سقط عنه ما
عجز عنه، ولزمه ما قدر عليه منه سواء كان أقله أو أكثره، برهان ذلك قول الله
تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) ، وقول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وقد ذكرناه قبل
بإسناده، وبالله تعالى التوفيق.
***
لا يقدم الموقت على وقته:
(مسألة) لا يجوز أن يعمل أحد شيئًا من الدين موقتًا بوقت قبل وقته، فإن
كان موقتًا الأول من وقته، والآخر من وقته لم يجز أن يعمل لا قبل وقته ولا بعد
وقته، لقول الله -عز وجل-: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق:١) ،
وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} (البقرة: ٢٢٩) والأوقات
حدود فمن تعدى بالعمل وقته الذي حده الله تعالى له، فقد تعدى حدود الله [٤]- حدثنا
عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد،
نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا إسحق بن إبراهيم - هو ابن راهويه-
عن أبي عامر العقدي، نا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعيد بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف، قال سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال:
أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمل عملاً ليس
عليه أمرنا فهو رد) .
(قال علي) ومن أمره الله تعالى أن يعمل عملاً في وقت سماه له، فعمله
في غير ذلك الوقت، إما قبل الوقت، وإما بعد الوقت، فقد عمل عملاً ليس عليه
أمر الله تعالى، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود باطل غير
مقبول، وهو غير العمل الذي أمر به.
فإن جاء نص بأنه يجزئ في وقت آخر، فهو وقته أيضًا حينئذ، وإنما الذي
لا يكون وقتًا للعمل، فهو ما لا نص فيه، وبالله تعالى التوفيق.
***
المجتهد المخطئ خير من المقلد المصيب:
(مسألة) والمجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب، هذا في
أهل الإسلام خاصة، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل، ولا للمقلد،
وكلاهما هالك، برهان هذا ما ذكرناه آنفًا بإسناده من قول رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) ، وذم الله تعالى التقليد جملة،
فالمقلد عاصٍ، والمجتهد مأجور.
وليس من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقلدًا لأنه فعل ما أمره
الله تعالى به، وإنما المقلد من اتبع دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه فعل
ما لم يأمره الله تعالى به، وأما غير أهل الإسلام فإن الله تعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ
غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران:
٨٥) .
***
الحق واحد لا يتعدد:
(مسألة) والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ، وبالله تعالى
التوفيق، قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} (يونس: ٣٢) وقال
تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) ،
وذم تعالى الاختلاف فقال: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (آل عمران:
١٠٥) ، وقال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا} (الأنفال: ٤٦) ، وقال تعالى {تِبْيَاناً
لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: ٨٩) فصح أن الحق في الأقوال هو ما حكم الله تعالى به
فيه، وهو واحد لا يختلف، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله تعالى، ومن ادعى
أن الأقوال كلها حق، وأن كل مجتهد مصيب، فقد قال قولاً لم يأت به قرآن، ولا
سنة، ولا إجماع، ولا معقول.
وما كان هذا فهو باطل ويبطله أيضًا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
(إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) فنص - عليه السلام - أن المجتهد قد يخطئ.
ومن قال: إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ، بل ما كُلفوا إلا إصابة ما
أمر الله تعالى به، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: ٣) فافترض - عز وجل - اتباع ما أنزل إلينا، وأن
لا نتبع غيره، وألا نتعدى حدوده.
وإنما أُجِرَ المجتهد المخطئ أجرًا واحدًا على نيته في طلب الحق فقط، ولم
يأثم إذ حرم الإصابة. فلو أصاب الحق أجر أجرًا آخر، كما قال عليه السلام إنه
إذا أصاب أجر أجرًا ثانيًا، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، نا إبراهيم بن
أحمد، نا الضريري، نا البخاري، نا عبد الله بن يزيد المقري، نا حيون بن
شريح، نا يزيد بن عبد الله بن الهادي، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن بشر
بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله
أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " ولا يحل الحكم بالظن أصلاً لقول الله -
عز وجل -: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم:
٢٨) ، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (إياكم والظن فإن الظن أكذب
الحديث) ، وبالله تعالى التوفيق. اهـ.