للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي


بول الصبي وبول الصبية
حكمهما في الفقه، تركيبهما الكيميائي
الأحاديث التي وردت فيهما

(١)
اتفق العلماء على أن ما تزول به النجاسة أمور ثلاثة: الغسل والمسح
والنضح [*] .
والنضح هو الرش، وقد اختلف الفقهاء في الاكتفاء به في طهارة بول الصبي
وبول الصبية على ثلاثة أقوال:
(الأول) أنه خاص بإزالة بول الصبي , ولا يكفي في إزالة بول الصبية ,
بل لا بد في إزالة بولها من غسله , ولا يكفي فيه الرش , وهو مذهب الشافعي في
المشهور عنه.
(الثاني) أنه لا يكفي فيهما , بل لا بد فيهما من الغسل , وإلى هذا ذهب
مالك، وعنده أن الغسل طهارة ما تيقنت نجاسته والنضح طهارة ما شك فيه.
وقد أخذ في هذا بحديث أنس المشهور حين وصف صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم في بيته , فقال: (فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما يبس ,
فنضحته بالماء) .
(الثالث) أنه يكفي فيهما , وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي ,
وحجتهم في ذلك قياس الأنثى على الذكر الذي وردت أحاديث النضح فيه.
وإنا إذا رجعنا إلى العلم الحديث؛ نجد أنه لا يفرق بين تركيب بول الصبي
وبول الصبية , بل لا يفرق في ذلك بين بول الذكور وبول الإناث على العموم.
ومن الواجب أن نرجع إليه في ذلك , وأن نأخذ فيه رأيه , ولا نعتمد على
رأي بعض الفقهاء الذين يفرقون بين تركيب بول الصبي وبول الصبية , مع أنهم
ليسوا من علماء الكيمياء الذين يعرفون تركيب المواد والأجزاء التي تتألف منها.
يقول البيجوري في حاشيته على ابن قاسم: إن بول الصبي أرق من بول
الصبية [١] , والائتلاف بحمله أكثر من الائتلاف بحملها؛ فخفف فيه دونها.
وأضاف إلى هذا أن أصل خلقه من ماء وطين , وأصل خلقها من لحم ودم ,
فإن حواء خلقت من ضلع آدم , وأن بلوغ الصبي بمائع طاهر وهو المني ,
وبلوغها بذلك وبمائع نجس وهو الحيض.
ولا شك أن البيجوري لم يحلل بول الصبي وبول الصبية حتى يكون حكمه بأن
بولها أرق من بوله ناشئًا عن بحث علمي؛ فيقبل منه، فضعف حكمه في هذا ليس
بأقل من ضعف حكمه بأن الائتلاف بحمل الصبي أكثر من الائتلاف بحمل الصبية.
وكذا حكمه بأن أصل خلقه من ماء وطين وبلوغه بمائع طاهر بخلافها فيهما ,
فما لهذا والاكتفاء بالنضح في بوله دونها؟ .
ولو كان لنا أن نحكم في تركيب بول الصبي وبول الصبية بظاهر الرأي كما
فعل البيجوري؛ لقلنا بأن بول الصبية أرق من بول الصبي؛ لأن الأنثى أرق من
الذكر جسمًا , فلماذا لا تكون أرق منه بولاً [٢] ؟ ولكن الواجب تحكيم العلم في هذا ,
وعدم الأخذ بظاهر الرأي فيه.
***
(٢)
رجعنا إلى بعض الأطباء؛ فأمكننا أن نحصل منه على هذه الأمور:
(١) أهم أجزاء البول هي: البولينا وحمض البوليك وكلور الصوديوم
والسولفات والفوسفات وأكسيدات الجير والصودا.
(٢) إن هذه الأجزاء توجد في بول الذكور والإناث بكميات متساوية , ولا
فرق في ذلك بين الكبار والصغار من النوعين.
(٣) تختلف النسبة بين أجزاء البول باختلاف السن وباختلاف الأغذية
وكيفية هضمها.
فمن يتغذى بالألبان كالأطفال؛ تقل في بوله كمية البولينا وحمض البوليك ,
وهما اللذان يكسبان البول الرائحة الكريهة الخاصة به.
ولعل هذا هو السر الذي يهدينا إليه العلم الحديث في تفريق الشارع بين بول
الأطفال الرضع وغيرهم في الاكتفاء في طهارته بالنضح؛ لأنه لا يوجد فيه من
الرائحة الكريهة بسبب هذا ما يستوجب الاعتماد في طهارته على الغسل , وكذلك
الأطفال لسلامتهم من الأمراض المعدية كالبلهارسيا وغيرها؛ يكون بولهم خاليًا من
جراثيم تلك الأمراض , فلا يخاف منه كما يخاف من بول غيرهم , ولذا لم يشدد
الشارع في طهارته , واكتفى فيها بالنضح , وشدد في طهارة غيره , وأوجب فيها
الغسل الذي يزول به ضرره , وتتقى عدواه.
فانظر كيف استفدنا من الرجوع إلى العلم في هذا الحكم , وكيف وقفنا على
هذه الأسرار الجليلة التي تدل على فضل الشريعة الغراء.
وما كنا لنصل إليها؛ لو فعلنا كما فعل البيجوري , ووقفنا عند ظاهر الرأي،
ولم نسبر أغوار العلم.
***
(٣)
ورد في هذا الباب أحاديث - أولها - عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن
لها صغير، لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه فدعا
بماء، فنضحه عليه ولم يغسله.
ثانيها - عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(بول الغلام الرضيع ينضح , وبول الجارية يغسل) .
ثالثها - عن أبي السمح خادم رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (يغسل من بول الجارية , ويرش من بول الغلام) .
رابعها - عن أم كرز الخزاعية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بول
الغلام ينضح وبول الجارية يغسل) .
خامسها - عن أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت: بال الحسين في حجر النبي
صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله، أعطني ثوبك، والبس ثوبا غيره
حتى أغسله , فقال: (إنما ينضح من بول الذكر , ويغسل من بول الأنثى) .
ومثل الحديث الأول لا يوجد فيه ما يمنع قياس الأنثى على الذكر؛ وفقًا
للمذهب الذي رجحناه , وقلنا: إنه الذي يوجد في العلم الحديث ما يؤيده , ولكن
الكلام في الأحاديث الباقية الناطقة بالفرق بين الأنثى والذكر في النضح , التي قال
فيها الشوكاني: إنه لم يعارضها شيء يوجب الاشتغال به.
وقد يكفيني في التخلص منها أن العترة والحنفية وسائر الكوفيين والمالكية لم
يروا العمل بها جملة , وآثروا عليها قياس بول الصبي على سائر الأبوال , فأوجبوا
الغسل فيه مثلها.
وإذا صح لهم إيثار هذا القياس عليها , وعدم العمل بها جملة؛ فإنه ليصح
من باب أولى أن نؤثر قياس الجارية على الغلام على ما جاء منها بالتفرقة بينهما.
ففي هذا إعمال لها في الجملة بخلاف ذاك , ولكنا نحب أن نبدي فيها رأيًا
حديثًا , بعد أن نلاحظ عليها إجمالاً أنها لم ترد في صحيحي البخاري ومسلم , وقد
قال ابن حجر في فتح الباري: (إنها لم تستوف شرط البخاري فيما يورده في
صحيحه من الأحاديث) .
وقد يكفيني عدم إيراد البخاري لها في صحيحه لهذا الذي يذكره ابن حجر في
التخلص منها أيضًا , فهو يرى أنها ليست من القوة بحيث تقضي بالفرق بين بول
الصبي وبول الصبية في ذلك الحكم , ولو كانت تكفي عنده في ذلك لذكرها في
صحيحه , لتكون حجة في ذلك , كما ذكر أحاديث بول الصبي؛ لتكون حجة في
الاكتفاء في طهارته بالنضح.
وكذلك نلاحظ مع هذا أنها ليست إلا أحاديث آحاد , والحنفية يقدمون عليها
القياس؛ لأنه من الأصول المعلومة المقطوع بها من الشرع , وخبر الواحد مظنون.
وهذا يسوغ لنا أيضًا أن نقدم قياس بول الجارية على بول الصبي على تلك
الأحاديث السابقة , التي هي أحاديث آحاد , ومع هذا فيها ما سنورده عليك.
حديث علي:
رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد والترمذي , أما ابن ماجه ففي سنده إلى
علي رضي الله عنه معاذ بن هاشم وأبوه هشام وقتادة بن دعامة. ومعاذ بن هشام
قال عنه ابن معين: إنه صدوق وليس بحجة , وقال الحميدي بمكة لما قدم معاذ بن
هشام: لا تسمعوا لهذا القدري , وقال النسائي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم , حدثنا
معاذ بن هشام , حدثني أبي , عن قتادة , عن أبي نضرة , عن عمران بن حصين
أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتوا النبي صلى الله عليه
وسلم، فلم يجعل لهم شيئًا.
ومن يروي مثل هذا؛ لا يصح أن يحتج بحديثه. وأبوه هشام أحد الأثبات
إلا أنه رُمي بالقدر , وقيل رجع عنه. وقتادة بن دعامة حافظ ثقة ثبت؛ لكنه
مدلس , ورمي بالقدر , ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح , وأما أبو داود ,
فروى هذا الحديث موقوفًا على علي رضي الله عنه من غير طريق معاذ وأبيه هشام ,
ورواه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم , ومن طريقهما عن قتادة , وقد
عرفت ما في الثلاثة , وأما أحمد فرواه عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن هشام
عن قتادة أيضًا , وقد عرفت ما فيهما.
حديث أم الفضل:
رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد , أما ابن ماجه وأبو داود , ففي سندهما إليها
سماك بن حرب وقابوس بن أبي المخارق , وسماك قال سفيان: إنه ضعيف ,
وقال جناد المكتب: كنا نأتي سماكًا؛ فنسأله عن الشعر , ويأتيه أصحاب الحديث ,
فيقبل علينا , ويقول: سلوا فإن هؤلاء ثقلاء.
وقابوس لم يحدث عنه سوى سماك، وقال النسائي: ليس به بأس , وكلنا
يعرف معنى هذه الكلمة (ليس به بأس) .
وأما أحمد , ففي بعض طرق سنده إليها سماك وقابوس هذان , وفي بعضها
حماد بن سلمة وعطاء الخراساني , وحماد ممن تحايده البخاري , واحتج به مسلم.
وعطاء ذكره البخاري في الضعفاء، وقال: لم أعرف لمالك رجلاً يروي
عنه , يستحق أن يترك حديثه غير عطاء الخراساني , وفي بعضها عفان بن مسلم ,
وقد قال سليمان بن حرب: إنه كان رديء الحفظ بطيء الفهم.
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا عفان , حدثنا حماد بن سلمة , عن
ثابت، عن أنس مرفوعًا (أعطي يوسف وأمه شطر الحسن) يعني سارة , ورواه
الناس عن حماد موقوفًا , وقال أبو عمرو الحرضي: رأيت شعبة أقام عفان من
مجلسه مرارًا من كثرة ما يكرر عليه.
حديث أبي السمح:
رواه ابن ماجه وأبو داود والنسائي , وفي طريق الثلاثة إليه يحيى بن الوليد ,
قال النسائي: ليس به بأس , ومع هذا فمن هو أبو السمح خادم رسول الله؟ قال أبو
زرعة: (لا أعرف اسم أبي السمح هذا , ولا أعرف له غير هذا الحديث) .
حديث أم كرز:
رواه الطبراني وغيره، وفي إسناده انقطاع؛ لأنه من طريق عمرو بن شعيب
عنها، وهو لم يدركها، وقد اختلف على عمرو بن شعيب، فقيل: عنه عن أبيه
عن جده كما رواه الطبراني.
البيهقي وأحاديث هذا الباب:
وبعد ففي هذا الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة , وهي كما قال البيهقي: إذا
ضم بعضها إلى بعض قويت , ويكفينا هذا في الحكم على هذه الأحاديث بأنها لا قوة
لها إلا في اجتماعها , ومعنى هذا أنه لا قوة لها في ذاتها.
وإذا كان هذا حالها؛ فالواجب تقديم القياس السابق عليها , والتخفيف في بول
الجارية مثل الغلام , فالائتلاف بحملها مثل الائتلاف بحمله , وقد ذم الله في كتابه
العزيز من لا يأتلف بالبنات ويسود وجهه إذا بشر بأنثى , فكيف يفرق بينهما في
ذلك وهو يؤدي إلى قلة الائتلاف بالبنات؟ وكيف يذم الشيء ويشرع ما يؤدي إليه ,
وهو أحكم الشارعين.
... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي
... ... ... ... ... ... ... المدرس بالجامع الأحمدي
(المنار)
ما ذكره الأستاذ الكاتب من نقد أحاديث المسألة وطرق الاستدلال , فيه نظر
من وجوه لا حاجة إلى بسطها , وأهم ما نحب أن لا يعود إليه إعلال الحديث
بترك تخريج البخاري له في جامعه , فإن شرطه فيه معلوم , انفرد به دون سائر
علماء الملة , فهو على كونه احتياطًا في التصحيح , لا يقتضي ترك العمل بما
لا ينطبق عليه لا عنده ولا عند غيره بالأولى , فمتى صح الحديث؛ وجب العمل به
بالإجماع ما لم يعارضه ما هو أقوى منه دلالة على خلافه.
والحافظ ابن حجر صحح حديث علي المرفوع , ولم يعد الموقوف علة قادحة
فيه، ونقل عن ابن خزيمة تصحيح حديثي لبابة وأبي السمح وأقره , فهو لم يذكر
أن هذه الأحاديث ليست على شرط البخاري إلا لبيان سبب عدم تخريجها في جامعه ,
لا للتخلص منها كما تخلص الكاتب منها بعدم عمل العترة (الزيدية) والحنفية
وغيرهم بها، فأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على كل مسلم , ولا حجة
لأحد عليها.
وأما ترجيح القياس على خبر الواحد , فليس على إطلاقه كما قال , فليراجعه
في كتب الأصول.