للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة الاجتماع الثاني
لجمعية أم القرى
الداء
أو: الفتور العام

أجابه (المرشد الفاسي) إننا كنا على عهد السلف الصالح وشريعتنا سمحة
واضحة المسالك معروفة الواجبات والمناهي، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وظيفة لكل مسلم ومسلمة، وكنا في بساطة من العيش متفرغين لذلك، ثم شغلنا
شأن التوسع فخصصنا لذلك محتسبين ثم دخل في ديننا أقوام ذوو بأس ونفاق أقاموا
الاكتساب مكان الاحتساب، وحصروا اهتمامهم في الجباية وآلتها التي هي الجندية
فقط؛ فبطل الاحتساب وبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طبعًا، فهذا يصلح
أن يكون سببًا من جملة الأسباب، ولكنه لا يكفي وحده لإيراث ما نحن فيه من الفتور.
على أن انحصار همة الأمراء الدخلاء في الجباية والجندية أدى بهم إلى
إهمال الدين كليًّا ولولا أن في القرآن آيتين اثنتين لهجروه ظهريًّا إحداهما قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) مع الغفلة عن
المراد بكلمة (أولي) وما تقتضيه صيغة الجمع وما يقتضيه قيد منكم. والثانية قوله
تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: ٢١٨) مع إغفال بيان الجهاد المأمور
به؛ هل هو ما يكون به إعزاز كلمة الله أم ما تؤيد به سلطة الأمراء العاملين على
الإطلاق؟ فإهمال الاهتمام بالدين قد جر المسلمين إلى ما هم عليه حتى خلت قلوبهم
من الدين بالكلية، ولم يبق له عندهم أثر إلا على رءوس الألسن لا سيما عند بعض
الأمراء الأعاجم الذين ظواهر أحوالهم وبواطنها تحكم عليهم بأنهم لا يتراءون بالدين
إلا لقصد تمكين سلطتهم على البسطاء من الأمة، كما أن ظواهر عقائدهم وبواطنها
تحكم عليهم بأنهم مشركون ولو شركًا خفيًّا من حيث لا يشعرون.
فإذا أضيف إلى شرهم هذا ما هم عليه من الظلم والجور يحكم عليهم الشرع
والعقل بأن ملوك الأجانب أفضل منهم وأولى بحكم المسلمين لأنهم أقرب إلى العدل
وإقامة المصالح العامة وأقدر على عمارة البلاد وترقية العباد، وهذه هي حكمة الله في
نزع الملك من أكثرهم كما يقتضيه مفهوم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) [١] . وقد افتخر النبي عليه السلام بأنه ولد في زمن
كسرى أنوشروان عابد الواكب [٢] فقال: (ولدت في زمن الملك العادل) [٣]
وحكى ابن طباطبا في (الآداب السلطانية والدول الإسلامية) أنه لما فتح
السلطان هلاكو (وهو مجوسي) بغداد سنة (٦٥٦) أمر أن يستفتى علماؤها: أيّ
الرجلين أفضل السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ فاجتمع العلماء
في المستنصرية لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب حيث كان رضي
الدين علي بن طاووس حاضرًا وكان مقدمًا محترمًا فتناول الفتيا ووضع خطَّه
فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الظالم فوضع العلماء خطوطهم بعده.
ثم قال: إني أظن أن السبب الأعظم لمحنتنا هو انحلال الرابطة الدينية؛ لأن
مبنى ديننا على أن الولاء فيه لعامة المسلمين، فلا يختص بحفظ الرابطة والمسيطرة
على الشؤون العمومية رؤساء دين سوى الإمام إن وجد وإلا فالأمر يبقى فوضى بين
الجميع، وإذا صار الأمر فوضى بين الكل فبالطبع تختل الجامعة الدينية وتنحل
الرابطة السياسية كما هو الواقع. ومن أين لنا حكيم (كبسمرك) أو ملزم
(كغاريبالدي) يوفق بين أمرائنا أو يلزمهم بجمع كلمتنا. وقد زاد على ذلك فقدنا
الرابطة الجنسية أيضًا، فإن المسلمين في غير جزيرة العرب لفيف أخلاط دخلاء،
وبقايا أقوام شتى لا تجمعهم جامعة غير التوجه إلى هذه الكعبة المعظمة.
ومن المقرر المعروف أنه لولا رءوساء الدين في سائر الملل وروابطهم
المنتظمة المطردة أو من يقوم مقام الرؤساء من الدعاة أو مديري ومعلمي المدارس
الجامعة المتحدة المبادئ لضاعت الأديان وتشعب أخلاق الأمم ونالهم ما نالنا من
كون كل فرد منا أصبح أمة في ذاته.
أجابه (المحقق المدني) إن فقد الرابطة الدينية والوحدة الخلقية لا يكفيان أن
يكونا سببًا للفتور العام بل لابد لذلك من سبب أعم وأهم. ثم قال: أما أنا فالذي
يجول في فكري أن الطامة هي من تشويش الدين والدنيا على العامة بسبب العلماء
المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فضيعوه وضيعوا أهله. وذلك
أن الدين إنما يعرف بالعلم، والعلم يعرف بالعلماء العاملين، وأعمال العلماء قيامهم
في الأمة مقام الأنبياء في الهداية إلى خير الدنيا والآخرة. ولا شك أن لمثل هذا
المقام في الأمة شرفًا باذخًا يتعاظم على نسبة الهمم في تحمل عنائه والقيام بأعبائه.
فبعض ضعيفي العلم وفاقدي الدم تطلعوا إلى هذه المنزلة التي هي فوق طاقتهم،
وحسدوا أهلها المتعالين عنهم، فتحيلوا للمزاحمة والظهور في مظهر العلماء العظماء
بالإغراب في الدين , وسلوك مسلك الزاهدين. ومن العادة أن يلجأ ضعيف العلم
إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر، وكما يلجأ قليل المال إلى زينة اللباس
والأثاث (مرحى) .
فصار هؤلاء المتعالمون يدلسون على المسلمين بتأويل القرآن بما لا يحتمله
محكم لفظه الكريم، فيفسرون البسملة أو الباء منها مثلاً بسفر كبير تفسيرًا مملوءًا
بلغط لا معنى له، أو تحكم لا برهان عليه، ثم جاءوا الأمة بوراثة أسرار ادعوها
وعلوم لدُنيات ابتدعوها وتسنيم مقامات اخترعوها ووضع أحكام لفقوها وترتيب
قربات زخرفوها. وبالإمعان نجدهم قد جاءوا مصداقًا لما ورد في الحديث الصحيح
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع - وفي رواية: حذو القذة بالقذة -
حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال هو
فمن؟) . وذلك أن هؤلاء المدلسين اقتبسوا ما هنالك كله أو جله عن أصحاب
التلمود وتفاسيرهم ومن المجامع المسكونية ومقراتها ومن البابوية ووراثة السر ومن
مضاهاة مقامات البطارقة والكردينالية والشهداء وأسقفية كل بلد ومطاهر القديسين
وعجائبهم والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها وحالة الأديرة
وبادريتها، والرهبنة أي التظاهر بالفقر ورسومها والحمية وتوفيتها ورجال الكهنوت
ومراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم ومن مراسم الكنائس وزينتها، والبيع
واحتفالاتها والترنحات ووزنها والترنمات وأصولها، وإقامة الكنائس على القبور
وشد الرحال لزيارتها والإسراج عليها والخضوع لديها وتعليق الآمال بسكانها.
وأخذوا التبرك بالآثار كالقدح والحربة والدستار من احترام الذخيرة وقدسية
العكاز، وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر بعض الصالحين من إمرارها
على الصدر لإشارة التصليب، وانتزعوا الحقيقة من السر، ووحدة الوجود من
الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء
المصدرة بالندامة على الجدران من تعليق الصور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة
من التوجه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام، ومنع الاستهداء من نصوص الكتاب
والسنة من حظر الكهنة الكاثوليك قراءة الإنجيل على غيرهم، وسد اليهود باب
الأخذ من التوارة وتمسكهم بالتلمود إلى غير ذلك مما جاء به المدلسون تقليدًا لهؤلاء
شبرًا شبرًا واقتفاء لأثرهم بالدخول حيث دخلوا جُحرًا جحرًا. وهكذا إذا تتبعنا
البدع الطارئة نجد أكثرها مقتبسًا وقليلها مخترعًا.
وقد فعل المدلسون ذلك سحرًا لعقول الجهلاء، واختلابًا لقلوب الضعفاء كالنساء
وذوي الأهواء والأمراض القلبية أو العصبية من العامة والأمراء السلسي القياد طبعًا
إلى الشرك؛ لأن التعبد رغبة أو رهبة لما بين أيديهم وتحت أنظارهم أقرب إلى
مداركهم من عبادة إله ليس بجوهر ولا عرض وليس كمثله شيء، ولأن التعبد باللهو
واللعب أهون على النفس والطبع من القيام بتكليفات الشرع كما وصف الله تعالى
عبادة مشركي الرب فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَة} (الأنفال: ٣٥) أي: صفيرًا وتصفيقًا وهؤلاء جعلوا عبادة الله تصفيقًا وشهيقًا
وخلاعة ونعيقًا (مرحى) .
والحاصل أنه بذلك وأمثاله نجح المدلسون فيما يقصدون، ولا سيما بدعوى فئة
منهم الكرامة على الله والتصرف بالمقادير وباستمالتهم العامة بالزهد الكاذب والورع
الباطل والتقشف الشيطاني وبتزيينهم لهم رسومًا تميل إليها النفوس الضعيفة الخاملة
سموها آداب السلوك ما أنزل الله بها من سلطان ولا عمل بها صحابي ولا تابعي،
ظاهرها أدب وباطنها تشريع وشرك، وبجذبهم البله الجاهلين لتصعيب الدين من
طريق العلم والعمل بظاهر الشرع، وتهوينه كل التهوين من طريق الاعتقاد بهم
وبأصحاب القبور.
وقد تجاسروا على وضع أحاديث مكذوبة أشاعوها في مؤلفاتهم حتى التبس
أمرها على كثير من العلماء المخلصين من المتقدمين والمتأخرين مع أنها لا أصل
لها في كتب الحديث المعتبرة. وجلبوا الناس بالترهيب والترغيب، أما الترغيب:
فبالاستفادة من الدخول في الرابطات والعصبيات المنعقدة بين أشياعهم. وأما
الترهيب: فبتهديدهم مناوئيهم أو مسيئي الظن بهم بإضرارهم في أنفسهم وأولادهم
أموالهم ضررًا يتعجلهم في دنياهم قبل آخرتهم. (مرحى)
وقد قام لهؤلاء المدلسين أسواق في بغداد ومصر والشام وتلمسان قديمًا،
ولكن لا كسوقها القائم في القسطنطينية منذ أربعة قرون إلى الآن حتى صارت فيها
هذه الأوهام السحرية والخزعبلات كأنها هي دين معظم أهلها، لا الإسلام، وكأنهم لما
ورثوا عن الروم الملك حرصوا على أن يرثوا طبائعهم أصلاً حتى التوسع في هذه
المصارع السيئة، فاقتبس لهم المدلسون كثيرًا مما طبقوه على الدين، وإن كان الدين
يأباه، وزينه لهم الشيطان بأنه من دقائق الدين، ومن هذه العواصم سرى ذلك إلى
الآفاق بالعدوى من الأمراء إلى العلماء الأغبياء إلى العوام.
فهؤلاء المدلسون قد نالوا بسحرهم [٤] نفوذًا عظيمًا، به أفسدوا كثيرًا في الدين
وبه جعلوا كثيرًا من المدارس تكايا للبطالين؛ الذين يشهدون لهم زورًا بالكرامات
المرهبة وبه حولوا كثيرًا من الجوامع مجامع للطبالين الذين ترتد من دوي طبولهم
قلوب المتوهيمن، وتكفهر أعصابهم فيتلبسهم نوع من الخيل يظنونه حالة من الخشوع
وبه جعلوا زكاة الأمة ووصاياها رزقًا لهم وبه جعلوا ربع أوقاف الملوك والأمراء
عطايا لأتباعهم مما نسمي في البلاد العثمانية (دعا كوا وطعامية) (مرحى) .
وبذلك ضاق على العلماء الخناق لا رزق ولا حرمة وكفى بذلك مضيعًا للعلم
وللدين؛ لأنه قد التبس على العامة علماء الدين بالفقراء الأدلاء من هؤلاء
المدلسين الأغنياء الأعزاء، فتشوشت عقائدهم وضعف يقينهم فضيع الأكثرون
حدود الله وتجاوزوها، وفقدوا قوة قوانين الله ففسدت أيضًا دنياهم واعتراهم هذا
الفتور.
أجاب (المولى الرومي) إن كل الديانات مُعَرَّضة بالتمادي لأنواع من
التشويش والفساد، ولكن لا تفقد من أهلها حكماء ذوي نشاط وعزم ينبهون الناس
ويرفعون الالتباس، أو يعوضون قواعد الدين إذا كان أصلها واهيًا (لا متينًا كقواعد
الإسلام) بقوانين موضوعة تقوم بنظام دنياهم ويتحملون في سبيل ذلك ما يتحملون
من المشاق خدمة لأفكارهم السامية، ويبذلون ما عز وهان حفظًا لشرفهم القائم بشرف
قومهم، بل حفاظًا لحياتهم وحياة قومهم من أن يصبحوا أمواتًا متحركين في أيدي
أقوام آخرين. ولقد أثبت الحكماء المدققون بعد البحث الطويل العميق أن المَنْشأ
الأصلي لكل فساد في أخلاق العباد، والمَنْبَت الأول لكل شقاء في بني حواء هو أمر
واحد لا ثاني له؛ ألا وهو وجود السلطة القانونية منحلة ولو قليلاً لفسادها، أو لغلبة
سلطة شخصية عليها من فرد أو أكثر، فما بال الزمان يَضِنُّ علينا برجال ينبهون
الناس، ويرفعون الالتباس، يفتكرون بحزم، ويعلمون بعزم، ولا ينفكون. حتى
ينالوا ما يقصدون، فينالوا حمدًا كثيرًا، وفخرًا كبيرًا، وأجرًا عظيمًا؟ وعندي أن
داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين وبعبارة أخرى تحت ولاية
الجهال المتعممين.
وهنا نبه السيد الفراتي الأستاذ الرئيس إلى قرب وقت الانصراف؛ عندئذ
جهز (الأستاذ الرئيس) بشعار (لا نعبد إلا الله) تنبيهًا للإخوان وقال لهم إن أخانا
المولى الرومي لفارس مغوار نحب ما عودنا من التفصيل والإشباع، والآن قد آن
وقت الظهر وحان أن نتفرق لندرك الصلاة وموعدنا غدًا إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))