الرسالة الثانية سيقول الذين يرونني مغرمًا بالحقائق بعد أن يسمعوا كلامي في الرسالة الأولى: أَوَأنت أيضًا راضٍ عن السياسة وأهلها، وضارب فيها بسهم، ومشترك بها مع حزب؟ وهل تقدر أن تحب الحقائق وتتحزب؟ على سؤالهم بنيت هذه الرسالة الثانية: لا تبحث عن ماضي الإنسان الذي أوصله إلى هذا الحاضر، بل اكتف بمعرفة حالته الحاضرة. لا يفتح الإنسان عينيه على شيء في هذا الوجود قبل الثدي الذي يدر عليه اللبن، ولا يعشق شيئًا من هذا الكون قبل المحسنة عليه بهذا الدر، لا تسل ما هو إدراك الإنسان وكيف عشقه للأشياء، فذلك مما لم يدرك بعد، ولكن صور في ذهنك وليدًا وطاؤه حجر الأم، وغطاؤه ذراعاها، وغذاؤه يفيض به ثدياها، أول ما يناغي هُتافٌ باسمها ودعاء لرحمتها، مَن يكون معبوده غير معبودها وقد علَّمته اسمه أول ما تكلم، وإسناد كل شيء إليه أول ما ميز، ومحبة حزبه وكراهية مناظريه وأعاديه أول ما ودعه حضانها، واستقبله تدريبها، وكيف لا يقبل ذهنه غراسها ومعها والده وجده، وعمه وخاله، وعمته وخالته، والخوادم وأهل الحي أجمعون. أترى هذا الولد إذا كبر وترعرع، وعظم إدراكه واتسع، ينظر ما لم ينظره والداه في المعتقدات؟ قل هيهات هيهات! حدَّث التاريخ عن نفر من هذا القبيل؛ ولكنهم قليل، وهب أنه رأى ما رأى فهل تخال أنه يستطيع أن يظهر وأن يقول ويجهر؟ قل هيهات ثم هيهات، حصل شيء من هذا فيما غبر؛ ولكنه أقل وأندر، ثم هب أنه ظهر، وقال وجهر، فمن تظن أنه يستمع له؟ والكل جازمون أي جزم، أن ما ذهب إليه الآباء هو الحزم، ومخالفته نقص في المروءة والعزم، نعم كان شيء من هذا في القرون ولكنه إن أثمر على قلة فبعد موت الغارس، ومن ذا الذي يسمح أن يُعذب ويهان على غراسه في حياته، وينتظر أن يمدحه الدائسون عليه بعد مماته؟ إذا فهم هذا من فهم فلا جناح علينا أن نقول: إن الإنسان إذا كان عاقلاً عارفًا فلم يعذر نفسه في هذه المداخل لا ينصف إذا هو لم يعذر غيره ممن لا عقل لهم كعقله، ولا همة لهم كهمته، بل الطامع أن يكون الناس كعقل رجل واحد ومسلكه لا يصح أن نسميه عاقلاً عارفًا بعد أن قرأنا في سنن الوجود ناموس الاختلاف والتضاد الذي عرفناه راسيًا ثابتًا، وإن لم نعرف حكمته حتى اليوم. والعاقل لا يملك نفسه أن يتعجب كثيرًا من الأغلاط وشيوعها؛ ولكن تعجبه هو محل التعجب؛ لأننا لم نر مبصرًا يتعجب من أعمى، ولا حيًّا من ميت، ولا صحيحًا من مريض، وما هذا التعجب إلا أثر من نسيان هذا الناموس وتفرعاته. ثم هو إن تعجب أو لم يتعجب عائش في مجتمع فلا بد من أن يجد سبيلاً معهم من السكوت أو الموافقة أو المخالفة بالمعروف إذا رأى من زمانه دولة للبرهان، فهو في أي سبيل محتاج للسياسة. افرض أمامك شخصين ينسب أحدهما إلى الفرس والآخر إلى الروس، أفرأيت إن قلت للفارسي هل تكره الروس الذين هم بشر مثلك ومثل قومك، فقال لك لا، فقلت له لم تتحزب مع الفرس على الروس وهم أمثال بعضهم عندك، فقال لا أستطيع التوفيق بين مصلحتيهما المختلفتين، ولا بد لي من التحزب مع أحد الفريقين، ولا يرتاب أحد أن الأولى بي تحزبي مع الذين منهم أمي وأبي، وفيهم داري وعقاري، وحليلتي وصغاري، وأعرف لغتهم ويعرفون لغتي، وقضيت بينهم شطرًا كبيرًا من عمري أتقول له: هذا ينافي الحكمة والفلسفة، ويباين حب السلام والفضيلة، ويغاير العدل والحقيقة؟ وأرأيت إن قلت له يمكنك أن تكون بينهم ولا تتحزب معهم فحجك بأن الاجتماع يقتضي الاشتراك، أتقول له: هذه القضية غير مسلَّمة، وإن أقام لك عليها البراهين وأورد الأمثال؟ ثم أرأيت إن قلت للروسي هل تكره الفرس؟ فقال نعم، فقلت له: لماذا؟ فقال: لأنهم ليسوا على ديني، فقلت له: فما دينهم إذن؟ فقال: لا أعلم ولكن هكذا سمعت أبي وجدي - أفتحاجه أنت وتجادله بعدما برهن منطقه على أن الأنعام أعقل منه؟ وهل الفارسي أعقل منه إذا أجاب كما أجاب هذا وكان مذهبه التقليدي فيه مذهب المقلد المسكين فيه؟ بنو هذا النوع شأنهم في الاختلاف عجيب، وأعجب شيء أن أكثرهم لا يعلمون حقيقة المذهب الذي ينتسبون إليه، فضلاً عن مذهب المخالف، فهم إنما يقاتلون عن أسماء المذاهب لا عن حقيقتها وكنهها.. . وقد ضربت هذا المثل ليعلم كل واحد أن العقلاء الحكماء معذورون في التحزب فضلاً عن الحمقى والغافلين؛ لأن الشاذ في قومه الذي لا يرجو أن ينال نصيبًا ماديًّا أو أدبيًّا من فوزهم إذا فازوا لا يأمن أن يكون له نصيب من بأسائهم إذا خابوا وقهروا؛ لأن الخصم لا يُميز، بل أنصباء الفوز يخص بها فريق دون آخرين، وأما أنصباء البأساء فإنها تتوزع على الكل، وقد قيل من قديم: (الرحمة تخصص والبلاء يعم) هذا إذا ترك الشاذ وشأنه من قبل الجمهور وهيهات، على أنه ليس مجهولاً أن أولي العزم من الحكماء يحاربون الأغراض السافلة مهما حالت، ويحازبون المقاصد السامية حيث وجدت، وتراهم يصبرون حتى يفوزوا وتحيى بهم السعادات العامة التي ما زالت تستفاد من إرشادهم أو يقضوا كرامًا مخلدين ذكرًا في العالمين جميلاً مأسوفًا عليهم كثيرًا. قلت: إن أكثر بني هذا النوع الذين هم العوام، وهم كل البشر إلا قليلاً لا يعلمون حقيقة المذهب الذي هم عليه، وبرهان هذا الكلام من أوضح الواضحات لمن استقرأ؛ لأنه صادر عن الحس والمشاهدة ونضرب نحن الأمثال بالمسلمين الآن: هؤلاء المسلمين فرق شتى يكفر بعضهم بعضًا، وكلهم يقولون آمنا بأن النبي الذي اسمه محمد عليه السلام جاء من عند الله بكتاب اسمه القرآن، ثم أكثرهم لا يعلمون ما هو ذلك الكتاب الذي جاء به؛ لأنهم إما أعاجم لا يعلمون ذلك الكتاب العربي وإن تعلموا قراءة حروفه، وإما أعراب أميون لا يقرأون الكتاب إلا قليلاً، وإذا نظرت إلى الفرق واحدة واحدة تجد الأمر كذلك.. . هؤلاء العوام قاطبة تسأل أحدهم ما مذهبك فيقول لك حنفي أو شافعي أو مالكي أو حنبلي أو.. أو.. فإذا سألت الحنفي مثلا ما هو مذهب الحنفية تجده يقول لك لا أعرف؛ وإنما قد كان أبي حنفيًّا فصرت مثله، فهو إذن لا يعرف إلا اسم المذهب، وربما لا يعرف اسم الرجل الذي انتسب هذا المذهب لاسم بنته (حنيفة) ولقد بلغ الجهل ببعض العوام أن سألني: أي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم أهو حنفي أم مالكي أم.. أم.. وما أظن أن أمثال هذا السائل الجاهل قليلون ولا أتعجب من ذلك، وقلت يومًا لبدوي من (عَنَزَة) ما مذهبكم؟ فقال لي: لو سألت غيري لقال لك: نحن موالك (يعني مالكية) ولكن الصحيح الذي عليه المعول لا مذهب لنا ولا كتب عندنا؛ وإنما قد سمعنا أن المالكية لا يعتبرون الكلب نجسًا فأحببنا هذا القول؛ لأن الكلاب تطوف على أوانينا كثيرًا! . ماتت الفرق الإسلامية التي أساس مذاهبها العلم فقط كفرق المعتزلة والجبرية المحضة مثلاً، ولم يبق منها إلا أحاديث مذاهبها في كتب العقائد يحارب أسماءها قراءُ هذه الكتب، أما الفرق التي أساسها أغراض سياسية فهي حية باقية والموجود منها اليوم هذه: (١) أهل السنة، ومذاهب هؤلاء وطرائقهم واختلافاتهم وعددهم أكثر من باقي الفرق؛ لأنهم أخذوا من الكل وحشوه في كتبهم فكل مشتهٍ يجد فيها شهوته، وسموا أنفسهم على اختلافهم أهل السنة. (٢) شيعة العجم والعراق. (٣) شيعة اليمن والحجاز. (٤) دروز وهم فرقة قليلة العدد بالنسبة لباقي الفرق. (٥) نصيرية وهم أكثر من الدروز. (٦) إسماعيلية وهم أقل منهما، وهذه الفرق الثلاث متقاربة كلها باطنية، وربما اعترض المسلمون بعَدِّ هؤلاء معهم، أما نحن فنراعي الظاهر هنا. (٧) إباضية. (٨) وهابية. سلني هل تعرف كل فرقة من هؤلاء حقيقة مذهب الثانية؟ كلا بل تلعن كل واحدة الأخرى من غير معرفة، وأغرب ما في الباب جهل الذين انتحلوا لأنفسهم اسم السنة بحقيقة الوهابية الذين هم دعاة الكتاب والسنة، كما يعرفه كل مختبر أحوالهم ومستمع أقوالهم. لا تنكر علينا التطويل بهذا فمنه استبانت لك حقائق مهمة تفيدك في هذا الموضع ومواضع أخر، ومنه تعرف عذرنا إذا بحثنا عن أحوال الأمم، وأحوال هذه الأمة وأحوال نفوسنا، سمِّ هذا البحث بالسياسة أو باسم آخر، فقد عرفت أننا رواد معانٍ لا رواد ألفاظ. وهل علينا بعد هذا من حرج إذا قلنا نحن كذا وغيرنا كذا بعد الإيمان بأن الغيرية طبيعية وأن لها أحكامًا. سيبقى في نفوس القراء شوق لمعرفة من نحن فنوصيهم أن لا يتعرفوا أنانيتنا- أي حقيتنا - من أسماء أشخاصنا، ولا من الأسماء التي ننتمي إليها، فالذي تسميه أمه سلطانًا مثلاً لا يجب أن يصير سلطانًا بالفعل، بل عليهم أن يتعرفونا بما نقول، وأن يسألوا عنا ما لديهم من العقول، فمن عرف الحق بالرجال شط، ومن عرف الرجال بالحق بلغ المحط. على أنه لا بأس أن نبين في فهرست إجمالي من نحن ومن غيرنا ليكون كمؤنس لمن سأل عن سياستنا قبل سماع قضاياها: (١) نحن بشر نرى أن الميزان في درجات البشر العلم والعمل، فمن كانت في كفتهم العلوم النافعة والأعمال الرافعة كانوا أعلى وبسياسة الأنام أولى، ومن كانت في كفتهم الجاهليات والأعمال الرديئة كانوا محتاجين للتعليم لئلا يطغوا في الأرض. (٢) نحن أولو مصالح معاشية يهمنا أن تحميها سلطنة عادلة قوانينها، موافقٌ رئيسها. (٣) نحن أهل مدن نرى حاجتها للمعارف وإصلاح الأخلاق والعوائد. (٤) نحن جماعة متعاونون داعون إلى الإصلاح، وبه متذاكرون، والسلام على النظام العام. ... ... ... ع. ز