(رينان) كاتب بليغ من كُتاب الفرنسيس وملاحدتهم اشتُهر اسمه في مصر وبعض البلاد العربية الأخرى بخطاب (محاضرة) موضوعه (الإسلام والعلم) وجه به قوة فصاحته وبلاغته الخلاّبة إلى الطعن في الدين الإسلامي والأمة العربية لينقض بها ما شاده علماء فرنسة الفلاسفة الأعلام وغيرهم من التاريخ المجيد للعرب والإسلام، وفي مقدمتهم الفيلسوف الاجتماعي الكبير (غوستاف لوبون) صاحب كتاب (حضارة العرب) الذي سارت بذكره الركبان، والعلامة (سديو) الشهير صاحب كتاب (تاريخ العرب) ولكنه تكلم بجهل وتكلموا بعلم. وقد كان من مثار العجب للناس أن الجامعة المصرية أقامت حفلة حافلة لذكرى (رينان) بمناسبة انقضاء قرن من عهد ولادته وحاروا في استنباط الباعث لأساتذة الجامعة على اختيار هذا الملحد الطاعن في دين الإسلام وفي المسيحية أيضًا للإشادة بذكره وإعلاء قدره، على عدم حفظ أي منقبة له نفع بها البشر فأصاب هذه البلاد وهذه الأمة حظ منها يستحق بها ذلك عليها، والعهد قريب باحتفال فرنسة وغيرها بذكرى عالم من علمائها بل من أكبر علماء الأرض ومكتشفيهم نفع البشر كلهم بعلمه واكتشافاته وهو (باستور) الشهير، فلماذا لم تحتفل الجامعة بإحياء ذكره وإعلاء قدره؟ وقد كان الدكتور طه حسين أحد مدرسي الجامعة المصرية ينشر في هذه الأثناء التي وقع فيها الاحتفال بذكرى (رينان) مقالات في جريدة السياسة يحاول فيها إثبات انتشار الارتياب في الدين الإسلامي، والإلحاد، والفسق عنه في أهل القرن الثاني والثالث للهجرة الإسلامية في بلاد الحضارة العربية كالعراق بل في الحجاز أيضًا!! ويستدل على ذلك بشبهات كشبهات رينان، كما أخبرنا الثقات الذين رد بعضهم عليه. وفي إثر ذلك نُشر في الجرائد إعلان يبشر الناس بأن الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق سيلقي في الجامعة المصرية محاضرة موضوعها (الفيلسوف رينان وجمال الدين الأفغاني) فظننا نحن وأمثالنا أنه يريد بهذه المحاضرة أن يمحو سيئة ذلك الاحتفال بالإشادة بفضل فيلسوف الإسلام السيد الحسيني سليل البضعة النبوية الطاهرة الذي اشتهر عنه أنه رد على محاضرة رينان في وقتها بما هدم بنيانها وقوض أركانها، وقد أممنا دار الجامعة في مساء اليوم الثاني من شعبان (٢٠ مارس) مع الكثيرين لسماع محاضرته فلما سمعناها دهشنا وخاب أملنا، فخرجنا من دار الجامعة إلى دار جريدة الأهرام لموعد اجتماع مجلس إدارة نقابة الصحافة فيها فخَفَّ بنا كثيرون ممن خرج معنا من الأزهريين وغيرهم فرأيناهم مستائين مما سمعوا كارهين له، فذكرنا لهم بعض ما في الخطاب من الخطأ والخطل والضعف في المحاضرة فتمنوا لو يكتب فوعدناهم بذلك، وقد كتبنا في تلك الليلة العجالة التالية لجريدة الأهرام: محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق موسيو رينان وجمال الدين نظرة عَجْلَى: حضرتُ هذه المحاضرة في الجامعة المصرية وكنت قد سمعت من شيخنا الأستاذ الإمام كلمة مجملة عن رد السيد على (رينان) فهمت منها ما سأذكره بعدُ. كنت أظن أن سأسمع ما قاله (رينان) في الإسلام مفصلاً، وأن يكون فيه شبهات ومطاعن دقيقة تحتاج إلى حجج جمال الدين وقوة عارضته فخاب ظني، وكنت أنتظر أن أسمع تتمة المحاضرة المعلن عنها في الصحف، وهي ما كان بين رينان ومحمد عبده لأرى هل أسمع عنه ضد ما أعلم منه عن نفسه، كما سمعت ضد ما أعلم منه عن أستاذه، ولكن الأستاذ صاحب المحاضرة أطال في المقدمة فضاق الوقت المعين عن الخاتمة، وهي على ما أظن رد الشيخ محمد عبده على رينان. طعن رينان في الإسلام بأنه عدو العلم والعقل وطعن في العرب بأن عقولهم قاصرة بطبعها غير مستعدة لفهم الفلسفة وما وراء الطبيعة، وكل ما ذكر في المحاضرة من تلخيص كلامه يدل على أنه لم يكن يعرف من أصول الإسلام شيئًا إلا بعض كلام دعاة النصرانية في الجزائر ورجال السياسة الفرنسية فيها، وناهيك بإخلاص الفريقين والتحقيق والصدق منهما، فمن تحقيق الفريق الأول ما يعرفه قراء العربية من كتاب (الإسلام للكونت دي كاستري) الذي ترجمه بالعربية المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول، فإن فيه من العقائد المنسوبة إلى الإسلام ما لم يخطر في بال أحد من البشر لم يطلع على مفترياته. ومن تحقيق الفريق الآخر تفضيل البربر على العرب في العلم والمدنية، ودليلهم على ذلك أن أصلهم من برابرة الشمال الأوربيين لا من همج الساميين! وقد اضطر إلى تجهيلهم الفليسوف الاجتماعي بحق (غوستاف لوبون) أحد أفراد علماء الفرنسيس الذين أنصفوا العرب حق الإنصاف على علم صحيح بالتاريخ. ومن هذا الباب ثناء رينان على جمال الدين وعلى قومه الأفغان بأنهم من الأرومة الآرية ذات العقل الراقي المستعد للفلسفة العليا التي تستعصي على عقول العرب، وعلّل بذلك ما زعمه من عدم استمساك هذا الشعب بالإسلام. والحق الواقع القطعي الدال على مبلغ جهل رينان هو أن السيد جمال الدين هو الفليسوف الوحيد الذي خرج من الأفغان وهو من صميم العرب من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الشعب الأفغاني هو أشد الشعوب الإسلامية اعتصامًا بدين الإسلام وتعصبًا له لعله لا يفوقه في هذا أو يساويه فيه إلا عرب نجد، فإذا كان السيد جمال الدين غير متدين كما تراءى لعقل رينان فقد نقضت قاعدته في العرب وفي الأفغان جميعًا، فما هذه الفلسفة؟ وإذا كان هذا مبلغ علمه بهذا الشعب الحاضر، فما القول بعلمه بالشعب العربي الأندلسي الغابر؛ إذ فضح نفسه فيما قاله عنه شر فضيحة. على أننا لا نثق بما نقل إلينا الأستاذ صاحب المحاضرة من كلام فيلسوفي الغرب والشرق - على رأيه - فإن السيد جمال الدين كتب رده على رينان بالعربية - كما قال - وترجم لجريدة الديبا بالفرنسية، ونقل من الفرنسية إلى الألمانية، ومنها إلى العربية، فهل حفظ الأصل مع كثرة النقل من لغة إلى لغة إلى أخرى. نقل إلينا قبل هذا كلام من قول رينان في الإمام الغزالي وجدناه غلطًا مخالفًا لما في كتبه المشهورة كتهافت الفلاسفة وإحياء علوم الدين، وهو لم يعتوره من تعدد الترجمة ما أصاب رد السيد جمال الدين. ملخص ما ذكر في المحاضرة من رد السيد الأفغاني على الفيلسوف الفرنسي أنه وافقه على كون الإسلام عدو العلم والعقل كسائر الأديان وخالفه في طعنه في العرب. ولكن الأستاذ صاحب المحاضرة نقل عن السيد كلمة وجيزة مجملة فيما عزاه رينان إلى الإسلام هل هو من تأثير الدين نفسه أم هو تأثير فهم الناس له واختلاف الشعوب في فهمه؟ خرجت هذه الكلمة بصوت غير جهوري فلم تَعِهَا كل أذن؛ ولا فكَّر فيها كل سامع، ولعل كل ما في الرد من التسليم باضطهاد الإسلام للعلم وعداوته للعقل مبني على هذه الكلمة. ههنا أذكر كلمة الأستاذ الإمام عن رأي أستاذه السيد جمال الدين في الدين والعلم، وهي أن الإسلام دين العقل والحكمة والفلسفة الصحيحة، وأنه لولا تأثير هدايته لما انتقل العرب من الأمية إلى أعلى مما كان عليه جميع البشر في كل علم وكل فن وكل نظام وكل عمران في مدة جيل واحد حتى سادوا الفرس والروم والأوربيين وغيرهم. وهل يعقل أن تلك الشراذم التي خرجت من جزيرة العرب حفاة عراة لا يعرفون من العلم شيئًا غير القرآن، ولم يكن كل واحد منهم يحفظه كله - يمكن أن تدوخ كل هذه الأمم وتسودها وتسوسها من ساحل المحيط الأطلسي إلى الشرق الأقصى وتُخْضِعَهَا لدينها ولغتها بالسيف؟ ولكن المسلمين ابتدعوا في الإسلام بِدَعًا كثيرة لم يمكن تداركها بسبب فساد نظام الخلافة وإخراجها عن أصلها الذي يشترط فيه العلم الاستقلالي والعدالة، وبهذا الابتداع الذي صار إسلام القرآن فيه غير إسلام المنتسبين إليه أضاعوا العلم به ثم عادوا كل علم حتى صاروا إلى ما كان يسعى السيد لتلافيه وتداركه، فكأنه يقول لرينان: كل ما ذكرت من عداوة الإسلام للعلم مما تكثر الشواهد عليه في التاريخ - وإن كانت قليلة في عهد الإسلام بالنسبة إلى غيره من الأديان - فهو الإسلام الذي فهمه خطأ أولئك الذين عادوا العلم والعقل والحضارة لا إسلام القرآن الذي يخاطب العقل ويرفع شأن العلم في آيات كثيرة، ويبين أن لله سننًا في الكون قام بها نظامه، وأن هذه السنن لا تبديل لها ولا تحويل. من الكلمات المأثورة عن السيد جمال الدين: إن القرآن وحده كاف لرفع البشر إلى أرقى مقام من العلم والعرفان والفضائل والحضارة، لو أن شعبًا وجده على صخرة في جزيرة بالبحر لم ير غيره. وليس معنى هذا أن فيه مسائل جميع العلوم والفنون التي يرقى بها البشر، وإنما معناه أنه يُصْلِحُ العقول والأنفس ويدفعها بهدايته إلى طلب هذا الكمال. وكتب إليَّ صديقي الشيخ عبد القادر المغربي من الآستانة أيام كان السيد فيها أنه زاره فكان مما سمعه منه أنه ليس بين أوربا وبين القرآن من حجاب يمنعهم من الاهتداء به إلا نحن معاشر المسلمين. قال: إنه رفع كفيه ووضعهما أمام وجهه وفرج بين أصابعه وقال: ينظرون إلينا من خلال القرآن هكذا فيرون وراءه شعوبًا قد فشا فيها الجهل والفقر والكسل و.. و.. فيقولون: لولا أن تعاليمه باطلة لما كان أتباعه بهذه الدركة من الانحطاط! فإذا أردنا أن نهديهم إلى الإسلام فلنقنعهم أولاً أننا لسنا مسلمين. وقد سألت الأستاذ الإمام: هل وَفَّى السيد بما وعد به من كتابة كتاب يثبت فيه أن المَدِينة الفاضلة التي مات الحكماء بحسرةٍ مِن فَقْدها لا تختطُّ في العالم إلا بالدين الإسلامي؟ فقال: لا أعلم أنه كتب شيئًا بهذا العنوان، ولكنه كتب كتابًا أو قال رسالة فارسية في العدالة العامة أثبت فيها هذه القضية، ولا أعلم ما فعل الله بهذا الكتاب أو الرسالة (الشك مني) . ومن أراد أن يعرف رأي السيد في تأثير الإسلام في إصلاح البشر فليقرأ مقالات (العروة الوثقى) الاجتماعية في الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام. وأما موضوع الإسلام والعلم فقد فصَّله الأستاذ الإمام في كتاب (الإسلام والنصرانية) تفصيلاً. وسأعود إلى هذا الموضوع فأوفيه حقه في المنار إن شاء الله تعالى. فعلم من هذا أن الذي يتفق مع ما كتبه السيد جمال الدين أو أملاه في حقيقة الإسلام وكونه دين الحكمة والعقل والمدنية - هو أنه قد وافق على أن الإسلام الممزوج بالبدع هو ذلك الذي اضطهد بعضُ أهله رجالَ العلم، كما كان يقول في مجالسه بمصر عند رده على بعض آراء الأشعري في الكسب والجبر والتحسين والتقبيح العقليين: إن دين الأشعري في المسألة كذا وإن إله الأشعري قادر مريد، غير حكيم. ويحب الملحد أن يكون عظماء الرجال ملاحدة مثله، وإذا كان مِن منتحلِي الفلسفة والعلم والباحثين في الأدلة يظن أن من عرف بالعقل والعلم والحكمة لا يمكن أن يكون ذا دين. وهذا ما كان يحمل بعض الناس على القول بأن جمال الدين ومحمد عبده غير متدينين. وقد كان يسألني بعض من يعرفون مني الصدق: هل الأستاذ الإمام متدين بالفعل اعتقادًا وعملاً؟ بل كثيرًا ما سألني مثل هذا السؤال عن نفسي من يحسنون الظن بي ويعدونني من (المتنورين) مثلهم ? وآخر مَن سألني هذا السؤال عن نفسي أديب في حضرة جماعة من المسلمين والمسيحيين، منهم سليم أفندي سركيس الكاتب المشهور، وموضوع السؤال الإيمان بالبعث والحياة الأخرى بعد الموت، وقد أجبتهم بما أزالَ استبعادَهم للبعث، وصوّرته لهم بصورة تتفق مع العلوم والفنون العصرية ولا سيما الكيمياء حتى اعترفوا بذلك. إن الملحد يحكم على غيره بالإلحاد بأدنى شبهة، وقد حدثني الدكتور شميل أنه سأل السيد جمال الدين عن الدليل على وجود الله تعالى! قال: فشرع يذكر لي قواعد كلامية في استحالة الترجيح بغير مرجِّح، والممكن والواجب. لم أفهمها فعلمت أنه شاك ولا يستطيع أن يقيم برهانًا علميًّا واضحًا. والذنب على الدكتور شمبل الذي كان خالي الذهن من تلك الأصول والقواعد العقلية التي اعتمد عليها متكلمو الإسلام في المسائل الإلهية، فظن أن السيد يقول ما لا يفهم؛ لأنه هو لم يفهم ما قاله السيد. أرى في هذا البلد أفرادًا يعنون في هذه الأيام بإفساد عقائد المسلمين وتجرئتهم على الكفر وعلى الفسق أيضًا [١] حتى زعم بعضهم أن أكثر المسلمين كانوا كذلك في القرن الثاني للهجرة مرتابين في الدين وفاسقين عنه بدليل ما يوجد في بعض كتب الخلاعة والأخبار من حكاية ما يؤثر في ذلك عن بعض الأفراد من الشعراء والمغنين والمخنثين! على أن رواة هذه الأخبار لا يثق بهم، وأين هم من كتب المحدثين الثقات وتراجم العلماء والصلحاء الذين ملأوا الدنيا علمًا وفضلاً وقدوة صالحة؛ إنهم لا يستطيعون قراءة أمثال هذه الكتب ولا تصديق مؤلفيها {وَلِكُلٍّ وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: ١٤٨) . وأما نحن فإننا لا نقبل إلا رواية الثقات العدول وننصح للناس أن يعرضوا عن اللغو والفضول، وروايات مَن لا يوثق بعدالتهم، ولا سيما إذا كانت مخالفة للروايات الصحيحة التي تعارضها. وعلماء نقد الحديث يردون رواية العدل المعروف بالصدق إذا خالفت روايات الثقات الأثبات المعروفة، فآراء حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني مُدَوَّنَة في رده على الدهريين وفي مقالات (العروة الوثقى) وغيرها برواية الثقات، وقد طبعت في عصره وتلقاها الألوف ومئات الألوف في الشرق والغرب، فهل يصح أن نردها بجمل مقتضبة منقولة عمن لا يوثق بهم بعد مرورها من مضيق لغات مختلفة تعودنا أن نسمع من أهلها الاختلاق علينا في ديننا وتاريخنا وسياستنا؟ كلا إنه لو صح ما فعلوه فيها عن السيد جمال الدين لكانت دليلاً على جهله فيما نعلم أنه من أعلم الناس به، وعلى تناقضه وعلى كذبه ونفاقه. ولو كان ذلك - أجلَّ اللهُ قدرَه - لما صح أن يكون قدوة لأحد، وفات على دعاة الإلحاد أن يتخذوه قدوة فيه للناس، كيف وهو الذي أحيا النهضة العلمية والسياسية في الإسلام. رحمه الله وبرأه من تهم أعداء الأديان، كرينان ومقلدة رينان، ونحن إنما نهتدي بقوله تعالى: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-١٨) . *** كلمة المنار في المحاضرة (١) كتبنا كلمتنا العجلى للأهرام عقب حضور المحاضرة بحافز التأثير السيئ الذي كان لها في نفسنا، وفي أنفس الجمهور كما علمنا، كما أن أحد أساتذة الجامعة جاء الأهرام في تلك الليلة بكلمة أثنى فيها على المحاضرة، وزعم أن الجمهور تلقاها بالقبول والارتياح ... ورغّب إلى رئيس تحريرها أن ينشرها في الجريدة على أن تكون باسمها ففعل، ثم استكتبوا رضا توفيق بك الملقب بالفيلسوف التركي مقالة في الثناء على المحاضرة وتحبيذ موضوعها والتنويه بأمر الجامعة المصرية وأساتذتها ونشروها. ونحن وعدنا في كلمتنا العجلى أن نعود إلى الموضوع فَنُجَلِّيه في المنار - والمنار أجدر به - لأجل أن نكتب ما نرى فيه الفائدة بعد قراءة المحاضرة؛ لعلمنا بأن ستنشر في جريدة (السياسة) التي كانت خصصت بعض صفحاتها لنشر أمثالها، فلما قرأناها ظهر لنا ما كان خفي علينا عند سماعها، وأوله افتتاحها بتدقيق البحث في تاريخ إخراج السيد جمال الدين من مصر واعتقاله في الهند ومجيئه إلى باريس، فقد أطال فيها بما لم ينشر كله في صحيفة السياسة إذ لم يكن مكتوبًا، وكان هو أول ما تبرم به السامعون ونكروه فإنهم لم يحضروا لأجل سماع تاريخ السيد في أسفاره وتحرير القول في تاريخها، ونرى أن نقسم القول في المنار إلى بيان ما ظهر لنا من غرض الأستاذ الشيخ مصطفى من المحاضرة، فالدفاع عما رمى به السيد جمال الدين فتُفنَّد مطاعن رينان الجهلية. الغرض من المحاضرة: كنا نظن أن الأستاذ الذي درس العلم الإسلامي في الجامع الأزهر، وبعض العلم الأوربي في باريس أراد - بعد احتفال الجامعة المصرية برينان الذي لم يعرف في هذه البلاد إلا بما اشتهر من طعنه في الإسلام - أن يقوم بما هو جدير به من تلخيص رأي رينان في الإسلام وتلخيص رد السيد جمال الدين عليه، والزيادة عليه بما يَعِنُّ له، وختْم الكلام بخلاصة الموضوع الذي هو (الإسلام مع العلم والفلسفة) ذلك ما كنا نوده وما كان يظنه الكثيرون. فكانت خلاصة المحاضرة أن السيد جمال الدين الذي اشتهر في العالم الإسلامي كله بأنه حكيم الإسلام وموقظ شعوبه والداعية إلى تجديد مجده وإعزاز دولته بهدي الدين وعدو الإلحاد وصاحب تلك الحملة المنصورة على أهله في رده على الدهريين - قد كان ما كان من أمره في ذلك محصورًا في حياته قبل أن يذهب إلى أوربة - بل إلى باريس - وإنما كان الغرض سياسي، وأنه بعد وصوله إلى مدينة الكفر والإلحاد واجتماعه برينان وأمثاله في أوائل سنة ١٨٨٣ قد تطور فكره في أقل من ثلاث سنين، فمرق من الدين، واعتقد أنه عدو للعلم والعقل والمدنية، حتى إنه قَبِلَ بكل تعظيم وارتياح طعن رينان في الإسلام، وعظَّمه وأثنى عليه من جرائه أطيب الثناء، على ما سنبينه بالإجمال من بطلانه وسخفه الذي لا يخفى على طالب علم بله حكيم الإسلام، ومكمل تربية الأستاذ الإمام. بهذا أجاب الأستاذ الشيخ مصطفى عن المقارنة بين رد السيد على رينان سنة ١٨٨٣ وبين سائر محرراته حتى رده على الدهريين الذي كتبه سنة ١٨٨١ - وهذا سر ذلك التدقيق التاريخي الذي أشرنا إليه في فاتحة هذه الكلمة، ولكن المعروف من تاريخ السيد الحكيم، ومن محرراته في سنة ١٨٨٣ وما بعدها أنه لم يزدد بعد إقامته في أوربة - وباريس خاصة - إلا استمساكًا بعروة الإسلام الوثقى ودفاعًا عنه ودعوة إلى النهضة الإسلامية المدنية بهدايته العالية. وخلاصة المحاضرة أن فليسوفي الشرق والغرب قد اتفقا على إثبات عداوة الدين للعلم والعقل وحرية الفكر لا فرق بين الإسلام وغيره. علمنا أن صاحب المحاضرة كان يبحث منذ سنين عن آثار السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده، فهل كل هذا التعب كان لأجل هذه النتيجة المستنبطة من تلك المقدمات غير المُسَلَّمَة؟ الدفاع عن السيد جمال الدين: إننا نرى التعارض تامًّا بين هذا الرد الذي استخرجه لنا صاحب هذه المحاضرة من ترجمة ألمانية عن ترجمة فرنسية لم يرها عن أصل عربي مفقود - وبين سيرة السيد ومكتوباته وما روى الثقات عنه من أول عمره إلى آخره حيث كان في الآستانة يختلف إليه العلماء والكتاب والأذكياء الذين لقينا كثيرًا منهم، فأي الأمرين نُرَجِّح؟ لدينا رجل معروف مشهور، روى لنا عنه آراءه وأفكاره كثير من العلماء والفضلاء من أقطار مختلفة عاشروه وتلقوا عنه، منهم من توفي كالأستاذ الإمام والأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان والأستاذ إبراهيم اللقاني الذي كان أقرب الناس إليه، وألصقهم به وأكثرهم استفادة منه، ومنهم الأحياء كالأستاذ الشيخ بخيت والأستاذ إبراهيم بك الهلباوي، ومنهم آخرون من أهل سورية والآستانة وغيرها من الأقطار كالأمير شكيب أرسلان والشيخ طاهر الكيال والشيخ عبد القادر المغربي وله آثار مخطوطة ومطبوعة في عصره، أشهرها رسالة الرد على الدهريين، وجريدة العروة الوثقى التي نشرها بباريس سنة ١٨٨٤. كل ذلك متفق في تعريف الرجل إلينا أو تعريفنا به، ويعارضه تلخيص بالعربية عن ترجمة ألمانية لترجمة فرنسية لرده بالعربية على رينان، فيه إبهام التلخيص واحتمال الخطأ فيه وعدم الثقة بمطابقة الترجمة الألمانية للفرنسية والترجمة الفرنسية للأصل العربي الذي كتبه السيد ردًّا على رينان، فإذا هو بهذه الظلمات الثلاث أقرب إلى التأييد منه إلى الرد، والمشهور أنه رد على أننا فهمنا منه غير ما فهمه صاحب المحاضرة. فأي هذين الأمرين المتعارضين نُرجح؟ أَفَهْمُنَا المؤَيَّد بالآثار المخطوطات والمطبوعات وبروايات الثقات الأثبات، أم فهمه المعارَض بكل ما ذكرنا الذي تعلوه تلك الظلمات الثلاث، إننا نرى أهل الفرق المختلفين في أصول الدين الواحد منهم على مذهبه بنصوص من كتاب ذلك الدين الإلهي، وكذلك المختلفون في الفروع قد يرد بعضهم على بعض بنصوص الكتاب وأقوال الرسل عليهم السلام، بل نرى أهل دين يستدلون بكتاب غير كتابهم على خلاف ما أجمع عليه المؤمنون بذلك الكتاب، كما ألف بعض دعاة النصرانية كتابًا استدل فيه بآيات من القرآن على أن التوراة والإنجيل اللذين بأيدي أهل الكتاب حق كما أنزلهما الله وأنه لا تحريف فيهما ولا تبديل، وأنه يجب العمل بهما بعد الإسلام! ! إننا نجد فيما لخصه الأستاذ صاحب المحاضرة من رد السيد جمال الدين على رينان جملاً متفرقة تخالف جملاً أخرى منها وتحول دون صحة النتيجة التي استنبطها من مجموع الرد وقد يؤيدها في ذلك جملة من تلخيص رد رينان على السيد. أول ما لخصه من رد السيد قوله: (تشتمل محاضرة الموسيو رينان على نقطتين أساسيتين، فقد حاول هذا المفكر العظيم أن يبرهن على أن الديانة الإسلامية كانت بما لها من نشأة خاصة تناهض العلم وأن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة ولا للفلسفة. ويظهر أن الموسيو رينان يقول: إن هذه النبتة الصالحة ذبلت في أيدي المسلمين كما يذبل النبات تلفحه ريح الصحراء الساخنة. وإن المرء ليتساءل بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها: أَصَدَرَ هذا الشر عن الديانة الإسلامية نفسها؟ أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت بها الديانة الإسلامية في العالم ? أم أن أخلاق الشعوب التي اعتنقت هذا الدين أو حُملت على اعتناقه بالقوة - وعاداتها ومواهبها الطبيعية - هي جميعًا مصدر ذلك؟ ولا ريب [٢] أن الوقت المخصص لرينان قد حال دون إجلائه هذه النقطة) اهـ. بحروفه. فيؤخذ من هذه الجملة أو الجمل أمور: (أحدها) أن السيد صرَّح بأن رينان يحاول أن يبرهن على نظريته في الإسلام، لا أنه برهن، ومعنى (حاوله) طلبه بحيلة كما بيَّنه الزمخشري في أساس البلاغة، وإنما يلجأ إلى الحيلة العاجز. (ثانيا) : أنه حاول ذلك بأخذه من نشأة هذا الدين الخاصة وكون العرب الذين نزل كتابه بلغتهم غير مستعدين للعلم والفلسفة، لا من طبيعته وتعاليمه. (ثالثها) : أن الإسلام نفسه نبتة صالحة - أو العلوم - فالعبارة محتملة، وأنها ذبلت في أيدي المسلمين وتصوحت كما يتصوح النبات الغض تلفحه ريح السَّمُوم. ومعنى هذا على الوجه الثاني أن العلوم وجدت في عهد الإسلام ثم ذبلت، وهذا حق، فالتاريخ يشهد أن العرب هم الذين أحيوا العلم والفلسفة بعد أن أخرجهم الإسلام من أميتهم، وأنها إنما ذبلت بعد ضعف دولهم، ثم جفت ويبست بعد زوال تلك الدول، وسيأتي تفصيل ذلك. (رابعها) قوله: إن المرء ليتساءل بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها: أَصَدَرَ هذا الشر عن الديانة الإسلامية نفسها؟ أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت بها الديانة الإسلامية.. إلخ ما تقدم. والذي يتفق مع سيرة السيد مجمَلَة ومفصَّلَة - بل الذي نقل عنه صراحة - هو أن إسلام القرآن أكمل هداية للبشر، وأنه كافل للمدنية الفاضلة التي مات الفلاسفة والحكماء في حسرة من فقدها وعدم اهتداء السبيل إليها، وأن المسلمين لم يقوموا بكل ما أرشد إليه الإسلام من كل وجه، وأنهم جَنَوْا على دينهم حتى نَفَّرُوا الناس منه في القرون الأخيرة، وقد نقلنا في الكلمة العجلى بعض ما روى لنا الثقات عنه في آخر عمره في الآستانة، أي بعد التطور الذي استنبطه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق فكان منشأ أغلاطه. ومما يؤثر عنه وسمعه منه الكثيرون: أن القرآن لا يزال بِكْرًا لم يفسره أحد حق تفسيره، وأن فيه من الهداية ما يناسب كل عصر، وأن المسلمين أخذوا من هدايته المدنية في كل عصر بقدر استعدادهم وأحوالهم الاجتماعية، ولولا ما سنشير إليه من الصدمات التاريخية لبلغوا به الكمال المدني كما بلغوا الكمال الديني. يؤيد فهمنا هذا ما نقله الأستاذ صاحب المحاضرة من رد رينان على السيد جمال الدين قبل خاتمتها، وهو قوله: (ويلوح لي أن الشيخ جمال الدين قد زودني بطائفة من الآراء الهامة [٣] تعينني على نظريتي الأساسية وهي أن الإسلام في النصف الأول من وجوده لم يَحُلْ دون استقرار الحركة العلمية في الأراضي الإسلامية. ولكن في النصف الثاني خنق الحركة العلمية وهي في حظيرته فكان هذا من سوء حظه) . اهـ. أضف إلى هذا إطناب السيد في تفنيد رأي رينان في العرب - واستنتِجْ منهما أنه يعني بالنصف الأول عصر الدولة العربية المحضة قبل تغلب الأعاجم على خلفاء العرب من ترك وفرس - وبهذا تعلم أن السيد قد هدم محاضرة رينان ونسفها نسفًا برقة ولطف، كالماء تخلل أساس بناء بني على شفا جرف هار فانهار به، وإن كل ما وافقه عليه هو أن المسلمين قد وجد منهم - كغيرهم - في نشأة الإسلام الأعجمية في النصف الثاني من حياته ما خنق الحركة العلمية، فكل ما أسنده إلى الإسلام موافقًا لرينان يُراد به الإسلام الأعجمي المشوه بالبدع، لا الإسلام العربي المنصوص في القرآن والسنن، وإلا كان كلامه متناقضًا، ولا وجه لدفع التناقض الذي يُصَان عنه كلام العقلاء إلا ما ذكرنا. شرح الشيخ محمد عبده لرد الأفغاني على رينان: إنني أستطيع أن أشرح لك أيها القاريء هذا الحكم ولكنك غني عن شرحي بشرح أكبر تلاميذ السيد جمال الدين ومريديه وأعلم الناس بآرائه والمطلع على رده على رينان بنصه، فهو قد شرح هذا الرد بكتاب حافل، تتزين به الخزائن والمحافل ألا وهو (كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) . أورد في هذا الكتاب بضعة من أصول الإسلام هي نصوص جليلة، وبراهين قطعية، على كونه دين العمل والعقل والمدنية، ثم ذكر خلاصة تاريخية لمؤرخي الإسلام والإفرنج عن الدول العربية، تثبت أن تلك المدنية الزاهرة وانتشار العلم والفلسفة كان نتيجة تلك الأصول الإسلامية واستعداد الأمة العربية. ومما نقله من كلام غوستاف لوبون الفيلسوف المؤرخ الفرنسي فيه: إن العرب أول من علَّم العالَم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين. وبعد أن شرح نتائج تلك الأصول فتح بابًا آخر للكلام عنوانه (الإسلام اليوم أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام) وصف فيه سوء حال المسلمين علمائهم ودهائهم، وذكر أنه هو الذي حمل رينان على الطعن في الإسلام واتخذه حجة له. وقد أورد ذلك بصيغة السؤال ثم أجاب عنه بعد أن سماه (جمود المسلمين) جوابًا بيَّن به أسبابه والمخرَج منه، ومما قاله في أوائل هذا الجواب (والعنوان لنا) : ضعف الإسلام العربي بتغلب الأعاجم: انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله: كان الإسلام دينًا عربيًّا، ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيًّا بعد أن كان يونانيًّا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له: ظن أن الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، وبصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك، وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح له ذلك، هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا) . (خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخَلَفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه، أكثر من ذلك الجند الأجنبي، وأقام عليه الرؤساء منه، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم ! وصارت الدولة في قبضتهم. ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم، ومنهم من تولى أمره) . (أي عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرف الناس منزلتهم ويكشف لهم قبح سيرهم، فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم، أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة، وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء، وأن يتسربلوا بسرابيله، ليعدوا من قبيله، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يُبَغِّض إليهم العلم ويبعد بهم عن طلبه، ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية الدين: زعموا الدين ناقصًا ليكملوه، أو مريضا ليعللوه، أو متداعيًا ليدعموه، أو يكاد أن يَنْقَضَّ ليقيموه) . (نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو براء منه، لكنهم نجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم، وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات، وسنوا لنا من عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرَّق الجماعة وأركس الناس في الضلالة، وقرروا أن المتأخر، ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر وتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة. وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو ما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام، وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين، وتعاوَنَ ولاةُ الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف واتخذوا من عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلا للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين وموافقة الهوى، أمور إذا اجتمعت أهلكت، فاستتر الحق تحت ظلال الباطل ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما يقال. هذه السياسة - سياسة الظلمة وأهل الأثرة - هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السموات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات، فجُلُّ ما تراه الآن مما نسميه إسلامًا فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج، ومن الأقوال قليلاً منها حُرِّفَت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدُّوه دينًا، نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه، فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر سموه إسلامًا والقرآن شاهد صادق: {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) يشهد بأنهم كاذبون وأنهم عنه لاهون وعما جاء به معرضون، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود، ونثبت أنه علة لا بد أن تزول اهـ. المراد منه هنا. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))