الشعب الأفغاني من أعظم الشعوب الإسلامية استعدادًا لتجديد مجد الإسلام وحضارته في الشرق لما هو ممتاز به من الشجاعة والبسالة والتدين وغريزة الاستقلال ومقت التدخل الأجنبي، وخلو بلاده من الدخلاء الخونة صنائع الإفرنج في الشرق، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون بما ينفثونه فيها من سموم الإلحاد والفسق باسم الحضارة والمدنية، ولكن دب إليهم دبيب هذه السموم من عاصمة الدولة العثمانية أو مدارسها، ومن تقليد بعض شبان الأفغانيين لرجالها، وافتتانهم بالتفرنج الذي أفضى إلى استواء أمان الله خان على عرش ملكها، ووجد من البطانة والوزراء والأعوان ما جرأه على محاولة إفساد أعظم قوة وأشرف غريزة في هذا الشعب العزيز الكريم، ألا وهي قوة التعصب في دينه المبين، هذه القوة التي هو أحوج إليها في عهد الحضارة العصرية التي تمهدت الأسباب لدخولها بجميع مفاسدها فيه، من كفر تعطيل بلشفي من جهة، وإلحاد إباحة من جهة، وما في كل منهما من تهتك النساء، واستباحة الأعراض، والانغماس في الشهوات، والتفاني في حب الزينة والبذخ، والسرف في الترف، وغير ذلك مما يفضي إلى تدخل النفوذ الأجنبي من مالي فسياسي فعسكري، كما وقع في جميع ممالك الشرق الأدنى والأوسط والأقصى، إلا اليابان التي انفردت دون غيرها باتباع الحكمة فيما اقتبسته من أوربة من العلوم والفنون الخاصة بالثروة وينابيعها، والقوة الحربية وآلاتها، مع المحافظة التامة على دينها وآدابها وتشريعها. كان من قدر الله أن أسرف أمان الله خان في التفرنج ومفاسده إسرافًا لا يطيقه مزاج هذا الشعب الديني والقومي، فثار عليه ثورة أخرجته من البلاد مهزومًا مذءومًا مذمومًا مدحورًا، أمام زعيم للثورة من أحقر أهل البلاد وأرذلهم وأسفلهم، ثم كان من لطفه تعالى به أن قيَّض له أفضل رجال بيت الإمارة والملك (محمد نادر خان) فقضى على الثورة ونكَّل بالثائر الحقير الشرير، وطهَّر البلاد، وأمَّن العباد، ونهض بها نهضة الآساد، فأجمع الشعب على مبايعته بالملك فسار بسياسته سيرة عمرية في العدل والفضل والمجد والقوة، والقيام بشئون الدين والدولة، وفي مقدمتها تنظيم القوة العسكرية، ونشر العلوم والمعارف الدينية والمدنية، وتفجير ينابيع الثورة والنهوض بأعمال العمران العامة من تعبيد الطرق وبناء الجسور والمدارس وغير ذلك. لقد قويت آمال عقلاء المسلمين في دولة الأفغان وشعبها وبلادها في عهد الملك نادر خان تغمده الله تعالى برحمته ولا سيما مسلمي الهند وإن كان بعض الملاحدة من كتابها لا يزالون كغيرهم يحنون إلى أمان الله خان وتفرنجه ويفضلونه بزعم أنه كان عدوًّا للإنكليز، وأن نادر خان كان مسالمًا لهم، وهذا الزعم يدل على جهلهم بالسياسة وأنهم لا يزالون فيها كالأطفال أو العوام، فالدولة الأفغانية في طور تأسيس وتكوين فالسياسة المثلى فيها مسالمة جميع الدول، ولا سيما جارتيها القويتين الإنكليز في الهند وروسية. علق قلبي حب الشعب الأفغاني منذ أشرق عليه نور الحكمة والإصلاح من تلك الشمس العلوية المحمدية التي بزغت من بلاده بظهور السيد جمال الدين فيها، ثم علق قلبي حب الملك محمد نادر خان بما وفقه الله تعالى له من تطهير تلك البلاد من فساد أمان الله خان، وغذاه وزيره المفوض بمصر محمد صادق المجددي الذي هو خير مثل له في الجمع بين الدين والعلم والعمل الصالح للدين والدنيا، وإن ما حدث أخيرًا في تركستان الشرقية من تأسيس دولة إسلامية فيها قد أنبت في أرض ذلك الحب الخصبة أملاً قويًّا باتحادها بدولة الأفغان، وقرب تجديد مجد الإسلام في الشرق الأوسط والأقصى وبلغ من قوة أملي بسياسة هذا الملك أن كاشفت وزيره الصادق المفوض هنا بعزمي على كتابة تقرير في إصلاح دولته هنا ليرفعه إلى جلالته وضعت النقط الأساسية له، ولم نلبث أن فجأنا البرق بما فجعنا من نبأ اغتياله ونشرناه في الجزء السادس على أن نعود إلى الكلام في هذه الفجيعة والمسألة الأفغانية. وقد رأيت أن أنشر هنا مقالة لعالم هندي كبير وأستاذ شهير نشرت في جريدة التيمس الإنكليزية، وترجمت بالعربية لجريدة السياسة المصرية وهذه ترجمتها: تراث نادر شاه عن التيمس للسير سيد مسعود نائب عميد جامعة عليكرة الإسلامية بالهند إن المأساة التي وقعت في كابل يوم ٨ نوفمبر الماضي (ت ٢ سنة ١٩٣٣) قد لفت البلاد برمتها في ثياب الحداد؛ لأن البلاد لم تفقد بقتل الملك نادر شاه ملكًا صالحًا فحسب، بل فقدت أيضًا أكثر زعمائها استحقاقًا لثقتها، ولقد كانت لي مقابلة مع الملك الراحل في كابل قبيل وفاته ببضعة أيام، فاعتبرته -إذ ذاك- أعظم الحكام المسلمين في العالم الإسلامي اليوم. ولقد تداول على أفغانستان ملوك كثيرون كان بعضهم مرهوبًا، وكان بعضهم مرغوبًا ومحترمًا، ولكنني أرتاب في أن يكون أحدهم اجتمع له حب الكافة واحترامهم كما اجتمعا للملك نادر شاه؛ إذ إنه ظهر على المرسح في وقت كانت تئن فيه البلاد تحت طغيان المغتصب باجي سقا، وكان يتهددها خطر تفكك الوحدة السياسية التي يتوقف عليها وجودها كمملكة مستقلة، فاستطاع أن يضع حدًّا لمنافسات القبائل فيما بينها، وسارع إلى جمع جيش غير منظم ولا تام الأهبة أنزل به المغتصب عن العرش، وهيأ ذمته أن تستعيد كرامتها التي فقدتها لما رأت عرش أفغانستان يجلس عليه جاهل متعصب من أصل وضيع. ولعل المشاق التي احتملها الملك نادر شاه خلال حملته على باجي سقا في وقت كان فيه هو نفسه ضعيفًا واهن القوى، هذه المشاهد قد ملكت ألباب مواطنيه المقاتلين، كذلك رفضه قبول العرش الذي عرض عليه ثلاث مرات جعل القوم يتبينون أنهم اهتدوا أخيرًا إلى رجل كانت رغبته الوحيدة أن يكون نافعًا لبلاده القلقة. وكان الملك نادر شاه خلال الحملة كلما رجاه شيوخ القبائل أو أتباعه الآخرون في أن يعرب عن نفسه صراحة يجيب إجابة لا تتغير، وهو أن واجبهم الضروري أمام الأمة أن يطردوا الغاصب ثم ينظروا في أن يولوا عليهم ملكًا من تختاره الجمعية الوطنية بالإجماع. على أن الهزائم التي أوقعها به جيش باجي سقا ما جعلته يومًا يفقد أمله؛ لأنه كان رجلاً مؤمنًا بالله يعلم أنه يقاتل في سبيل قضية هي حق فهو لهذا سيفوز في النهاية. وفي أثناء السنوات الأربع التي تولى فيها الملك في كابل وفق إلى إعادة السلام والوحدة في إرجاء البلاد. وأذكر أنني حضرت حفلة كبيرة وقف يخطب فيها أحد الزعماء فصرح بأن أفغانستان قد أصبحت الآن بفضل ملكها الكبير القلب بلادًا متحدة فلم يعد فيها خلاف بين الشيوخ والشبان، والذي يدل على مبلغ نجاح نادر شاه في نشر الأمن في ربوع البلاد أن موته لم يحدث اضطرابًا في البلاد خلافًا لما هو معروف من قبل، بل أجمع الكل على اختيار ولده وهو شاب في التاسعة عشرة [١] من عمره خلفًا له فبايعته كل القبائل ذات الخطر. وتعود بي الذاكرة وأنا أكتب هذا إلى صلاة الجمعة التي أديتها مع الملك نادر شاه يوم ٢٧ أكتوبر الماضي في المسجد الجامع بكابل، وإن أنس لا أنسى نظرة الإخلاص والإعجاب في عيون الجمهور وهم يشاهدون ملكهم يسير متمهلاً في صحن المسجد؛ لأنني بصفتي شرقيًّا عرفت هذه النظرة الخاشعة من الإخلاص وشعرت ألا شيء يمكن أن يكون أصدق منها، ولا تزال ترن في أذني صيحات الهتاف بحياة الملك التي ملأت الجو عقب صلاة الجمعة، فلما التفت الملك ليودعني كانت الدموع تترقرق في عينيه. وكان هذا آخر العهد بيننا، فإنه مع الأسف قد عجلت به طلقات ذلك الشاب المفتون الذي لم يلحقه منه أذى. وكان الملك قبل وفاته مشغولاً بأمرين يحصر فيهما اهتمامه وهما: (١) كيف ينظم ديوان التعليم و (٢) كيف ينمي الموارد المعدنية لمملكته - فيما يتعلق بمسألة التعليم أعطى للأمة القصر العظيم الذي شيده الملك أمان الله خان في دار الأمان ليكون جامعة حديثة، وقرر الملك نادر شاه أن يبدأ في جامعة كابل بافتتاح الكليات التي تدرس المواضيع العلمية مثل الطب والهندسة والزراعة، وقد نظمت فعلا كلية الطب، وكان رحمه الله لا يميل إلى تشجيع العلوم النظرية مثل الفلسفة؛ لأنه رأى ظروف البلاد تجعل من مثل هذه العلوم ترفًا، كذلك كان في نيته أن يستغل شلالات الماء المهمة في أفغانستان لتوليد الكهرباء التي تستخدم في المصالح الصناعية. وكان الملك ينوي في سبيل ترقية الموارد المعدنية في مملكته أن يأمر بعمل مساحة جيولوجية للبلاد، ثم ينظم شركات تعمل تحت إشراف خبراء يستخدمهم وكان كذلك يفكر في إنشاء طرق معبدة تم منها في حياته فعلا الطريق المؤدي إلى الحدود الروسية، وحينما قتل الملك في كابول كان رئيس وزارته ووزير خارجيته بعيدين عن العاصمة يتعهدان هذا الطريق قبل افتتاحه للمرور وينتظر أن يكون معدًّا في السنة القادمة الطريق الآخر الموصل من كابول إلى بشاوار ومتى تم تنقص المسافة بين المدينتين ثلاثين ميلاً. ومن حسن حظ أفغانستان أن الرجال القابضين على إدارتها الآن وهي في مفترق الطرق هم رجال ذوو مقدرة مخلصون في مقاصدهم يثق فيهم الشعب لحبهم لبلادهم، فالسردار محمد هاشم خان رئيس الوزرة وهو أخو الملك الراحل خبير بالعلاقات مع الدول الأجنبية، وله كل المؤهلات اللازمة لرجل يشغل مثل مركزه الممتاز، وهو بعد ذو شخصية جذابة بارع في اكتساب مودة زائره - كما أن السردار فايز محمد خان وزير الخارجية رجل مطلع على الشؤون الأوربية، عليم باللغات، جم النشاط، وعلمه بشؤون الدول الغربية يسير أبدًا مع الوقت، ومحدثه يستفيد دائمًا من حديثه. وأما شاه محمد خان وهو أخو الملك الراحل ووزير الحربية في الوزارة الحاضرة فإن في فطرته تواضع الأكفاء من رجال الجندية، كما أنه كريم مصقول فيه صراحة. وقد أتاح لي الحظ أن أجتمع بوزير آخر هو نواز الله خان وزير الأشغال العامة وهو رجل ذو نشاط لا يخمد، لعب دورًا هامًّا في حملة نادر شاه على باجي سقا وهذا الوزير ولد في بلاد الهند، وتربى في بلاد البنجاب وهو الإخلاص مجسمًا وقلبه يخفق بحب بلاد أفغانستان التي نشأ فيها آباؤه الأولون. كل هؤلاء الوزراء أعرفهم تمامًا وأشعر لهم ولمثلهم العليا بأسمى الاحترام وهم يعملون باتفاق تام لعلمهم أن السكينة والأمن هما أهم ما تحتاج إليه بلادهم، أما فيما يتعلق بالبلاد الأخرى فلن يكون تغيير في السياسة التي وضعها الملك الراحل. فحكومة الأفغان تود أن تعيش في صفاء ومودة مع كل جيرانها، وكل من يقول بضد هذا لا يقول صدقًا؛ لأن القابضين على السلطة يعلمون أن أهم واجب أمامهم في الوقت الحاضر أن يُرَقُّوا المصادر الصناعية للبلاد، كما أنهم يعلمون أن هذا الواجب إنما يمكن القيام به إذا شمل الهدوء والسلام أنحاء البلاد. فالعمل الذي بدأ به الملك الراحل من إنشاء مستشفى تام المعدات لمعالجة المسلولين بالمجان كان إيذانًا ببداية عصر يعنى فيه حكام أفغانستان بتحسين الحالة الصحية للأمة. ومن المؤسفات أن الملك نادر شاه لم يُتَح له أن يرى بناء مدينة كابل الجديد التي فكر في إنشائها وفق تخطيط يلائم أحدث مبادئ الصحة العامة، على أن الوزراء الحاليين يستمرون على إتمام هذا العمل موالين للابن الشاب كما كانوا موالين لأبيه؛ ذلك أنهم رجال محنكون يعلمون ما لا يعلم غيرهم مبلغ الضرر الذي يحيق بالبلاد إذا اضطرب الأمن الذي ثبت نادره شاه دعائمه فيها اهـ. بتصحيح قليل للترجمة.