للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وفد بني تميم

عن جابر قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم -، فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زَيْن، وإن سبنا شَيْن. فسمعهم
النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله عز وجل فما
تريدون؟ قالوا: نحن ناس من بني تميم جئناك بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك
ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالشعر بُعثنا ولا بالفخار أُمرنا
ولكن هاتوا. فقال الأقرع بن حابس لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك وفضل
قومك. فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء،
فنحن من خير أهل الأرض وأكثرهم عددًا وأكثرهم سلاحًا، فمَن أنكر قولنا فليأتِ
بقول هو أحسن من قولنا وبفَعَال (كرمٍ) هو أفضل من فعالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري -
وكان خطيبه -: (قم فأجبْه) فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به
وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله، دعا المهاجرين من بني نمر أحسن الناس وجوهًا وأعظم الناس أحلامًا
فأجابوه، الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزًّا لدينه، فنحن نقاتل الناس
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمَن قالها منع منا ماله ونفسه ومن أباها قاتلناه وكان
رغمه في الله علينا هينًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
قال الزبرقان بن بدر لرجل منهم: يا فلان قم واذكر أبياتًا تذكر فيها فضلك
وفضل قومك، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند المحل كلهم ... من السديف إذا لم يؤنس الفزع [١]
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنَّا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بحسان بن ثابت. فذهب إليه
الرسول فقال: وما يريد مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كنت عنده آنفًا.
قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فتكلم خطيبهم فأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه , وتكلم شاعرهم فأرسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليك لتجيبه. فقال حسان: قد آن لكم أن تبعثوا إلى هذا العود (والعود
الجمل الكبير) . فلما أن جاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، قم
فأجبه. فقال: يا رسول الله مُره فليُسمعْنِي ما قال. قال: أسمعْه ما قلت. فأسمعه،
فقال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة ... على رغم باد من معدٍّ وحاضر
بضرب كإيزاع المخاض مشاشه ... وطعن كأفواه اللقاح الصوادر [٢]
وسلْ أُحدًا يوم استقلت شعابه ... بضرب لنا مثل الليوث الخوادر [٣]
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى ... إذا طاب ورد الموت بين العساكر؟ !
ونضرب هام الدارعين وننتمي إلى حسب من جِذم غسان قاهر [٤]
فأحياؤنا من خير مَن وطئ الحصى وأمواتنا من خير أهل المقابر
فلولا حياء الله قلنا تكرُّمًا على الناس بالخيفين هل من منافر؟ [٥]
فقام الأقرع بن حابس فقال: إني - والله - يا محمد لقد جئت لأمر ما جاء له
هؤلاء، إني قد قلت شعرًا فاسمعْه. قال: هاتِ. فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند اذِّكار المكارم
وأنَّا رؤوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وأن لنا المرباع في كل غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهايم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسّان فأجبه. فقام وقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالاً بعد ذكر المكارم
هُبلتُم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خَوَلٌ ما بين قِنٍّ وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كنت غنيًّا يا أخا بني دارم أن
نذكر منك ما قد كنت ترى أن الناس قد نسوه منك "، فكان قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشد عليه من قول حسان ثم رجع حسان إلى قوله:
وأفضل ما نلتم من الفضل أنكم ... ردافتنا من بعد ذكر المكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا ... ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا - ورب البيت - مالت أكفّنا ... على رأسكم بالمراهفات الصوارم
فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء ما أدري ما هذا الأمر؟ ! تكلم
خطيبنا؛ فكان خطيبهم أرفع صوتًا وأحسن قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع
صوتًا وأحسن قولاً، ثم دنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا
الله وأنك رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يضرك ما كان قبل هذا) ا. هـ رواه الروياني وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر. وقد طعنوا بالمعلى
بن عبد الرحمن بن الحكيم الواسطي راويه، حتى رماه الدارقطني بالكذب، ولا
يستلزم هذا أن يكون الحديث بطوله غير واقع فإن احتمل أن فيه زيادة أدرجها
المعلى فذلك لا يمنع أن يستفاد من الحديث ما فيه من الأدب والعبرة، وإنما يمنع
الاحتجاج به في إثبات الأحكام ورُوي في السير بألفاظ أخرى.