للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تعليم النساء

كانت المرأة مهضومة الحقوق، يعاملها الرجال بالاستبداد في جميع الأجيال
والأعصار، حتى جاء الإسلام فسوى بين الرجل وامرأته في جميع الحقوق
والواجبات، إلا أنه جعل الرجل كافلاً للمرأة، وأعطاه حق الولاية العامة لقوته
وضعفها، فقال القرآن: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) بل رفقت الشريعة الإسلامية بالمرأة، فوضعت عنها بعض
العبادات في بعض الأوقات، ومما ساوت به بينهما وجوب التعليم، فجعلت طلب
العلم النافع فريضة على كل مسلم ومسلمة.
ولكن المبادئ التي وضعها الإسلام لترقية النساء، لم يعتنِ بها المسلمون
العناية التي تؤدي إلى بلوغ غاية الكمال، كما كان شأنهم في كثير من المبادئ
والقواعد الاجتماعية العامة التي شغلوا عنها بالتوسع في سواها، مما لا يستحق
أكثره العناية مثلها، وما صدهم عن مثل هذا إلا ما ورثوه من العادات عن أسلافهم،
ولما كانت نصوص الكتاب والسنة المادحة للعلم والمرغبة فيه والحاثَّة عليه،
تشمل الرجال والنساء - كما هي القاعدة الأصولية في الدين الإسلامي - زعم بعض
الفقهاء أن طلب العلم لا يشمل طلب الكتابة (الخط) ولا يقتضيه، ثم أوردوا
أحاديث تدل على منع النساء من تعلم الكتابة، ولما لم يعترف لهم المحدثون بصحة
شيء منها رجعوا إلى قياسهم، فزعموا أن في تعلمهن الكتابة مفاسد تقتضي
كراهتها على الأقل، وقد أورد عليهم المعارضون حديث الشفاء بنت عبد الله قالت:
دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها، فقال
لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟ رواه الإمام أحمد وأبو داود
والنسائي وأبو نعيم والطبراني، ورجاله ثقات. فأجاب الذين تمسكوا بأحاديث
النهي بأن هذا الحديث يدل على الجواز، وتلك تدل على الكراهة التنزيهية ولا
منافاة بينهما ولا حاجة لهذا الجمع؛ لأن أحاديث النهي لا يحتج بها، وأجاب
بعضهم بأن تعلم الكتابة خاص بحفصة رضي الله عنها، وهو فاسد لوجوه منها أن
الأصل عدم الخصوصية، فلا بد لمن يدعيها من دليل، وأين الدليل هنا؟ ومنها:
أنه لو كان تعليم النساء الكتابة مكروهًا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء عن
تعليم غير حفصة لئلا تفهم من حضها على تعليمها أن غيرها مثلها، كما هو المتبادر.
وأجاب الشيخ علي القاري بأنه يحتمل أن يكون جائزًا لنساء السلف دون الخلف؛
لفساد النسوان في هذا الزمان، وهو كما ترى احتمال لا قيمة له، وقد تبع القاري
في هذا أستاذه العلامة ابن حجر، فإنه قال بكراهة تعليمهن الكتابة في فتاواه الحديثية،
محتجًّا بالأحاديث التي لا يصح الاحتجاج بها، وأورد حديث الشفاء، وقال: إنما
يدل على الجواز، وأن النهي للتنزيه - لما تقرر من المفاسد المترتبة عليه، وما
تلك المفاسد إلا احتمالات أو وقائع جزئيات، لا تبنى عليها أحكام ولا ينقض بها
قانون عام، وما من عمل مبرور إلا ويحتمل أن تنشأ عنه شرور، فلقد ضل
بالقرآن المؤلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩) .
وقد أهديت إلينا في هذه الأيام رسالة من الهند في هذه المسألة (تعليم النساء
الكتابة) من مؤلفات علامة المعقول والمنقول صبغة الله بن محمد غوث الهندي،
وقد طبعت بعناية محمد عبد الله سلمة بن ناصر الدين عبد القادر (ابن المؤلف)
جزاه الله خيرًا، بحث المؤلف في المسألة من الوجوه التي خُضنا فيها، وبيَّن
تخريج الأحاديث الواردة فيها، وهذه أعظم فائدة استفدناها من الرسالة، فإن إخواننا
الهنديين لا يزالون يشتغلون بعلم رواية الحديث الذي أضاعه أهل البلاد المصرية
والسورية والتركية، وإننا نورد كلامه في حديث الحاكم الذي هو عمدة المانعين،
وهو ما رواه في مستدركه عن عائشة مرفوعًا: لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن
الكتابة (يعني النساء) وعلموهن المغزل وسورة النور. قال الحاكم: هذا حديث
صحيح الإسناد ولم يخرجاه، يعني الشيخين. قال مؤلف الرسالة بعد ما أورده
وغيره من أحاديث النهي وجزم بعدم صحتها والاحتجاج بها ما نصه: (أما
حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أبو عبد الله الحاكم وصححه، ففيه نظر؛
لأن الحاكم قد تساهل فيما استدركه على الشيخين. لموته قبل تنقيحه، أو لكونه قد
ألفه في آخر عمره وقد تغير حاله، أو لغير ذلك، ومن ثم تعقب المحدثون على
كثير منها بالضعف والنكارة، كما نص عليه الحافظان الذهبي والعسقلاني وغيرهما،
وهذا الحديث في سنده عبد الوهاب بن الضحاك الحمصي قال أبو حاتم الرازي:
كان يكذب، وقال العقيلي والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان يسرق
الحديث، لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال أبو داود:
يضع الحديث، وقال الحافظ العسقلاني في التقريب: عبد الوهاب بن الضحاك بن
أبان العُرضي (بضم المهملة، وسكون الراء بعدها معجمة) أبو الحارث الحمصي
نزيل سلميه: متروك كذبه أبو حاتم. اهـ
مَن يُلاحظ أن هذا الحديث الذي في سنده كذاب وضّاع، قد وصف بالصحة
واتُّخِذ حجة على إبطال مسألة من أهم مسائل الاجتماع والتمدن، يتجلى له فساد قول
القائلين: إن البحث في رواية الحديث لا لزوم له في هذا العصر؛ لأنه قد فرغ منه
المتقدمون - نعم قد فرغوا منه، ولكن يجب علينا أن نقف على جميع ما قاله
المحققون، لا أن نُسلم بكل ما نراه في كِتاب مات مؤلفه ويتجلى له نموذج الضرر
الذي ألمّ بالمسلمين من اختلاق الأحاديث ونسبتها لصاحب الدين، ومن التسليم
بجميع ما قاله أموات المؤلفين.