للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نموذج من إنشاء طلبة
دار الدعوة والإرشاد
اقترحنا الموضوع الآتي على طلبة السنة الأولى لاختبار إنشائهم وآرائهم في
هذه المسألة، فاخترنا أن ننشر ما كتبه بعضهم كما كتبوه مع تصحيح بعض الغلط
في الهامش، وهو:
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم
إنشاء الطالب يس إبراهيم:
لم ير التاريخ من لدن آدم إلى ظهورهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
كالإسلام في معاملته وعدله، ولم ينقل إلينا أثر يدل على أن الإسلام عامل مخالفيه
بالقسوة؛ بل تواترت الآثار والشواهد الدالة على عدله، وأنه ما جاء إلا لهداية
البشر لما فيه صلاحهم في الحال وصلاحهم في المال، وأنه رحمة للناس كافة
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) ، وإن أهم ما يستشرف منه
على عدل الإسلام في معاشرة مخالفيه النظر في نصوص الدين، فإنه الميزان الذي
يبين العدل من الجور، ويفصل بين الضغط والحرية، تأمل تر أن الإسلام قد بلغ
حدًّا من القوة لا يقاومه صاد. ولا يحركه مزحزح، ومع ذلك ينادي الإسلام: {لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) .
فلو أن الإسلام فيه شائبة من ظلم لحمل الناس على الدخول فيه كرهًا أيام
استكمال القوة في عزه وشبابه، كما يفعل أهل الأديان الأخرى في العصر الحاضر
والقرون الخالية، على أن السابقين معذورون، فإنهم ما وصلوا إلى درجة من العلم
والحضارة تحملهم على الالتجاء إلى العدل، بخلاف أهل هذا الجيل فلا عذر لهم مع
صياحهم بصوت العدل. ولا يخفى على أحد ما يفعلونه بالناس من حملهم على
دينهم وسلب أموالهم وجعلهم خدمًا وعبيدًا، إما بالظلم البيّن، أو الجور المستتر،
وهو ما يسميه الأستاذ بالسياسة اللينة. فوربك أما تشعر الآن بأن الإسلام دين
الرحمة والعدالة في القرون المظلمة خير من جميع الأديان وقوانين السياسة في
عصر العلم والحضارة؟
إن الإسلام لم يضغط على معاشريه، ولم يحملهم على المعاملة بأحكامه؛ بل
جعل لهم الحرية التامة في وضع أحكامه، وجعل عقوبة لمن يتعرض لهم بالأذى
من المسلمين، هكذا كان الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء
بعده. ومما يروى أن يهوديًّا جاء إلى سيدنا عمر بن الخطاب شاكيًا سيدنا عليًّا
رضي الله عنهما من أجل دَيْنٍ ادّعاه عليه، ولما كان الخليفة يحكم بينهما رأى أن
أمير [١] جالسًا قال (قم فساوِ خصمك) ، فيا لله ما هذا العدل والإنصاف بين
يهودي ومسلم لدى أمير المسلمين؟
ما نشأ هذا العدل إلا من نور الإسلام وسماحته. ولا يتوهمن أحد أن القتال
الذي وقع بين المسلمين ومعاشريهم ومن ساعدهم ينافي العدل؛ ما دام يعلم أن الذنب
على المعتدي، وإن البادئ أظلم، فمعلوم أن المسلمين ما آذوا أحدًا ولم يكن
غرضهم إلا إيصال هذا النور إلى القلوب، وكل ما وقع منهم إنما هو دفاع عن
أنفسهم بأمرٍ من الله تعالى بعد التعدي عليهم {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ
الكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفَُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: ١٩١-١٩٢) .
وإن الإسلام لم ينه معتنقيه عن موالاة من خالفهم، ولم يمنعهم من مواساتهم
إلا إذا كانوا يقاتلونهم ويعادونهم، والقرآن أعظم دليل على ذلك: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: ٨-٩) أتُراك بعد سماع هذه الآيات تشعر بأن الإسلام ليس دين العدل
والرحمة إذا أزلت عن بصرك عشاء العصبية؟
فلو نظرت نظرة الإنصاف ما وسعك إلا التسليم بأن آداب الإسلام في معاشرة
المخالفين أحسن الآداب، وكم عفا - صلى الله عليه وسلم - عن مذنب، وأحسن
إلى مسيء؟ وإن التاريخ يدلنا على أنه كان يتحمل أذى الأعداء، ودائمًا يتبع أثر
السلم ولو بالحكم الشاق، ألا تراه مع كثرة تطلعه إلى مكة، وشدة شوقه إلى الكعبة،
وحنينه إلى حجر أبيه إبراهيم، كيف قبل أن يرجع، مع وفرة القوة وإمكان
الوصول، وقساوة الشروط التي منها أنه إذا ارتد أحد من شيعته يقبلونه، وإذا أسلم
أحد منهم لا يقبله - على ما يقول التاريخ - وقد ترك زيارة البيت في هذا العام [٢]
هكذا كان الإسلام ولم يزل في تسامحه وعدله بين أهليه ومعاشريه.
ومن أدب الإسلام أنه لم يسمح للمؤمنين أن يساعدوا الذين آمنوا ولم يهاجروا
على من كان بينهم وبينهم ميثاق [٣] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم
مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الأنفال: ٧٢) .
ولعمري ما انتشر الإسلام على ما ترى إلا بحسن آدابه وعدله في المعاملة،
فإن العدل يجمع القلوب. وبالآداب الحسنة تملك الأزمة، ولا رأي للقائلين بالضغط
والغلظة.
والقول الفصل في هذا قول الله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: ١٥٩) ، فإن الله تعالى أعلم بقلوب عباده خبير بما
يوحدهم ويجمع كلمتهم، وقد أنزل القرآن وضمنه ما يكفل ذلك إن قام به أهله. ولو
تصفحت القرآن آية آية لا تجده يأمر بالغلظة على من التزم حده. وإنما قال {ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (المؤمنون: ٩٦) وقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} (آل
عمران: ١٥٩) إلخ.
وقد أجمع عقلاء الاجتماع [٤] على أن اللين خير من الشدة مهما كانت القوة،
وأنه ما أثر هذا التأثير رجل واحد إلا بإعطاء الحرية وانتشار العدل ومخاطبته
العقول. ويخيل لي - بل ربما كان أقرب إلى الحقيقة - أن الذي يحتاج إلى استعمال
الشدة والقوة والغلظة هو من يدعو إلى شيء باطل، فإن العقول بطبعها تنفر عنه،
فإن أخذ أصحاب الباطل وسائل القسوة والضغط ربما أمكن أن يخضعوا بعض
الناس في الظاهر زمنًا ما، ولا يلبث أن يحصل رد الفعل ويرجع الناس إلى
فطرتهم، وإن الإسلام ما جاء بشيء يناقض الفطرة فكان مقبولاً بمجرد وصوله إلى
الآذان الصاغية؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: ٤٨) ،
فلو أن المسلمين قاموا بما أوجب الله عليهم وبلغوا هذا الدين إلى الناس كما كان
يفعل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح وتدبره الناس لدخلوا في دين الله
أفواجًا.
* * *
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم
إنشاء الطالب محيي الدين رضا
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك ربي ما أحكمك، وأحكم شرعك ونبيك، لقد صببت الآداب والفضائل
كلها في كتابك الحكيم. وأجريتها على لسان خاتم المرسلين، فبأي لسان نحمدك
ونمجدك؟ وبأي عمل نشكر على آلائك وإحساناتك؟ فشكرًا لك من عبد ضعيف،
وصلاة وسلامًا على نبيك الأمين.
الإسلام وما أدراك ما الإسلام؟ الإسلام هو ذلك الدين الذي سوى بين الأمير
والحقير؛ (بل لا حقير عنده) أما بلغك خبر الأمير العادل (عمر بن الخطاب)
مع ذلك الأمير الغساني جبلة بن الأيهم الذي وطئ الأعرابي وصفعه [٥] على قفاه؟
هل قبل منه عمر أن يجعل بينهما درجات متفاوتات؟ كلا! ثم كلا! ولذلك فر
الغساني هاربًا إلى القسطنطينية ولا تسأل عمّا حل به من الندم بعد ذلك. فشعره
يشهد على ندمه العظيم.
هذا ما كان من عمر في قضية الأمير الغساني والصعلوك العربي، وانظر
إلى ما كان منه مع ابن عمرو بن العاص حينما ساط القبطي الذي سبقه (ولا تنس
فضل أبيه الفاتح وأنه كان صغير السن قد يهفو) فقد كتب إلى أبيه: يا عمرو منذ
كم استعبدتم [٦] الناس وقد ولدتهم أماتهم أحرارًا؟
ما هذا بعدل إنسان، إنما هو هدى القرآن، نعم هذا هو سبيل الإسلام وأمرائه،
وليس بعجيب إن قلنا إن التاريخ لم ير أعدل منه. ولعلك تتذكر أن عليًّا (وهو
صهر الرسول وابن عمه) تحاكم مع يهودي أمام قاض مسلم [٧] فكناه القاضي
ونادى الآخر: يا يهودي! فغضب علي من القاضي وقال له: ما كان لك أن تفعل
هذا في موقف القضاء؛ بل كان يجب أن تسميني وتسميه.
خير الأمور التسامح في محله، وقد جرت الشريعة الإسلامية على هذه الفضيلة
وحثت عليها في مواضع شتى. وكم من موقف لأمراء الإسلام وعلمائه أسرع
التاريخ إليه فاقتنصه وحلى به جيده العاطل، فالشريعة تنادي أهلها أن: خالقوا
الناس بخلق حسن. {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء:
٨٦) (من غشنا فليس منا) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ
مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ} (النساء: ٩٤) ، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: ٩٠) ،
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} (النحل: ٩١) .
ولو أردنا تتبع ما ورد في الشريعة من الآي والحكم الواردة بخصوص
المخالفين لنا فقط لما أمكننا في هذا الموقع، غير أننا نعلم بالجملة من تاريخ السلف
الصالح ومما اقتبسناه وأرشدنا إلى تدبره من قرآن وحديث، أن الدين الإسلامي خير
دين قد أخرج للناس يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحترم المصالح العامة
والخاصة، ولا يأمر إلا بكل خير وصلاح لمعتنقيه وللمستظلين برايته البيضاء؛
حتى يجعل الجميع في هناء، يرفلون في حلل السعادة وطيب العيشة الراضية.
لا تظن أن الإسلام احتقر أهل الذمة واهتضم حقوقهم كلا! بل هو مع ذلك لم
يرغمهم على الدين به وهو خير دين {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦)
فالدين قد جعل لهم أحكامًا ترضيهم، فعقد لذلك الفقهاء الأبواب والفصول، وكلها
مستمدة من الدين القويم، فقد جعلهم أحرارًا. وأي حرية أكبر من حرية ذلك
اليهودي الذي أخذ بتلابيب النبي صلى الله عليه وسلم يجذبه إليه ويصيح به. فهَمَّ
عمر باستلال السيف فناداه النبي: دعه فإنه له حقًّا [٨] .
هذه الواقعة التي وقعت من أبي المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم تعطينا
درسًا اجتماعيًّا كبير الأهمية عظيم المنفعة، وتعظم منزلة الدين في نفوسنا، ولعلنا
نقوم فنحاكي سلفنا الصالح ونسير على نهجه القويم فنعود أمة حية، وليس بعجيب
على التاريخ أن يعيد نفسه، ونسأل الله سبحانه تعالى أن يوفقنا لهذا بدون إثارة
الغبار على من خالفنا، كما نسأله أن يهدي مخالفينا ويجعلنا أمة صالحة تأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر.
* * *
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملته
إنشاء الطالب عبد الرحمن عاصم
اقتضت حكمة الله تعالى بأن يرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى
ودين الحق، بدين الفطرة السليمة والعقل الصحيح، ليكون الناس أمة واحدة تجمعهم
جامعة الدين على كلمة الإخلاص لله وحده، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه
وسلم ليتم مكارم الأخلاق، جاء بالآداب السامية والأخلاق الشريفة، من بعد ما أعد
الله تعالى لقبولها نفوسًا زكية وأرواحًا طاهرة. فتقبلتها بقبول حسن، وأنبتتها نباتًا
حسنًا، فكان الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، لِمَا يرون من السعادة في لباسها.
وقد سمعت عن كاتب فرنسي ترجم رواية عربية وكتب لها مقدمة قال فيها ما معناه -
إن من سوء حظ فرنسا أن صادمت العرب (ويريد المسلمين) ومنعتهم من
استعمار بلادهم؛ لأنها لو تركتهم يعمرون البلاد لسبقت فرنسا الأمم إلى المدنية
والحضارة بسنين عديدة [٩] هذه شهادة رجل بعيد عن الآداب الإسلامية - والفضل
ما شهدت به الأعداء -[١٠] يقول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: ١١٠) وبين طريقة الدعوة
وأسلوبها بقوله سبحانه: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: ١٢٥) فبهذي الآية أمرنا الله تعالى بأن ندعو
ونخاطب مخالفينا ومعاندينا باللين واللطف، ونحاجهم بالتي هي أحسن، حتى
نستميلهم إلى الإسلام ليكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا. والآثار التاريخية التي تدل
على تسامح المسلمين مع مخالفهم كثيرة، منها أن يهوديًّا لقي النبي صلى الله عليه
وسلم وطالبه بدين له ثم أمسك بثوبه وهزه، وصفح عنه الرسول صلى الله عليه
وسلم الصفح الجميل.
ومن آداب الإسلام في معاملة المخالفين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان
غانمًا في غزوة من غزواته نَعَمًا كثيرة، وجاءه أحد كبار المشركين ورآها ترعى
فأعجب بها فوهبه إياها الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم المشرك لِمَا رأى من
سماحة النبي صلى الله عليه وسلم وكرم أخلاقه.
ومن آداب الإسلام في معاشرة المخالفين أن ابن فاتح مصر كان يتسابق مع
المتسابقين فسبقه قبطي فأخذته العزة فلطمه، ووصل الخبر لصاحب العدل سيدنا
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخليفة الثاني، فكتب إلى ابن العاص يعاتبه
على هذا ويزجره قال: (يا عمرو متى استبعدتم الناس وقد وضعتهم أمهاتهم
أحرارًا؟) [١١] .
ومن ذلك ما يحكى عن جَبَلة بن الأيْهَم أنه كان يطوف في البيت مسبلاً إزاره
ومر به فَزَارِيّ فوطئ الإزار فسقط عن منكبي جَبَلة فلطمه جبلة لطمة فَشَكا الفزاريّ
جبلة لسيدنا عمر - رضي الله عنه - فأمر عمر بأخذ حق الفزاري من جبلة - وكان
من كبار العرب - فقال جبلة: يا عمر أتساويني بهذا الرجل وأنا ابن الأيهم؟ فقال
عمر رضي الله عنه: الإسلام قد ساوى بينكما ... إلخ.
ومن آداب الإسلام التسوية في الحقوق بين الناس. ومن ذلك ما روي في
رسالة سيدنا عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس في القضاء [١٢] (سوِّ بين
الناس في عدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من
عدلك) هذا وإن من ينظر في جميع الأديان التي عليها الناس فلا يجد دينًا كالدين
الإسلامي في آدابه في معاشرة المخالفين ومعاملتهم. فقد روي عن نبي الرحمة
محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال في الذميين ما معناه (لهم ما لنا وعليهم ما
علينا) [١٣] وقد عرفنا التاريخ ذلك فإنهم بقوا في أوطانهم يقيمون شعائر دينهم آمنين
على أنفسهم متمتعين بالرفاهية والنعيم.
كل ما أتيت به من حسن معاشرة المسلمين للمخالفين ومن المساهلة في
معاملتهم؛ إنما هو أثر من آثار الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم نورًا وهدًى ومزكيًا، جاء الناس بسلام من عند ربه ليكونوا به آمنين. جاء
مسهلاً لا معسرًا، مبشرًا لا منفرًا، ليجمع الناس على صفاء وإخلاص يحب الرجل
لأخيه ما يحب لنفسه؛ بل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: ٩) .
إذا تبين لنا ما جاء به الإسلام من حسن المعاشرة واللين في المعاملة، فلا
يضيرنا قول جاحد، ولا يهمنا صوت مفسد؛ إذ ليس من كل الأصوات تجب الهيبة؛
بل نقول لأولئك المنكرين لهذه الفضائل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: ٦) .
كيف لهؤلاء الناس يقولون على دين الله ما لا يعلمون، ويزعمون أن الإسلام
شديد في معاملاته، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: ٩٠) .
* * *
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم
إنشاء الطالب عبد العزيز العتيقي
الدين الإسلامي دين الرحمة والعدل. دين الحكمة والعقل، دين الإحسان
والفضل، دين يأمر بالإحسان لجميع البشر، دين يأمر بالرأفة بالحيوان فضلاً عن
الإنسان، يظهر ذلك في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وما جرى عليه
الخلفاء الراشدون وجميع السلف الصالح من بعده.
أجل؛ نظرة في سيرته الطاهرة تجدها حافلة بالمواعظ مشحونة بالوصايا بالحث
على الإحسان لجميع الخلق كقوله صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله
وأحبهم إليه أنفعهم لعياله) وقوله: (في كل ذي كبد صدقة) [١٤] ما هذه الرحمة
والحنان! ما هذا الشفقة والإحسان! ما هذه الرأفة التي لم تقصر على بني البشر؛
بل عمت كل من اتصف بالحياة.
الله أكبر إن دين محمد وكتابه ... أقوى وأقوم قيلا
لا تذكر الكتب السماوية [١٥] عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
أدر بصرك في أفعاله صلى الله عليه وسلم تجد أنه كان يقابل السيئة بالحسنة،
أضرب لك مثالاً صغيرًا تقيس عليه ما لم تعلم. كان أحد اليهود يؤذيه صلى الله
عليه وسلم ويضع الأقذار في طريقه إذا خرج إلى المصلى، فلمّا مرض ذلك
اليهودي فقده صلى الله عليه وسلم بفقد ما كان يضع، فسأل عنه صلى الله عليه
وسلم فقيل إنه مريض فذهب صلى الله عليه وسلم لزيارته فلما رأى ذلك اليهودي
فعله وحفاوته به مع علمه أنه يعلم ما كان يصنع في أذيه، قال أشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. فيا حبّذا لو جرى المسلمون على هذه القاعدة في
معاملة مخالفيهم في الدين، إخوانهم في الوطن والبشرية، فوالله لو جروا على هذه
القاعدة لدخل الناس في دينهم أفواجًا.
من راجع القرآن الشريف وجد نصوصه الكريمة في كيفية الدعوة تدور على
محور الحكمة والعقل والإحسان والفضل. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: ١٢٥) ، وامتن
تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ
كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: ١٥٩) وقال تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) وقال: {وَلاَ
تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: ٤٦) .
نرجع إلى النظر فيما جرى عليه السلف الصالح في ذلك أي في معاملة
مخالفيهم في الدين، نجد أنهم جعلوا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لا فرق بين
المسلم وغيره في الحقوق، انظر إلى ما قاله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب
لعمرو بن العاص فاتح مصر حينما تسابق ابنه مع ابن القبطي فسبقه فلطمه ابن
عمرو وافتخر عليه بآبائه، فلما بلغ ذلك عمر رضي الله عنه أرسل إليه يهدده ويقول
له: (متى استعبدتم الناس يا عمرو وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا) وحكم عليه بأن
يرضي القبطي أو يقتص منه [١٦] . وقصة اليهودية صاحبة البيت الذي كان في
المسجد مشهورة؛ بل نرى من تسامحهم أنهم قد أرقوهم (؟) إلى أعلى المراتب
فاتخذوا منهم الكتاب وغيرهم، وقد اتخذ الحرس في المدينة المنورة في يوم من
الأيام من النصارى , ومن راجع تاريخ الدولة العباسية في عنفوان التمدن الإسلامي
رأى أن للذميين من ذلك حظًّا وافرًا، فقد أرقوهم (؟) إلى أعلى المناصب
فصار منهم الأطباء والندماء للملوك وغيرهم، هذه المعاملة تمثل لنا عدالة الدين
الإسلامي وتسامحه وآدابه الراقية.
فعلى رجال الدعوة والإرشاد الذين قد أخذوا على عواتقهم هذه الأمانة وعاهدوا
الله عليها - وهي إرشاد المسلمين إلى أوامر دينهم ودعوة غيرهم إليه - أن يظهروه
في ثوبه الحقيقي، وأن يجعلوا نصوص الكتاب والسنة وأعمال النبي صلى الله عليه
وسلم والسلف الصالح أمام أعينهم ليسيروا عليها، وليفطنوا لمقاصد الدين التي جاء
إليها، وهي إصلاح نفوس البشر وتحليتها بالفضائل، وتطهيرها من الرذائل،
لتكون أهلاً لجوار الله تعالى في الآخرة، وإصلاح حال المتجمع الإنساني في هذه
الدار التي قدر له أن يعيش فيها برهة من الزمن. وليعلموا الناس أن الله قد جعلهم
شعوبًا وقبائل للتعارف والتعاون {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (الزلزلة: ٧) وإن الله غني عن العالمين.
* * *
آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملاتهم
إنشاء الطالب محمد أبو زيد
قال الله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم
مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: ٨) ،
من فقه حكمة الإسلام، ووقف على مقاصده وما يرمي إليه، عرف أن المراد منه
إتمام الفطرة البشرية بما يصلح به شأن الإنسان في حياته الأولى، وينال به
الرضوان الأكبر في حياته الأخرى، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: ٣٠) .
ولما كان حسن المعاشرة والمعاملة من أعظم ما يكوّن في النفس الملكات
الفاضلة، ويقوي الصلة بين الأفراد والأمم، كان مما امتاز به ذلك الدين العناية
بشأنها، والحث عليها، غير ناظر إلى ما يكون عليه المعاشر أو المعامل من
المخالفة - وليست المخالفة قاصرة على الدينية فقط؛ بل يدخل فيها الجنسية
واللغوية وغيرها. ولقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فلم يتجاوز أمر
ربه في دعوة مخالفي دينه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: ١٢٥) ، حتى
كان من تمام رقته في مخاطبته ما حكاه عنه ربه {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: ٢٤) ولم يترك التلطف في معاملاتهم حتى جعل لمن دخل
في حوزته واطمأن من جهته الأمان من كل ما يشينه، وحافظ على حقوقه كما
يحافظ على جميع المسلمين، وسار من بعده من أهل العدل على قوله: (لهم ما لنا
وعليهم ما علينا) حتى لقد شغل كثير منهم مراكز في الحكومات الإسلامية المتقدمة
وغير ذلك مما يشهد به التاريخ.
هذا وإن الإسلام بريء مما يرميه به أعداؤه من التعصبات الدينية على زعمهم
نظرًا لما قرره في أصوله المبنية على الدليل والبرهان؛ {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) كما وإنه (؟) قد قضى على الجنسيات والامتيازات بغير ما فيه
التقى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) فما أعظمه من دين سوّى
بين الطبقات بعدله، فأنقذ الناس من العبودية القديمة، وما أعرفه بحقوق الإنسان!
قرر الفضيلة برتبتيها - العدل والإحسان - فقضى له بالأولى ليكون مرفوع الرأس
آمنًا من الذل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (الشورى: ٤٠) ، وخيره في الثانية
ليذوق حلاوة فضله ويشعر بلذة إحسانه، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: ٤٠) .
فوالله ما وجد للبشر دين أرحم على الإنسان منه، ولا عرف ضمير المخالفين
معاملة أوفى من معاملته، دين يقول كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) جدير بأن يسود
بمتبعيه.
دين يقول نبيه: (سلم على من عرفت ومن لم تعرف) ، (خالق الناس
بخلق حسن) حقيق بأن يسعد من دخل في حظيرته. دين يقول نبيه: (المسلم من
سلم الناس من يده ولسانه) لا يسع كل مجرد عن الأغراض بعيد عن الهوى إلا أن
يقر بفضله، ويخر ساجدًا لآياته.
دين قد شهد لنفسه بما أحدثه في العصور الخالية من الانقلاب المدهش، وأقر
له أعداؤه - والفضل ما شهدت به الأعداء - بأن التاريخ لم ير أكثر عدلاً ولا أحسن
معاملة من أهله، لا شك في تسامحه، ولا ريب في كونه دين الإصلاح العام لجميع
البشر.