للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المعارف في مصر قبل الثورة العُرابية

كانت الحكومة المصرية قد دخلت في أول عهد ولاية توفيق باشا في طور
جديد من الإصلاح الحقيقي وكان الفضل الأول في تنفيذ ذلك لرياض باشا وكان
الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تلك الوزارة الرياضية عقلاً مفكرًا وروحًا مدبرًا؛
إذ كان برياسة قلم المطبوعات وتحرير الجريدة الرسمية كالمسيطر على جميع
أعمال الحكومة كما بينا في ترجمته في المجلد الثامن، ومن ذلك عنايته بانتقاد
نظارة المعارف انتقادًا كان له شأن عظيم في إصلاح شأنها وإننا نورد هنا بعض
مقالاته نقلاً عن الجزء الثاني من تاريخ حياته (الذي يطبع الآن) وهي:
وكتب في العدد ٩٩٠ منها الصادر في ١٨ المحرم سنة ١٢٩٧ -٢٠ ديسمبر
سنة ١٨٨٠:
المعارف
كثر تحدث الناس في شأنها في هذه الأوقات وكأنهم لما فرغوا من الأفكار
المتعلقة بالأمور المالية والإدارية وما كان فيها من الاضطراب وتنوع الأحوال
وتقلب الأشكال إذ كفتهم الحكومة أمر ذلك كله بثباتها وتبصر رجالها العقلاء -
أخذوا يلتفتون إلى ما به حياتهم الحقيقية ونمو هيئتهم الاجتماعية وظهور شأنهم بين
الناس وحسبانهم في عداد أهل العلم وهو العلم النافع الذي رأينا جيراننا من الممالك
نالوا به السيادة علي غيرهم وطفقوا يتذاكرون فيما به يكون تقدمه والوسائل
الموصلة إلى انتشاره في أقطاره موجهين آمالهم إلى نظارة المعارف العمومية؛
لأنها ذات الشأن فيه فقالوا كلامًا كثيرًا أذكره كما قيل.
قالوا: إن المدارس ينبوع هذا الخير الجليل (العلم) وليس له من وسيلة
سواها ولكن تحت شروط لا بد من استيفائها (ولسنا الآن بصدد بيانها) وقد افتُتِحَت
المدارس في ديارنا من عهد المرحوم محمد علي باشا لكن كان اسمها غريبًا على
الآذان وحشيًّا عن القلوب يساق الناس إليها (كأنما يساقون إلى الموت) إذ كانوا
يظنون أن الدخول في المدارس هو الانتظام في العسكرية والدخول في العسكرية هو
الشقاء الدائم والبلاء المحتم وبعض الناس بعد التنبه كانوا لا يرون خطة أرفع من
خطة الكتابة في ديوان أو مصلحة لِمَا يرون للكاتب من المكانة عند الحكام
والتصرف في الحقوق فاكتفَوْا بإرسال أبنائهم إلى الكتبة يعلمونهم حتى إذا كبروا
انتظموا في سلوكهم وكانت لهم المنزلة المطلوبة بدون حاجة إلى مدرسة ولا مكتب
منتظم وبعض الناس ربما كان يعلم فائدة المدارس ولكن كانت توجد أسباب تمنعه
من تربية أبنائه فيها ولكننا لا نبديها، وأما في أيامنا هذه فقد تنبهت العقول ووقفوا
على فوائد العلم وثمراته حق الوقوف غير أن ذلك يقضي على الآباء بتربية أبنائهم
من الآن فصاعدًا على الطريقة المنتظمة، أما الشبان الذين فاتهم زمن التعليم في
تلك الجهالة السابقة واشتغلوا بتحصيل مادة المعاش إما بالتوظيف في الخدمات
الميرية أو طلب الكسب من وجوه أُخر ولهم شوق تام إلى كسب فضيلة العلم فلا
تساعدهم أحوالهم بالضرورة على الرجوع إلى التعليم في مكاتب الأطفال وتعطيل
أسباب معاشهم فيودُّ الكثير منهم أن تكون في البلاد مدارس ليلية يتداركون فيها
بعض ما فاتهم في الأزمنة السابقة أزمنة جهل آبائهم لعلهم بذلك ينفعون أنفسهم
وبلادهم بأكثر مما يقدرون عليه الآن حتى اهتم بعض الشبان من مدة نحو سنتين
بتأليف جمعية لفتح مدرسة ليلية ثم عارضتهم بعض الموانع فلم تساعدهم المقادير
على النجاح وكانوا في انتظار توفيق إلهي يسوق إليهم ذلك الخير حتي سمعوا بأن
نظارة المعارف تروم افتتاح مدرسة ليلية ففرحوا واستبشروا وقالوا: نعمة من الله
سِيقت إلينا نؤدي له مزيد الشكر عليها ثم انقبضت نفوسهم عندما سمعوا من شروط
تلك المدرسة أن تكون دروسها باللغة الفرنساوية خاصة ولا يقبل فيها إلا من كانت
عنده مبادئ الرياضيات والطبيعيات وله تقدُّم في اللغة الفرنساوية وقالوا: يا سبحان
الله إن المدارس الليلية في البلاد المتمدنة تُقرأ فيها العلوم الابتدائية باللغة العامية مع
التزام التسهيل في التعبير والتحاشي عن ذكر الألفاظ الاصطلاحية الغريبة أو العسرة
التفهيم وذلك لفائدتين:
(الأولى) أن كل من يعرف القراءة والكتابة يمكنه أن يفهم مبادئ العلوم بهذه
الطريقة فلا تفتر همة الذين لم ينالوا حظ التعليم في صغرهم وينتشر العلم حقيقة إذ
لا يكون في فهمه صعوبة ولا يمنع الشخص عن أشغاله النهارية.
(والثانية) أنه إذا كان التعليم على هذا النمط تكون المسائل العلمية لقربها
إلى الفهم كأحدوثات تتسلى بها النفس بل ألذ من ذلك؛ إذ لا يدخل الرجل محفل
العلم إلا ويخرج بنور جديد فتنجذب نفوس الناس إلى مستملحات العلم بدل صرف
أوقات ليلهم الطويل في مضاجعهم يتقلبون من جانب إلى جانب أو في بيوتهم
بمحادثات لا طائل تحتها أو في أماكن أخرى نتحاشى عن ذكرها يُهرعون إلى معهد
العلم ليغذوا عقولهم ويروحوا قلوبهم ولم نسمع أن أمة متمدنة افتتحت مدرسة عالية
وجعلتها ليلية فلِمَ عدل عن هذه الطريقة الجليلة في بلادنا واخترعت طريقة جديدة
وهو جعل التدريس في المدرسة الليلية بلسان أجنبي عن لسان البلد بالكلية لا يفهمه
المتفنن منهم ولا العامي والعلوم التي يقرأ بها عالية لا ابتدائية حتى يحرم الناس
الذين هم أحوج إلى التعليم وأولى به وهم الخَدَمَة وأرباب الكسب المُحِبُّون لنيل
فضيلة العلم ولا يستطيعون، ويتلهفون على ذلك ولا يجدون، وهو مما يوجب
الأسف خصوصًا وقد تواتر على الألسنة أن غالب مَن قُبلوا فيها أجانب (وإن كان
ذلك غير صحيح فعندي علم اليقين بأن الأكثر وطنيون لكن من الذين تعلموا في
مدارس الفرير ونحوها) فهل يقال بأننا تقدمنا عن تلك الممالك فترقينا حتى صارت
مدارسنا الليلية أعلى من مدارسهم أو أيقنَّا بأن العامة منا والكتاب لا يستفيدون من
ذلك شيئًا أو لاحظت نظارة المعارف أنها بذلك ستحصل في زمن قريب على أساتذة
تجعلهم معلمين في مدارسها ومكاتبها فإن كان هذا الوجه الأخير قلنا: إنها ستجعل
(مدرسة الخواجات) نهارًا فلها أن تزيد في عدد تلامذتها ما تشاء لهذا الغرض على
أنه لو سُلِكَ في المدرسة الليلية مسلك البلاد المتمدنة لتأتَّى لنا الوصول إلى هذا
المقصد فكثير من أهل العلم كان يود أن ينتظم في تلك المدرسة ليتعلم العلوم التي
فاته تحصيلها لكن منعه التدريس بلغة أجنبية وكون الدروس فوق البدايات وإن كان
الثاني قلنا: إن الاستعداد والشوق موجودان في كثير من الناس ولهم رغبة تامة في
التعليم فكيف يصح إساءة الظن بجميع شباننا إلى هذا الحد وإن كان الأول قلنا
الأولى أن لا نتكلم وإننا وحق الحق لفي حاجة كلية إلى أن يكون التعليم الليلي عندنا
مستديمًا آخذًا من البداية سهل الوسائط ميسر الأسباب بلغة بلادنا عامة أو خاصة
حتى تنقطع حجة الجاهل ويبطل برهان المتكاسل وتنبعث الغيرة في الكل إذا أقبل
البعض على التعليم ويقع التنافس في الفضائل ويجد الشبان الذين استرسلوا مع
هوى الشباب شغلاً وتوبخهم الذمة وتلعنهم ضمائرهم إذا تركوه لا يجدون لهم علة
يتعللون بها إذ ذاك بل نرى أنه لا بد أن يكون هذا التعليم الليلي إجباريًّا عامًّا لكل
مستخدم وقارئ لم يتعلم تمام ما يجب عليه في وظائفه إلا لضرورة تمنعه من مرض
ونحوه خصوصًا بعدما أعلنت الحكومة أن جميع المستخدمين في الإدارات أو
التحصيلات لا بد أن يكونوا من الدراية بحيث يقدرون على تحقيق القضايا وحل
المشكلات بأنفسهم في جميع الجنايات والحقوق والحسابات ونحو ذلك وهذا لا ريب
يستدعي أن يكون جميعهم على بصيرة تامة وذوي عقل وافر وهذا لا يمكن إلا بعد
تحلية العقل بالعلوم الابتدائية التي لا بد منها لكل من يريد الاستقلال في سيره.
هذا حاصل أقوال الناس في شأن المدرسة الليلية التي افتتحتها نظارة المعارف
قريبًا وربما كانت تلك الأقوال صحيحة ولكن إن صح ما قالوا فعليهم بتقديم آرائهم
لسعادة ناظر المعارف ليتروّى فيها ثم يجيبهم إلى مطلوبهم إن رآه موافقًا وخاليًا من
الموانع والمحظورات وإلا أقنعهم بأن تعميم النفع غير ممكن فحينئذ يعلمون الحق
ويريحون أنفسهم من الجدال ولهم أقوال في مواضيع شتى يمنعنا من ذكرها في هذا
العدد ضيق المقام وربما نذكرها غدًا إن شاء الله.
***

وكتب في العدد ٩٩٣ الصادر في ٢١ المحرم سنة ١٢٩٨ - ٢٣ ديسمبر سنة ١٨٨٠:
المعارف
مقالات الناس فيها وأفكارهم العمومية متنوعة ذكرنا بعضها في عدد سابق
ونذكر بعضًا منها في هذا العدد حفظًا لمتفرقات الأقوال لعل شيئًا منها يقارن صحة
فيصادف قبولاً وليكون ذلك دليلاً على تنبيه الأفكار والتفات أذهان الناس إلى النافع
الحقيقي، قالوا: نشرت نظارة المعارف إلى جميع فروعها منشورًا مبسوط العبارة
مشحونًا بالمعاني الرفيعة قاضيًا على نظار المدارس والمكاتب ومعلميها بوجوب
التفاتهم لوظائفهم وقيامهم بواجباتهم مبينًا لهم أن الامتحانات في العام الماضي على
الطريقة الجديدة قد أظهرت أن في بعض المدارس قصورًا في التعليم وفي بعضها
كمالاً وزيادة فاستوجب موظفو الأولى التوبيخ والإنذار وموظفو الثانية الشكر والثناء،
فعلى الجميع من الآن فصاعدًا بذل الجهد في ارتقاء درجة التعليم بحيث تكون
الاستفادة تعقلاً وتبصرًا لا حفاظًا ولَقْلقة وبيّن في هذا المنشور كيفية التعليم وطرق
التفهيم وأنذر من لم يحذُ حَذْوها بوقوعه تحت مسئولية الديوان.
فانشرحت صدور العامة والخاصة بهذه التنبيهات الأكيدة والتعليمات المفيدة
وقالوا: لو عمل بهذا المنشور لاطمأنت نفوس الكافة إلى تربية أبنائهم في مدارسنا
التي يصرف بها الآلاف من الجنيهات على خزينة الحكومة ليتربى بها على توالي
الأزمة رجال يكونون فخر البلاد وحماة ذِمارها فقد كانت النفوس في ريب من نجاح
التعليم فيها قبل اليوم ولذلك كانت مدارس الفرير والإنكليز والأمريكان والبروسيان
وغيرها عامرة بأبناء الأهالي مسلمين ومسيحيين ومدارسنا ليس فيها منهم العدد
اللائق بشأنها ولم يكن ذلك إلا لما أظهرته التجربة من نجاح التعليم في تلك وقصوره
في هذه مع مراعاة الآداب التي يفرح بها الوالدان والأقارب في المدارس الأجنبية
وإغفالها في مدارسنا لكن (الحمد لله) تلك أيام قد خلت فإن التفات سعادة ناظر
المعارف إلى كيفية التعليم وتشديده في أن تكون على وجهها الحقيقي مما يعيد الآمال
ويقويها.
إلا أنهم يتساءلون فيما بينهم بتساؤلات كثيرة منها قولهم: هل حصلت المكافأة
الحقيقية لمن أظهر الامتحان اجتهادهم من الناظر والمدرسين وهى مكافأة الدينار
والدرهم فإن مكافأة الشكر والثناء وإن كانت واجبة وهي من أجلّ المكافأة وأجملها
ولها تأثير في جلب الرغبات وتقوية العزائم لكنها لا تلتصق بالقلب التصاق النقود
والمساعدة المعاشية فإن مَنْ ضاق عليه العيش وكانت حاجته أكثر من إيراده لا تنفكُّ
عنه الوساوس ولا يبارح ذهنه الاضطراب وتغلب منغصات الحاجة وآلامها على
الفرح الذي أنعشه عندما سمع كلمة الثناء عليه ثم ذلك ينقص من اجتهاده ويحطُّ من
همته بل ربما أورث خللاً في كيفية تأديته لوظائفه خصوصًا إذا رأى غير المجتهد
مماثلاً له في الرزق وأوفر راتبًا منه، ولقد صدق القائل: النقص من الرواتب
نقص من الأعمال، لكن المنشور لم يُذكر فيه حصول تلك المكافأة مع أن المسموع
أن ميزانية المدارس كانت قابلة لذلك ونظارة المالية تسمح باستغراقها بل تودُّ لو
يُزاد فيها.
وقولهم هل جميع من نشر عليهم هذا المنشور الجليل يدركون الغرض منه
حق الإدراك وإذا أدركوه فهل يوجد عندهم من القوة العملية والتدريب على الطرق
الجديدة ما يؤهلهم لإجرائه والسير بمقتضاه بحيث تحصل الغاية منه بمجرد نشره أو
أن الكثير منهم محتاج لأن يتعلم تلك الطرق ويتمرن عليها والبعض ربما لا يمكنه
ذلك حتى ولا بالتعليم؟ وهل امتُحِنَ المعلمون والنظار كما امتُحِنَت التلامذة وعلم
المستعد منهم وغير المستعد بوجه الدقة والضبط حتى إذا وجد منهم من لا يليق
لوظيفة أُنزل عنها ورِزقه على الله ومن يليق لأعلى منها رُفع إلى ما يستحق لتوجد
الرغبة الحقيقية أولاً وتخشى عواقب الجهل والإهمال ويتوفر على المعارف زمان
تجرب فيه المعلمين مرة أخرى ويكون كله خسارة على التلاميذ المساكين. ولا
نقصد بالامتحان إلا السؤال في الفن الذي يعلمه فإذا تبين أنه يمكنه الإحاطة بمسائله
ولو بمراجعة الكتب على وجه السهولة عُدَّ عارفًا، ثم طلب الإلقاء والتدريس وكيفية
التفهيم فرُبّ عالِم لا يستطيع البيان! .
يقول الناس: إنه يوجد بين المعلمين أشخاص فضلاء نجباء عارفون بفنونهم
قادرون على تأديتها بالوجه اللائق لكن يوجد بينهم آخرون ألفوا بعض الطرق
العتيقة وتعوّدُوا عليها فلا يستطيعون بعد طول الزمن التحول عنها وإن كانوا علماء
بفنونهم، والبعض منهم يستطيع تأدية القواعد علمًا ويعجز عن تمرين المتعلم عليها
عملاً والبعض يوجد خاليًا من الأمرين يهزأ به التلامذة ولا يوقرون أستاذيته، كل
ذلك يزعمون مشاهدته بالعيان ويوجد بين المعلمين صنف من النبهاء لا يحب أن
يجهد نفسه في التعليم ويكتفي في درسه بحكاية بعض ما وقع له في يومه أو ليلته ثم
ينصرف فهل تعينت هذه الأوصاف في أربابها واعتُرف للفاضل بفضله وعَرَفَ
الناقص مقدار نفسه وأُنزل كلٌّ منزلته؟ . هل اختارت نظارة المعارف لإجراء هذا
المنشور أشخاصًا من العرفاء كلٌّ في فن مخصوص ليطوفوا على المكاتب الابتدائية
والمدارس الخصوصية ولا يكون لهم عمل سوى هذا ليقفوا على أحوال تلامذة جميع
المدارس في كل أسبوع أو خمسة عشر يومًا مثلاً ويقدموا جميع ما يرونه من
الملاحظات على وجه الدقة التامة، فإن رأوا نقصًا عرفوا سببه ومن أي الجهات
منبعه، وإن كان اعوجاجًا في طريق التعليم أرشدوا المعلم بأنفسهم وبينوا له الطريق
مرة بعد أخرى فإن اعتدل وإلا اعتزل ويكون أولئك الأشخاص تحت مسئولية شديدة
إذا ظهر فيما بعدُ نقصٌ ولم يكونوا نبهوا عليه فإن ذلك يبعث الغيرة وينشط الاجتهاد
في المعلمين وغيرهم وتكون حركة المدارس في خط مستقيم يوصل إلى المقصود
بأقرب الطرق المؤدية إليه ويسهل تدارك الخلل إذا ظهر وإزالة النقص إذا طرأ؟
هل دققت نظارة المعارف في معرفة أخلاق النظار والأساتذة الذين وضع الأطفال
في كفالتهم يدبرون أمرهم ويرشدونهم إلى كمالهم وفصلت بين صاحب الأخلاق
الفاضلة والأفكار المستقيمة والعفة والنزاهة والغيرة على نفع مَن وُكِلَ أمرهم إليه
وأداء ما وجب في ذمته حتى يكون حاله وكماله درسًا آخر يعطى للتلاميذ في كل
يوم فتنطبع هذه الكمالات في نفوسهم بأشد من انطباع صور المعلومات في عقولهم
وهو المعنى المقصود من التربية وبين مَن لا خَلاق له بأن يكون أحمق أو دنيئًا أو
عديم الغيرة والذمة أو رديء الأفكار ونحو ذلك من الذين تكون معاشرة التلاميذ لهم
موجبة لتلوثهم بالرذائل وتكون كلماته في الدرس ممزوجة بسُمّ الفساد فتُمِيت أذهانهم
وتكون عاقبة أمرهم إما جهلاً، وقد ضاع الزمان وولى الشباب، وإما علمًا صناعيًّا
مصحوبًا بشرور تعود على صاحبها بالشقاء، ويا ليتها تكون قاصرة عليه ولكن
تتعدى إلى غيره بحكم العادة المستمرة، وعند الفصل بين الفريقين بإرشاد الرقباء
النبهاء ذوي الفراسة والخبرة بأحوال العالم وأخلاقهم والأمانة في الخير والصدق فيه
يميز الخبيث من الطيب ويبحث عن المستقيمين على قدر الطاقة في أنحاء البلاد
لتفوض إليهم تربية الأطفال والشبان ليكونوا رجالاً ينفعون أنفسهم وحكومتهم التي
تصرف عليهم المصاريف الكثيرة أملاً بحصولها على رجال تقيمهم في وظائفها
الكثيرة يؤدون واجباتها بالضبط والأمانة.
يقولون: إنه لا شك في كون الكتب الموجودة في العلوم العربية مثلاً ليست
أساليبها سهلة المأخذ على التلامذة ولا موافقة لطريقة التعليم في المدارس من اشتغال
التلميذ بفنون كثيرة في زمان واحد وإنه يلزم إيجاد طريقة جديدة في التأليف وإزالة
كثير من الصعوبات التي عاقت كثيرًا من الناس عن التعليم فهل حصلت العناية
بتصنيف تلك الكتب وإن حصلت فبمَن أُنيط تصنيفها، وهلا شُكّل مجلس للنظر في
مثل تلك التسهيلات ودعي إليه أعضاء ممن لهم سعة في الفكر والاطلاع على
الطرق القديمة والجديدة ويكون لهذا المجلس حق في تعيين الكتب التي ينبغي
تدريسها في أي الفنون حتى يتأتَّى إجراء ذلك المنشور السابق على وجه الكمال.
من المحقق أن سعادة عبد الله باشا فكري وكيل عموم المدارس في سفره إلى
الجهات البحرية قد رأى أمورًا كثيرة تستحق الالتفات وطلب من نظارة المعارف
أشياء مهمة لا بد من تقريرها والإسعاف بها فهل أجيب طلبه وحصلت المذاكرة في
تلك الآراء القويمة التي أبداها حتى يفرغ من تنفيذ مقتضاها إلى البحث في غيرها
من الجهات القبلية؟ .
هذه جملة من سؤالاتهم سردناها للإحاطة بها وإنا نجيب عن ذلك بأن نظارة
المعارف هى أعلم بما يجب عليها من جميع ذلك وأنها لا تغفل شيئًا مما تعلمه نافعًا
ومفيدًا، ومن اليقين أنها لا تشرع في شيء ثم تتركه يتم بنفسه بدون مراقبة أَلْبتّة
فقد أعدت لمقاصدها وسائل؛ إذ تعلم أن زماننا هذا لا يُرى فيه إلا الأثر الظاهر ولا
يؤْثر عن رجاله إلا الأعمال الحقيقية، أما صدور الأوامر والنطق بالألفاظ العالية
بدون ترتب فائدة عليها فقد مضى وقته وأن الآمال متعلقة برجال تلك النظارة
العرفاء الأجلاء كسعادة ناظرها الأكرم الحريص على تقديم العلم والغيور الرفيع
الهمة سعادة وكيلها عبد الله باشا فكري والبصير الحاذق وكيل المكاتب الأهلية
حضرة علي بك فهمي وسنرى من أعمالهم ما يرفع جميع هذه الأوهام ويفتح
للمعارف في عصرنا هذا تاريخًا جديدًا فهذه هى الفرصة التي نرى فيها الحكومة
العالية مساعِدة على نشر المعارف وتأييدها فعلينا أن لا نضيعها.
***

وكتب في العدد ٩٩٧ الصادر في ٢٦ المحرم سنة ١٢٩٨ - ديسمبر سنة ١٨٨٠:
المعارف
من المحقق أن نظارة المعارف قد اهتمت وعزمت على فتح مدرسة ليلية تقرأ
فيها العلوم الابتدائية لتكون عامة النفع شاملة الفوائد يذهب إليها الرجال الذين شغلهم
الكسب والضرورات المعاشية نهارًا عن التعليم مع رغبتهم فيه وميلهم إليه ولهم من
أوقات الليل الطويل فرصة لا يضيعونها- إذا افتتح مثل هذه المدرسة- لا في تعلم ما
ينفعهم ويزيدهم نورًا وبصيرة وسيكون التدريس فيها باللغة العربية التي هى لغة
بلادنا ويُقرأ فيها درس باللغة الفرنساوية يكون قاصرًا على تعليم اللغة لا غير يُبْتَدَأ
فيه من الهجاء الفرنساوي إلى نهاية ما يلزم أن يتعلم في تلك اللغة، أما دروس اللغة
العربية فمنها ما هو خاص بتعليم قواعد اللغة، ومنها ما يكون في بعض علوم أُخر
نافعة من آداب وتاريخ أحوال الأمم وتاريخ طبيعي وبعض مبادئ الرياضة
(فيما سمعت) بحيث لا تنقص عن تلك المدرسة التي سبق منا الكلام عليها
المسماة (بمدرسة الخواجات الليلية) في جوهر ما يُقرأ بها وإن كانت تختلف عنها
بأن هذه تكون لغة التعليم فيها وطنية وتلك أجنبية وهذه آخذة من البدايات وتلك آتية
من النهايات وهذه يكون معظم نفعها بل كله للوطنيين وتلك لا نتوسم فيها ذلك إلا
ببرهان وهذه الاختلافات وإن كانت عظيمة لكنها لا تضر في المقصود.
ومما ينبغي ذكره أنه ثبت في أذهان بعض الناس أن مجرد تعلم اللغات
الأجنبية يعد فضيلة يُسعى إليها ويهتم بشأنها مع أن اللغة في ذاتها لا فضيلة فيها ولا
يصح أن تُجعل غاية تقصد، وإنما هى وسيلة لما احتوت عليه تلك اللغة من العلوم
والآداب والأفكار التي ربما لا تكون مبسوطة في اللغة الوطنية كما هى واضحة في
اللغة الأجنبية فطالب تعلم اللغة الفرنساوية مثلاً إذا لم تكن عنده مبادئ علوم وملكة
إدراك في بعض الفنون التي يطلب التفنن فيها لا يعد مصيبًا في طلبه إلا إذا طلب
معها تعلم تلك المبادئ حتى أنه عند بلوغه إلى حد الاقتدار على فهم اللغة يتيسر له
الوصول إلى الفائدة المقصودة فلا يصح بناءً على ذلك أن يكون التعلم والتعليم
الليليان قاصرين على اللغات فقط بل يلزم أن يكون معها مبادئ العلوم كما عزمت
عليه نظارة المعارف الجليلة التي لا نزال نرى مساعيها في تقدُّم أبناء البلاد وبث
روح العلم فيهم تأتي من النجاح بما يُخلّد لسعادة ناظرها ووكيلها طيب الذكر والثناء.
وبافتتاح هذه المدرسة يفحم المجادلون وتبطل حجة اللائمين الذين انصبوا إلى
البحث في المدرسة الليلية وفوائدها وما يعود على البلاد منها ونشرنا وجوه أنظارهم
فيها في بعض أعدادنا السابقة فكان هذا العمل من نظارة المعارف برهانًا فعليًّا لا
جدليًّا يقنع الناظرين ويفحم المخاصمين، ويذهب بتعللات المتعللين ومطالبًا
لأصحاب تلك الأفكار بالبرهان الفعلي أيضًا وهو توجه الهمم إلى التعلم وإفراغ
الجهد في تحصيل ثمرات العلم حتى تظهر فوائد هذا الأثر وأنا على يقين من أن
المستخدمين وغيرهم من ذوي الكسب الذين يعرفون قدر المعارف ويقدرونها حق
قدرها يجيبون نظارة المعارف إلى طلبها كما أجابتهم إلى طلبهم ويكون لجريدة
الوقائع المصرية شرف الإخبار بخير الأخبار وأجر التنبيه على الأمر وما
فيه. اهـ.
(المنار)
هذه المقالات وأمثالها كانت مبدأ نهضة جديدة في المعارف فهي سبب إنشاء
المدرسة الليلية العربية وسبب إنشاء المجلس الأعلى لنظارة المعارف كما علم من
ترجمة فقيدنا في المجلد الثامن بالإجمال وسيعلم من الجزء الأول من تاريخه
بالتفصيل. وله مقالات أخرى في انتقاد أعمال الحكومة والأُمة كانت حادي
الإصلاح ومرشده في سائر المصالح والأعمال. وقد كان من الحكمة إسناد الانتقاد
إلى حديث الناس؛ لأن الكاتب يكتب في جريدة الحكومة، ولأن انتقاد الناس أشد
تأثيرًا من انتقاد واحد وما الناس الباحثون المنتقدون يومئذ إلا ذلك الحزب الذي كان
الفقيد وأستاذه الحكيم عقله المفكر ولسانه الناطق. أما عبارته رحمه الله فإنك تراها
على قرب العهد بالأزهر وأسلوب السجع في غاية السلاسة وله مقالات أبلغ منها؛
لأنها أرقى موضوعًا وفكرًا وسنُورِد للقراء نموذجًا منها.