للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار التاريخية والآراء

(محاربة إيطالية لطرابلس الغرب)
نعني بطرابلس الغرب الإقليم الواقع بين القطر المصري والقطر التونسي،
ومنه برقة المعبر عنها في عرف الدولة بمتصرفية بنغازي، وهو مملكة كبيرة
مساحتها أربعمائة ألف ميل أو تزيد، ولكنها لسوء الإدارة والظلم والفوضى قد غلب
عليها الخراب وقل فيها السكان، فأهلها يقدرون بمليون ونصف، يدخل في ذلك
بدوهم مع حضرهم، وموقع هذه المملكة البحري والتجاري عظيم، وهي قابلة
للعمران والترقي، وقد كنا نسمع منذ وعينا أن دولة إيطالية طامعة فيها، وكانت
الحكومة الحميدية على سيئاتها قد عنيت بتعليم أهل طرابلس النظام العسكري،
فأنشأت فيها فرقًا من الفرسان (الألايات الحميدية) كما فعلت في بلاد الأكراد،
فقلنا يومئذ إن للسلطان عبد الحميد في هذه الدولة حسنتين: سكة الحديد الحجازية
والألايات الحميدية. وقد اقترحنا على الدولة العلية منذ أكثر من عشر سنين؛ أن
تعمم التعليم العسكري في طرابلس الغرب وفي سائر البلاد العثمانية، وتجعل فيها
مستودعات للسلاح؛ ليكون الأهالي مستعدون للدفاع عن أنفسهم إذا فاجأهم
الطامعون، وتعذر على الدولة أن تمدهم بالجند الكافي، بل قلنا: إن الطامعين إذا
علموا أن أهل البلاد مستعدون للحرب والكفاح يحجمون عن مهاجمة البلاد؛ لأن
أوربة - ولا خوف إلا منها - تؤثر الفتح السلمي الذي لا تخسر فيه كثيرًا من
أبنائها وأموالها على الفتح الحربي.
كانت نصائحنا كنصائح غيرنا تحمل على معاداة السلطان، ولا يترتب عليها
إلا إيذاء الناصح في نفسه أو أهله وماله، ثم زالت الحكومة الحميدية وحل محلها
الحكومة الجديدة، التي سيطرت عليها جمعية الاتحاد والترقي بقوة الجيش وديوان
الحرب العرفي، فكان حظ طرابلس الغرب في عهد هذه الحكومة شرًا من حظها في
زمن عبد الحميد، فقد أضعفت وزارة حقي باشا حمايتها، ومهدت السبيل لتعجيل
إيطالية باحتلالها، كما يعلم من التقرير الرسمي الذي قدمه بعض المبعوثين إلى
المجلس في طلب محاكمة حقي باشا.
إن إيطالية تستعد منذ سنين كثيرة لامتلاك طرابلس الغرب، وكان هذا
الاستعداد على أشده بعد الدستور؛ إذ كان حقي باشا سفير الدولة في رومية عاصمة
إيطالية، فصدرًا أعظم للدولة، يسهر أكثر لياليه في سفارة إيطالية يقامر مع النساء
والرجال... وكان يشهد دائمًا لإيطالية بحسن النية وصداقة الدولة العلية، حتى إن
سفير فرنسة حذره منها، وأنذره سوء معاقبة مقاصده، فماراه بالنذر، حتى حل
الخطر، ووقع البلاء المنتظر.
وهاك ترجمة البلاغ الذي أعطاه سفير إيطالية لصديقه حقي باشا بإمضاء سان
جليانو رئيس وزارة إيطالية.
* * *
(إنذار إيطالية للدولة العثمانية)
لبثت الحكومة الإيطالية منذ سنين تنبه الباب العالي لضرورة وضع حد لسوء
النظام وإهمال الحكومة العثمانية في طرابلس وبنغازي، ولوجوب تمتيع هذه البلاد
بما تتمتع به سائر أقسام إفريقية الشمالية، وهذا التغيير (المشار إليه من حيث تأييد
الأمن وترقية البلاد) الذي يقتضيه التمدين، يجعل المصالح الحيوية بحسب ما
تستلزمه مصلحة إيطالية في الدرجة الأولى؛ بالنظر لقصر المسافة الفاصلة بين تلك
البلاد وشواطئ إيطالية.
وبالرغم من حسن مسلك الحكومة الإيطالية التي كانت دائمًا توالي وتعضد
تركية في كثير من المسائل السياسية في العهد الأخير، وبالرغم من اعتدالها
وصبرها حتى الآن، كانت الحكومة العثمانية تجهل رغائبها في طرابلس، حتى إن
جميع مشروعات الطليان في تلك الأصقاع كانت تصادف دائمًا مقاومة لا تحتمل.
فالحكومة العثمانية التي كانت حتى الآن تبدي العداء والسخط من الحركة
الإيطالية الشرعية في طرابلس وبنغازي، وما زالت كذلك حتى الساعة الحادية
عشرة من هذا اليوم (أي الساعة التي كتب أو قدم فيها البلاغ) ، اقترحت على
الحكومة الملكية (يعني الطليانية) أن تتفاهم معها، وأعلنت أنها ميالة أن تمنحها
أي امتياز اقتصادي يتفق مع المعاهدات النافذة، ومع شرف تركية الأعلى
ومصالحها. ولكن الحكومة الملكية لا تشعر الآن أنها في أحوال توافق الدخول في
المفاوضة بهذا الموضوع - المفاوضة التي برهن الاختيار الماضي على عدم نفعها
وهي لا تشتمل على ضمان المستقبل، ولا تكون إلا سببًا للاحتكاك والنزاع.
ومن جهة أخرى، قد وردت الأخبار إلى الحكومة الملكية من قنصلها في
طرابلس وبنغازي تفيد أن الحالة هناك خطرة جدًّا؛ بسبب التحريض العام ضد
الرعية الطليان، التحريض الذي زاده الضباط وسائر موظفي الحكومة، فهذا النهج
خطر شديد على الطليان وعلى سائر الأجانب على اختلاف جنسياتهم. ولما
أصبحوا قلقين على حياتهم، ابتدأوا يهجرون البلاد بلا إبطاء، ووصول (السفن)
العسكرية العثمانية إلى طرابلس زاد الحالة خطرًا وحرجًا؛ مع إن الحكومة الملكية
نبهت الحكومة العثمانية إلى نتائجه السيئة من قبل، ولهذا تضطر الحكومة الملكية
أن تتخذ الاحتياطات اللازمة؛ دفعًا للخطر الذي ينشأ عنه.
ولما وجدت الحكومة الإيطالية نفسها مضطرة إلى الحرص على شرفها
ومصالحها، قررت أن تحتل طرابلس وبنغازي احتلالاً عسكريًّا، وهذا هو الحل
الوحيد الذي تعول عليه إيطالية، والحكومة الملكية تنتظر أن تصدر الحكومة
السلطانية أوامرها بأن لا يصادف الاحتلال معارضة من رجال الحكومة العثمانية،
وأن لا تجد صعوبة في إنفاذ ما تريد إنفاذه، وبعد ذلك تتفق الحكومتان على تقرير
الحالة اللازمة التي تلي ذلك الاحتلال.
وقد صدرت الأوامر للسفير الإيطالي في الآستانة أن يلتمس جوبًا حازمًا في
هذه المسألة من الحكومة العثمانية في مدة ٢٤ ساعة منذ تسليمه هذا البلاغ، حتى
إذا لم تجاوب عليه اضطرت الحكومة الإيطالية لتنفيذ المشروعات المدبرة لضمان
الاحتلال.
ونرجو أن يبلغ جواب الباب العالي المنتظر في ٢٤ ساعة لنا عن يد السفير
العثماني في رومية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
سان جليانو
* * *
(جواب الدولة على الإنذار)
تعلم السفارة الملكية كل العلم الظروف التي لم تسمح لطرابلس وبنغازي بأن
تقدم التقدم الموموق.
ودرس المسألة بغير غرض يكفي في الحقيقة لأن يثبت أن الحكومة الدستورية
العثمانية لا يجوز اتهامها بحالة؛ هي نتيجة الحكم الماضي، فإذا ظهر ذلك، وعدنا
إلى تاريخ حوادث السنين الثلاث التي مرت يصعب جدًّا على الباب العالي أن يجد
ظرفًا واحدًا ظهر فيه بمظهر العداء للمشروعات الطليانية في طرابلس وبنغازي، بل
إنه يجد عكس ذلك؛ أي أن إيطالية كانت تساعد بمالها ونشاطها الصناعي على
إنهاض ذلك الشطر من السلطة إنهاضًا اقتصاديًّا.
وتعتقد الحكومة السلطانية أنها أظهرت ميلاً حسنًا مطردًا إلى كل المقترحات
التي كانت تقدم لها بهذا المعنى، بل إنها درست وحلت حلاً وديًا كل طلب طلبته
السفارة الملكية.
ولا حاجة بنا إلى أن نريد أنها كانت بذلك تنقاد دائمًا لإرادتها أن تحفظ صلات
الصداقة والثقة مع حكومة إيطالية وفي أن تنميها، وهذه الإدارة الحسنة هي التي
دفعتها مؤخرًا إلى أن تقترح على السفارة الملكية اتفاقًا يكون أساسه الامتيازات
الاقتصادية التي تفتح مجالاً واسعًا للنشاط الطلياني في تلك الأقاليم، على شرط أن
يكون حد تلك الامتيازات كرامة السلطنة ومرافقها والمعاهدات النافذة.
بهذا برهنت الحكومة العثمانية على ميولها السليمة، دون أن يغيب عنها حفظ
العهود التي تربطها بالدول الأخرى. تلك العهود التي لا يسقط شطر منها بإرادة
فريق من المتعاقدين.
أما ما يختص بالنظام والأمن في طرابلس وبنغازي؛ فإن الحكومة العثمانية
القادرة جيدًا على تقدير الحالة، لا يمكنها إلا أن تؤكد كما فعلت سابقًا أنه لا يوجد
أقل سبب داع للخوف على الطليان والأجانب النازلين هناك.
ففي تلك الأقاليم لا يوجد اضطراب ولا تهيج، ومهمة الضباط وغيرهم من
موظفي الحكومة ضبط الأمن، وهم يقومون بمهمتهم خير قيام.
وأما وصول النقالات العسكرية العثمانية إلى طرابلس المتمسكة به السفارة؛
لأنها تتوقع منه نتائج خطرة، فجواب الباب العالي عليه أنه لم يرسل سوى نقالة
واحدة، سافرت قبل وصول مذكرة ٢٦ سبتمبر ببضعه أيام وزيادة، على هذا أن
تلك النقالة لا تحمل جنودًا، فلا يمكن أن يكون لوصولها تأثير على أفكار الأهالي
غير تأثير الهدوء.
فإذا تبين ذلك لا يبقى إلا عدم وجود الضمان الذي يضمن للحكومة الطليانية
توسع مصالحها الاقتصادية في طرابلس وبنغازي، إذا كانت الحكومة الملكية لا
تعمد إلى عمل خطير كالاحتلال العسكري، فإن الباب العالي مستعد لإزالة هذا
الخلاف، والحكومة السلطانية تطلب من الحكومة الملكية أن تبيّن لها نوع الضمان
المطلوب، فهي توافق عليه إذا لم يمس الأملاك وتتعهد بأن لا تغير شيئًا من الحالة
الحاضرة أثناء المفاوضات، من حيث الهيأة العسكرية في طرابلس وبنغازي،
وتأمل أن الحكومة الملكية توافق الباب العالي على مقصده السلمي الآستانة ٢٩
سبتمبر سنة ١٩١١.
(المنار)
تلا ذلك الإنذار بالحرب والشروع فيه، وقد كتبنا مقالات عنوانها العام (المسألة
الشرقية) ونشرناها في المؤيد؛ لبيان ما يجب بيانه في هذه الكارثة الخطرة، ونشرنا
في هذه الجزء الأول منها، وسننشر عمائرها في الأجزاء الآتية.