ثم أصيب الإسلام بموت عمر، وولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر، وسعى الساعون في إيقاع الخلاف بنشر الاختلاف، فدعت الحال إلى نشر المصاحف المكتوبة على مشهد من الصحابة عظيم، فجمع الصحابة، وكانت عدتهم يومئذ بالمدينة تزيد على اثني عشر ألفًا، فطلب المصحف من حفصة أم المؤمنين، وأحضر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، فكتبوا خمسة مصاحف من غير تغيير ولا تبديل، عما كان عليه المصحف الذي كتبه زيد بأمر أبي بكر. وما ورد عن عثمان في الأنفال وبراءة فإبداء عما كان يراه قبل من أنهما سورة واحدة؛ إذ لم يقف على بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد عثمان النسخ الأول، وقد وقع الإجماع فيه على هذا الترتيب، ولم يبد عثمان خلافًا فيه، ولو كان له رأي يراه لوجب عليه أن يظهره، وما جرى بين عبد الله بن عباس وبين عثمان من سؤال وجواب فحكاية لما كان يراه عثمان قبل. وعين زيدًا أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن قيس مع البصري، وقرأ كل مصر بما في مصحفه على هؤلاء الصحابة، ونسخوا من هذه المصاحف الخمسة مصاحف لا يحصى عددها، فلم يبق في الإمكان كيد الكائدين، ولا وهم الواهمين. بقي عثمان كذلك اثني عشر عامًا، حتى مات، وبموته حصل الاختلاف، وابتدأ أمر الروافض. ثم تولى الأمر عليّ وملك، وبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعًا غالب الأمر، ساكنًا بالكوفة، والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان، وهو يؤم به الناس، والمصاحف معه وبين يديه، ثم بعده ابنه الحسن. وكان علي يثني ثناءً على أبي بكر وعثمان فيما فعلا في المصاحف. ولو كان وقع من أبي بكر وعثمان تغيير في شيء بنقص أو زيادة (ولا يمكن ذلك؛ لامتناع تواطئ الكثير المتفرق على التغيير في شيء، فلو وقع من أحد لظهر ولافتضح المرتكب من ساعته) ، لما قدر على مذلة التحمل والصبر عليه بعدما تولى الأمر، وهو الذي قاتل أهل الشام في رأي يسير رآه، ورأوا خلافه. وعلي شهد النسخين، ورأس في كلا الوقتين: غالب القول فيصلا في القضايا ... نافذ الرأي حائز الجلايا فلا يمكن أن أبا بكر وعثمان قد أسقطا بعض ما نزل في أهل البيت. ولم يكن أبو بكر وعثمان إلا كغيرهما من الصحابة في شأن جمع القرآن. ولو كان نزل شيء في أهل البيت؛ لتواتر كسائر الآيات، وكَتْم ما شاع وذاع أمر محال لا يستطاع [١] . وعلماء الإمامية - رحمهم الله تعالى - أَجَلّ من أن يقولوا: قد وقع نقص في القرآن بمكر أبي بكر أو أمر عثمان. والشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي ابن بابويه، والسيد المرتضى علم الهدى ذو المجد أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، والقاضي نور الله في مصائب النواصب، والإمام الطبرسي في مجمع البيان، هؤلاء أعلم علماء الإمامية وأعلام أمتنا الإسلامية، قد قالوا بامتناع وقوع التغيير في القرآن، وقالوا: إن العلم بتفاصيل القرآن وأبعاضه كالعلم بكله وجملته. فمن رام في إسقاط بعض آيات نزلت، فليسع أولاً في رفع كل القرآن، وكتم أخبار انتشرت. وما نقل عن بعض علماء الشيعة من سقوط بعض آيات نزلت، فلا أرى أن ذلك كان رأيًا لهم يرونه، إنما ذلك من جملة بقايا أخبار كانت تنشر من عند الذين يحبون أن تشيع الفاحشة والفتنة في المسلمين، ومن عند الذين يبغون خبالاً ويسعون فسادًا في الدين. وقد كانت مثل هذه الأخبار أنفع وسيلة في الحصول على أغراضهم السياسية ففازوا فوزًا عظيمًا في دعوتهم، ونالوا فوق ما أملوا في كسر شوكة الأمة الإسلامية وتفريق وحدتهم وقد دس هؤلاء من أباطيل الأخبار شيئًا كثيرًا في الدين، قد تلقاه واغتَّر به قوم من أهل الخير؛ فأدخلوه في دواوين الأحاديث والأخبار، وأسفار السنن والآثار. وقد مَنَّ الله علينا؛ إذ جعل فينا رجالاً عدولاً ميزوا سنن نبينا عن موضوعات الأخبار، وأكاذيب الآثار، فسقونا من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين. هذا وكل ما ذكرته من تاريخ القرآن والمصاحف فهو حق؛ لأن الأمر كان ووقع كذلك، ومن ادعى انتصاف الشمس في النهار، فإنما عليه أن يشير إلى ما هنالك، ومن خالف فلا يعتد به، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم نقلوا أخبارًا ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته، وإلى قوم أتوا بأقوال لا يقوم لها من عالم الشهود شاهد، ولو أننا سلكنا مسلكهم، واستجزنا التدليس على أنفسنا، وارتكبنا ما لم يرتكب سلفنا؛ لأتينا بما يبلس به خصومنا أسفًا لكن يكفينا في بيان الحق أن نأتي بما كان، وليس من شأن العاقل أن يتمسك بما بَعُد عن الحق وبان. وحيث وَفَّينا الموضوع بعون الله - تعالى - بما استطعنا من البيان. وكان ذلك خير ما جنينا، وخيار ما اقتطفنا من حدائق الأعيان، رأينا من واجب الإحسان علينا أن نأتي بما يدل على امتناع وقوع التحريف في القرآن. ونحن الآن نأخذ بحول الله وقوته في إجمال ما فصله العلماء في ذلك، وأن نجمع ونلتقط ما انتشر في صحائف الدواوين من هنا وههنا وهنالك. البرهان الأول: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - انتقل والصحابة ألوف مؤلفة ما منهم أحد إلا وهو يحفظ قسطًا وافرًا من القرآن، وفيهم مئات يحفظونه كله بتمام الضبط والإتقان عن ظهر قلب. ثم إن الكثير منهم تشتتوا إثْر ذلك في الأقاليم وانتشروا في الأقطار؛ استيطانا بمواطنهم الأصلية، أو تعينًا لعمل من الأعمال الملكية والدينية. ثم نسخت المصاحف ووصلت إلى هذه الأعداد الكثيرة في المدن والبلاد، فلو كان وقع تغيير في كلمة أو تحريف في حرف؛ لظهر ولثارت الأمة، وهاجت الخواطر على جامعي المصاحف، وقاتلوهم قتالا، ولارتد كثير من الناس؛ لأن اندساس أقل تغيير فيه بجهل العباد، أو وقوع تصرف فيه الأفكار وكيد أهل الفساد، يقضي بأنه غير منزل من عند الله - سبحانه وتعالى - لكنا لم نسمع أن أحدًا من مسلم وغيره عارض في شيء من القرآن، وادّعى ذلك فيه. ولو وقع حبة تغيير فيه في العصر الأول، لوقع تغييرات في العصور الأخيرة، على سنن قانون الطبيعة في النمو. لكنَّ القرآن قضى من أجله ثلاثة عشر قرنًا وزيادة، وملأت المصاحف وجه الأرض وطباقها، ولم يوجد مصحف يختلف عن الآخر بحرف واحد. البرهان الثاني: أن القرآن أكبر دلائل النبوة به ظهر الدين وعز شوكة المسلمين، هو آية ظلت أعناق الجبابرة لها خاضعين، فأذعنوا له بخفض الجناح طائعين لأوامره، عاملين بأحكامه. فلا يمكن أن يُرضِي الأمة تحريفُ شيء منه، ولو كان دونه بذل المُهج والنفوس. البرهان الثالث: من أَلَمَّ بتاريخ الصحابة، ونظر نظرة في صحاح الأحاديث يعلم أتم العلم ما كانت عليه الصحابة من غاية الاعتناء، ونهاية الاهتمام في حفظ القرآن وضبطه، حتى مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، ويعرف ما لهم من مزيد العناية في ضبط الأحاديث، والرواية حفظًا وكتابة، ومن وفور الاحتياط، وعظيم التثبت عند أدائها، وتبليغها للأمة. والعقل يحكم طوعًا بالقطع، وضرورة باليقين أن الجم الغفير والجمع الكثير الذين أخذوا القرآن تلقيًا عنه عليه السلام في تضاعيف عشرين سنة، وضبطوه حفظًا في الصدور، وثبتًا في الصحائف والسطور، لا يجوز عليهم التخليط فيه ولا التغيير. وشِعْرُ الأقدمين مع أنه لا يمكن أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا أن يضبط مثل ضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه مساسها للقرآن، لو زيد فيه بيت أو لفظ، أو غُيِّر فيه حرف أو حركة، لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه، وطعن فيه عارفوه، وجحده راووه. وقد شوهد ذلك في كثير من الأشعار والخطب والأراجيز، يعرفه من يعتني بلغة العرب ورواياتها. فإذا كان ذلك مما لا يمكن في شعر الأقدمين. فكيف يجوز وقوعه في القرآن مع العناية الصادقة، والضبط المتقن، والعلم بأنه دليل النبوة، ونور الشريعة، وملجأ الأمة؟ البرهان الرابع: أن العلم بالقرآن كله وجملته فاق في الوضوح والاشتهار أشهر المتواترات من كبار الحوادث، وعظائم الوقائع، ومهمات الأمور، وحواضر الأحوال، والعلم بآيات القرآن، وسوره، وتفاصيله، وأبعاضه، عند حفاظه ورواته في العصر الأول، كالعلم به كله وجملته: فإن العناية إذ ذاك توفرت، والدواعي اشتدت، والقرائح انبعثت إلى حفظه الراسخ، وضبطه المتقن، والغايات تباينت، والأغراض اختلفت: فمنهم من يضبطه لإتقان قراءته ومعرفة وجوهها وصحة أدائها. ومنهم من يحفظه لاستنابط الأحكام وبيان تعاليم الإسلام، ومنهم من يقصد بحفظه معرفة تفسيره ومعانيه، والوقوف على غامضه وغرائبه. ومنهم من يعجبه بالغ فصاحته، وفائق بلاغته، ورائق أسلوبه، وشائق نظمه، وعجيب تأليفه. ومنهم من يحفظه استلذاذًا بتلاوته واستحبابًا في كرامته، وتقربًا بقراءته، وتعبدًا بدراسته، ومنهم من يحفظه لمجرد التشرف بشرف حمله، والقيام بواجب أدائه وتعليمه وهو الأغلب. فبالضرورة لا يمكن على أهل هذه الهمم العالية، والأغراض المتفاوتة، والغايات المتباينة، مع كثرة أعدادهم وتباعد بلادهم أن يجتمعوا على التحريف والتغيير، ويتواضعوا على التبديل. البرهان الخامس: لا يخفى على الخبير بعلوم القرآن وطرقه الثابتة؛ أنه لم يَنْقَضِ عصر الرسالة إلا وتتابع التابعون، وأخذوا عن الصحابة مباشرة، وقل فيهم من لا يحفظ كل القرآن. وكان الرجل لا يكون عظيمًا في الأعين، ولا يعد صاحب حديث ما لم يحفظ عشرات آلاف من الحديث. فتتبعوا حفظه الصحابة في كل زمان ومكان، فما بلغهم أن صحابيًّا كذا، يحفظ آية كذا، بلغة كذا من اللغات التي نزل بها القرآن - وسأبين معنى اللغات والأحرف في القرآن، بما لا أظن أن الحق يتعداه إن شاء الله - إلا ارتحلوا إليه وتلقوا عنه، حتى جمعوا القراءات التي قرأ بها القرآن بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء قرن كان حفظ القرآن عندهم؛ كأنه أمر لازم، وكأن أقطار حوافظهم قد امتدت، ودوائر إحاطتهم قد اتسعت. فكثر فيهم من يحفظ مئات ألوف من الحديث، ومن يحفظ أشعار الجاهلية، وأيام العرب، وخطبها، وأمثالها، وأراجيزها، ما لا تسعها ضخام الأسفار، كانوا يحفظون كل ذلك؛ لأجل القرآن وعلومه، فوضعوا علوم الرسوم والتجويد والقراءات، وعلوم الدين وكل مبادئها. وكان من أساس دينهم في الله تشديد النكير على البدع، وشدة الاعتصام بالسنة الثابتة، والمحافظة على ما ورد، والوقوف عند حد أمر ثبت. وما مضى قرن إلا وجاء الذي بعده محققًا باحثًا في علوم القرآن، جاريًا على ما جرى عليه سلفه. كل إنسان أحاط بعلوم القرآن خبرًا يعلم أن طرقه ورسمه واختلاف رواياته كلها توقيف، لم يتصرف فيها أحد بشيء. فوقوع التحريف في القرآن من مثل هذه الأمة غير ممكن. البرهان السادس: الصدر الأول كان محاطًا بالأعداء من اليهود وغيرهم. وكانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا عمومًا وللنبي - عليه السلام - خصوصًا، واقفين له ولقومه بالمرصاد، ناصبين لهم حبائل الفتن، موغرين عليهم صدور الناس. فلو عثروا على أدنى تحريف أو تغيير؛ لشنوا على جامعي المصاحف غارة الفتنة، وشنعوا عليهم في جميع القبائل. ولكان ذلك من أعظم الفرص المساعدة على اتهامهم في نظر الأمة. وأكبر الوسائل المؤدية إلى تفريق الجامعة الإسلامية، وتشتيت كلمتها. كانت مدينة النبي- عليه السلام -غاصة بالمنافقين؛ كان عرفهم بسيماهم، ويعرفهم في لحن أقوالهم، كانوا يحضرون في مجالسه، يسمعون منه، ويقرأون في من قرأ، ويصلون مع من صلى. وهم في كل لحظة، يتوقعون هفوة تصدر منه؛ ليتخذوها ذريعة إلى رد الناس عن الإيمان به، وقد صاحبوا أصحابه بعده، ولم يسمع أن واحدًا منهم قال بتغيير حرف من القرآن، وهم أولى الناس بذلك وأقدرهم على فرض وقوعه؛ لسماعهم الأصل من النبي. وتتابع الفتن المساعدة لهم في طعن الدين بأكبر المطاعن. أمة غربلت أقوال نبيها ونخلتها، وبحثت فيها بحث تدقيق، ونقدتها، وروت من أخبار العصر الأول ما عليها، قبل نقل ما لها. أمة عنايتها بكلام ربها أضعاف عنايتها بأحاديث نبيه. يستحيل عليها أنها عكفت على هذا الدين، وفي القرآن أقل تغيير قاض أنه ليس من عند الله. أمة إذا سمع عالمها بيتًا من الشعر، واستطلع معناه، قال: هذا مأخوذ من قول فلان الجاهلي. أيغيب عنها البحث في القرآن؟ هل وقع فيه تغيير وشيء جديد أو هو باق على ما كان عليه تنزيل من حكيم حميد اهـ.