للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

يرى الباحثون في العمران والمشتغلون بعلم الاجتماع بعد النظر في تاريخ
الأمم أن كل إصلاح وجد في العالم؛ فإنما كان بواسطة رجال فاقوا شعوبهم ببعد
النظر، وصحة الفكر، وعلو الهمة، وقوة العزيمة والإرادة، فتقدموهم ثم قَدَّمُوهم
وارتقوا بهم إلى المكانة العالية، والمنزلة السامية، ولا فصل في هذا بين الإصلاح
الديني والعلمي، والإصلاح المادي والسياسي.
ويقول هؤلاء الناظرون: ما بال بعض الممالك والأقطار تمر عليها القرون
والأعصار، وهي تضعف وتذل، وتذوب وتضمحل، ولا ينبت في أرضها رجل
عظيم، ينقذها من هذا الرجز الأليم، ما بال الشعوب الإسلامية قد تحوَّل عزها إلى
ذل، وكثرها في كل خير إلى قل، وعلمها إلى جهل، ولم يظهر فيها ملك حكيم،
ولا إمام عليم، يجدد لها مجدها، ويرجع إليها عزها، وأين مصداق ما يروونه عن
نبيهم صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من
يجدد لهذه الأمة أمر دينها؟) .
إنما يقول هذا الباحثون في الظواهر، والناظرون في الصور السطحية،
والذين يكتنهون الحقائق ويغصون في الأعماق ويفقهون الأسرار، وتنفذ أشعة
بصائرهم إلى ما وراء الأستار، يعلمون أنه ما قام مصلح في أمة من الأمم بعمل
من الأعمال تغيرت له حالة الأمة، وارتقت بهم من الحضيض إلى القمة، إلا بعد
أن استعدت تلك الأمة لقبول ذلك الإصلاح بتأثير الزمان، وتقلب الحدثان، أو
انتشار العلم والعرفان، فللإصلاح شرطان: أولهما استعداد الأمة لقبوله، والثاني
الزعيم الداعي إليه من طريقه الطبيعي مع الكفاءة والاضطلاع، فإذا ظهر مثل هذا
الكفؤ للقيام بالإصلاح في قوم ورآهم غير مستعدين لقبول إصلاحه فإنما يشتغل
بالسعي في إعدادهم وتهيئتهم للأخذ بأركان ذلك الإصلاح، ولا يدعوهم إليها في
أول الأمر، وربما يقضي عمره في إيجاد الوسائل غير بائح بسر من أسرار
المقاصد، إلا ما يودعه في أطواء الكلام، من الإجمال والإبهام، كالكناية والتورية،
وما يشبه الإلغاز والتعمية، فإذا هو صرح للقوم بالمراد، ودعاهم إلى خلاف ما
هم عليه من التقاليد والعاد، تقوم عليه القيامة، وتتوجه إليه سهام الملامة، بل
تنصب عليه قذائف القاذفين، ولعنات اللاعنين، وينزل به البلاء المبين، ويكون
في عمله من الخاسرين.
المصلح إما داعٍ ذو بيان، يستصرخ الشعور والوجدان، ويستنفر العقل
والجنان، دالاًّ على طريق الإسعاد، هاديًا إلى سبيل الرشاد، وإما ملك مستبد،
حكيم مستعد، على أمة خاملة، ورعية جاهلة، يحملها بالقهر والإلزام، على ما
يطلب ويرام، وكل منها مطالب بمراعاة استعداد الأمة ودرجة قابليتها؛ ولكن الأول
يحتاج من ذلك أكثر مما يحتاج إليه الثاني؛ لأنه يدعو النفوس إلى العمل باختيارها،
وإنما العمل الاختياري ما توجهت إليه الإرادة بباعث العلم والإذعان بأن فيه
اجتناب مفسدة، أو اجتلاب مصلحة، وليس لأحد سلطان على النفوس يفهمها ما لم
تستعد لفهمه، ويقنعها بما لا تحيط بعلمه، وإذا عجز المستبد عن التسلط على
الضمائر، والسيطرة على السرائر، فلا يعجز عن التصرف بالظواهر، بأن يلزم
الناس بالأعمال النافعة، وإن لم يعتقدوا نفعها حتى إذا جاء وقت الجني والقطوف،
عرفوا ما لم يكن معروف، فكانوا كمن يقاد للجنة بالسلاسل.
إن كون الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، قاعدة عامة شاملة للإصلاح
الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإن الله تعالى لم يبعثهم إلا مُعِدِّين،
ومصلحين للمستعدين، وقد {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: ٢١٣) في
الجهالة والهمجية، والوقوع في شَرَك الشِّرك والوثنية،] فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين [، بعدما استعد بعض الناس لفهم التوحيد وقبول الدين، ورجي أن يُعدوا
بإيمانهم الآخرين، ولنقص الاستعداد وضعف العقول أيد الله تعالى الأنبياء بالآيات
البينات، التي اعتاد الأكثرون على الخضوع لمثلها مما يخالف المألوفات، ولا
ينطبق على سائر العادات، ومع هذا كله كانوا يضربونهم ويطردونهم، وفي بعض
الأحيان يقتلونهم، ومنهم من لم يؤمن به أحد أو إلا الرجل والرجلان، ومنهم من
آمن به العدد الكثير، ثم ارتدوا وفسقوا بعد زمن قليل أو كثير، وقد بينا من قبل
استعداد العرب لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما امتازوا به على الأمم لقبول
إصلاحه (راجع ج ٤ م ٣) .
إنما مثل النوع الإنساني في مجموعه كمثل الفرد الواحد من أفراده، فالشعب
الجاهل من شعوبه كالطفل لا يمكن أن تجعله رجلاً كاملاً إلا بتربيته على أخلاق
الرجولية بالتدريج الطبيعي، فإذا كلَّفته بما يُكَلَّف به الرجال من عويص المسائل،
وحل عقد المشاكل، فأمرك لا يطاع؛ لأنه بما لا يستطاع، كذلك حال من يُكَلِّف
شعبًا من الشعوب أو أمة من الأمم بأن تجاري في طور ضعفها الأمم القوية،
وتباري في إبان جهلها من سبقها في جميع الطرق العلمية، من غير أن يربيها على
ذلك بالتدريج الذي عُرف من سنن الله تعالى في الأولين، كالابتداء بإزالة الموانع،
والتثنية بإدالة المنافع، أو بتقديم التخلية على التحلية كما يقول السادة الصوفية،
وإنما نعني التقديم والتأخير في المرتبة لا في الزمن.
تربية الأمم ليست بالمركب الذلول، وطريقها ليس بالطريق المعبَّد؛ وإنما
هي الحَرون في الخُزُون يتوقع راكبها الهلكة في كل حركة، وما كان بسمرك هو
المربي لألمانيا والمبدع للوحدة الجرمانية ولا بيكنسفليد هو المربي لإنكلترا ولا
غامبتا هو المربي لفرنسا ولا غورجيقوف هو المربي لروسيا ولا أمثال هؤلاء
السياسيين من الفلاسفة والعلماء، وإنما ربى أوربا كلها أولئك الذين اُضطهدوا
وأُذلوا وأُبعدوا وصُلِّبوا وقُتِّلوا تقتيلاً أن دعوا الناس لإصلاح عقائدهم وعوائدهم
وتغذية عقولهم بلبان العلم والعرفان، فأعدوا أقوامهم لكل ما هم فيه الآن من العزة
والشمم، والسيادة على الأمم، أولئك الذين كانوا يُرمون بالكفر والزندقة وإفساد
الاعتقاد والجناية على البلاد والعباد، فصاروا الآن يُوصفون بالإمامة، ويحلهم
التاريخ محل الكرامة، ويُذكرون بالتعظيم والتبجيل، وتُرفع لهم الهياكل وتُنصب
التماثيل، وأعظمهم عندي لوتر مصلح الدين، ومزيل العقبة الكبرى من طريق
جميع الأوربيين.
من أسباب الاستعداد لقبول إصلاح ما معاشرة من صلح حالهم به من قبل
ومشاهدة أطوارهم، والوقوف على أخبارهم، عندما وقفوا ببابه، وأنشأوا يأخذون
بأسبابه، ومن أسبابه أن يتسلط على الأمة من يسلبها ثوب مجدها، وينزع عنها
تاج كرامتها ويستأثر بمنافعها، ويستولي على مرافقها، ومن أسبابه أن يمر عليها
حين من الدهر مهدَّدة بقلب كيانها، وتقويض أركانها، وإزالة سلطانها، ممن يقدر
على ذلك، من الدول والممالك، ومن أسبابه أن يرى أحد شعبين متجاورين أو
متمازجين الشعب الآخر قد انسلخ من تقاليده السخيفة، وعاداته الضارة، واستبدل
بها ما عزَّ به جانبه، واتسعت في هذه الحياة مذاهبه، فصلح حاله، وكبرت في
السعادة آماله، وماذا عسانا نستفيد من تعداد الأسباب إذا كنا نجهل الموانع التي
تزاحمها فتحول دون تأثيرها، أو لم يكن لنا سبيل للخوض فيها؟
إنما عدَّدنا ما عدَّدناه تمهيدًا لذكر مثال من أمثلة الاستعداد في الشعوب
الإسلامية التي يضرب بها المثل في التأخر بعد التقدم، والانخفاض بعد الارتفاع
وهو ما كان من مسلمي الهند:
دخل الإنكليز بلاد الهند فكان أقرب الناس إلى الاستفادة منهم الوثنيون الذين
كانوا من قبل دون المسلمين في كل علم وعمل، فطفق الوثني يتعلم، والمسلم يتحسر
ويتألم، أو يشكو في نفسه ويتظلم، حتى مر الزمن الطويل، الذي انقرض به جيل
وتجدد جيل، والمسلم يعادي اللغة الإنكليزية، ويُكَفِّر متعلم العلوم الأوربية.
فلما رأى المسلمون نتائج ذلك باتساع ثروة الوثنيين وكثرة الموظفين فيهم،
واجتماع شملهم ونفوذ كلمتهم، استعد أفراد منهم إلى معرفة الحقيقة، ووجوب
سلوك الطريقة، ومن فضل الله على الناس أنهم كلما استعدوا لشيء يسَّر لهم أسبابه،
وأفاضه عليهم بها، فكان أعلاهم همة وأقواهم عزيمة هو الساعي الأول والداعي
إلى العمل، وهو السيد أحمد خان فأسس مدرسته الشهيرة في مدينة عليكره ودعا
قومه إلى التربية الصحيحة والتعليم القويم، ونبذ ما كانوا عليه من أسباب الخمول
القديم، فأجابه النزر اليسير، وكافأه الجماهير بالتفسيق والتكفير، ولولا حماية
الحكومة الإنكليزية له ومساعدتها إياه لأخرجوه أو قتلوه، حتى إذا ما ظهرت في
هذه السنين آثاره وتبين لمسلمي الهند أن الخير إنما يرجى لهم من تلامذته، وأن
السعادة إنما تفيض عليهم من ينبوع مدرسته، أشادوا بذكره، وعظَّموا من أمره،
واعترف العلماء والجهلاء والأذكياء والأغبياء بأنه المصلح العظيم، والمجدد
الحكيم، والإمام العليم، ولو قام فيهم بهذه الدعوة منذ خمسين سنة لما وجد
منهم ملبيًا، ولا صادف مصغيًا.
هذا هو السيد أحمد خان الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني ممن يتهمه
بالمروق من الدين، والتصدي بإغراء الإنكليز لإفساد عقائد المسلمين، والسيد
جمال الدين هو من أعظم المصلحين والحكماء الراسخين، وقد كان يُتهم من بعض
الناس في مصر بمثل ما يُتهم به السيد أحمد خان من بعض الوجوه، ألا يدلنا هذا
على أن مصر أبعد من الهند عن الاستعداد؟ بلى وإنني أذكر في هذا المقام كلمتين
إحداهما قالها مؤرخ مسيحي وهي:
أن السيد جمال الدين جاء قبل وقته بخمسين سنة، فالمسلمون لما يستعدوا
لفهمه والاسترشاد بعلمه. والثانية قالها صاحب أكبر جريدة إسلامية في الهند وهي:
أن المصريين لا يزالون مغترين بمثل ما كان عليه الهنديون منذ خمسين سنة،
مغترين بما بقي لهم من الحكام وفضلات الأيام، فلا ينتبهون حتى يفقدوا كل
شيء حتى الأسماء الإسلامية في كراسي الإمارة والحكم كما وقع لإخوانهم
الهنديين.
أقول وإن لم يصح حديث التجديد في كل مئة سنة: لا يكاد يمر على أمة
كأمتنا قرن من القرون يخلو من إمام عليم يصلح لتولي زعامة الإصلاح، وإنما
تظهر آثار الرجال باستعداد أقوامهم، ولذلك كان فيهم من يكتم علمه؛ لأنه لا يجد
له حملة كما نقل عن بعض الأئمة، ومنهم كان يغلبه لسانه أو قلمه على الإفصاح
بشيء من الحق فيقابله الناس بالإعراض، ويحسبونه من معضلات الأمراض، أو
يترك سدى، ويُرمى كالشيء اللَّقَا، فالإمام الغزالي صرَّح برأيه في إصلاح
المسلمين، بعدما بلغ رتبة الإمامة في جميع علوم الدين، ولكن لم يوجد من يعمل
برأيه القويم، ولا من يزن بما وضعه من (القسطاس المستقيم) ، وكذلك الإمام
أحمد بن تيمية لم يترك بدعة إلا وفنَّدها، ولا سنة إلا ودعا إليها وأيَّدها؛ ولكنه لم
يؤخذ بإرشاده إلا بعد قرون حيث جُددت الدعوة إليه من قوم مستعدين له من بعض
الوجوه، على أن إظهار الحق خير من كتمه وإخفائه، فإن لم يُفد في الإصلاح
والإسعاد، فلا بد أن يفيد في التهيئة والإعداد، ولا شك أنه يوجد في كثير من البلاد
التي استحوذ عليها الجهل من يصلح للإمامة وللقيام بالزعامة، فإن لم يقدروا على
الإصلاح فلا بد أن يهيئوا الأمة له، ويُعِدُّوها لقبوله، وربما كان السنوسي السابق
وخليفته الحاضر من المُعِدِّين لا من المصلحين، وربما كان أتباعه قد استعدوا
لنهضة عملية، أما المصريون فقد ظهر فيهم شيء قليل من بوادر الاستعداد
للإصلاح المعنوي والمادي ويرجى نموه ببقاء الحرية ودوامها.
كما مضت سنة الله تعالى في جعل الإصلاح البشري والإسعاد الكسبي على
قدر الاستعداد، جرت سنته كذلك في التكوين والإيجاد؛ فإنه قدَّر لكل مكوَّن من
المكونات أجلاً محدودًا يستعد فيه للظهور بشكل من الأشكال، أو صورة من الصور
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: ٨) فإذا جاء الأجل الموعود، ظهر بذلك
الشكل في الوجود، وذلك من كمال النظام والحكمة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: ٢) نعم إنه قدَّره بالتدريج في أزمنة متعاقبة عبَّر عنها بالأيام {الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ
فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: ٥٩) .