للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المُفطرون في رمضان

كتبنا في فريضة الصيام وحكمه وفوائده الروحية والبدنية والاجتماعية مرارًا
متعددة في المجلدات المتفرقة من المنار , وإذ قضى الله تعالى أن يقرأ هذا الجزء
منه في شهر رمضان المبارك , رأينا أن نعيد التذكير والوعظ في ذلك بكلمة وجيزة
عسى أن يتذكر ويستفيد المستعدون لذلك من الذين لا يؤدون هذه الفريضة.
إن الذين يفطرون في نهار رمضان أصناف:
(منهم) : المسلم بالوراثة الذي لا يعرف من الإسلام إلا تقاليد منها لفظي
كالشهادتين وكلمة (مسلم موحد بالله) ومنها عملية، كالصلاة والصيام واحتفالات
والموالد والمواسم والمحمل والمقابر وكون زيارة الأولياء وشد الرحال إليها تغفر
الذنوب وتقضي الحاجات , وكون كل ما يفعله الإنسان مقدر فلا يؤاخذ عليه، فكل
أمور الدين عند أكثر هؤلاء عادات من تعود شيئًا منها بتقاليد بيته فعله , وإلا تركه
بلا مبالاة بالوعيد ولا اكتراث للوعد، وأقلهم من تغلبه شهوته الحيوانية , فيعذر
نفسه باستغناء الله عن صيامه وتَمَنَّى العفو والمغفرة.
(ومنهم) : المارقون من الدين بشبهات تلقفوها من ملاحدة الإفرنج
والمتفرنجين, الذين لا نصيب لهم من الإسلام إلا الولادة في بعض بيوت المسلمين.
ومن المفطرين من يفطر سرًّا , ويحفظ حرمة الشهر بين الناس فلا يأكل ولا
يشرب ولا يدخن على مرأى أحد، ومنهم الذين يدخنون في الشوارع العامة
ويشربون قهوة البن أو الخمرة في المقاهي أو الحانات العامة، ويتغدون في المطاعم
العامة مع أمثالهم من غير المسلمين أو من المعدودين في دفاتر الإحصاء منهم , وإذا
كانوا أرباب بيوت لهم فيها الأمر والنهي , أو كان أهل بيوتهم من المارقين معهم
من الدين , فإن موائد الطعام تنصب لهم في رمضان أول النهار وبعد الظهر كما
تنصب في سائر الشهور.
من الأسباب النظرية الفكرية للإسرار بالفطر أن الإسلام رابطة اجتماعية
أدبية سياسية في الحياة الدنيوية , وعقيدة دينية مظهرها هذه العبادات المخصوصة ,
فمن فقد العقيدة الباعثة على العبادة , فالواجب في القانون الأدبي والاجتماعي أن
يحافظ على الرابطة الدنيوية العامة التي تربطه بالأمة الكبيرة، أو الصغيرة - التي
ينتهي إليها , وأن يحترم شعائرها , فلا يمتهنها جهرًا على مرأى من أهلها؛ لأن
ذلك إهانة لها ولنفسه من حيث هو فرد من أفرادها، وأصحاب هذا النظر هم أرقى
هؤلاء المارقين عقلاً وشعورًا. وقد قال لي أحد أدباء الترك: إنني إن أفطرت في
رمضان فإنني لا أمتهن نفسي وملتي بالجهر بذلك , ولا أطيق أن أرى أحدًا يفعل
ذلك , فإن وجدت مسلمًا يجهر به أمامي , فإنني أجد من نفسي شعورًا يبعثني على
قتله إن استطعت.
ومن الأسباب الاجتماعية والأدبية ما لا يرتقي بالمُسَرِّ بالفطر إلى هذه الأفكار
والشعور , بل يسره بسبب احترامه لأهل بيته وعشرائه إذا كانوا من أهل البيوت
العريقة في الإسلام المحافظة على شعائره، فإن بعض أولاد وجهاء العلماء وغيرهم
من بيوتات المسلمين الذين أفسد دينهم وأدبهم تعليم المدارس العصرية يفطرون في
رمضان ويسكرون.. ولكنْ سرًّا أو مع أمثالهم من الفساق المستهترين.
كذلك الذين يجاهرون بانتهاك حرمة شهر الصيام منهم أصحاب رأي ونظر
كالمتفرنجين الذين ليس لهم من الرأي والفكر ما يرتقي بهم إلى احترام الملة أو
الأمة التي ينتمون إليها، ولا لهم من البيوت التي يعيشون فيها من يوافقونه على
تقاليده الملية كعادته، ولا من الخلطاء الذين يعاشرونهم من يستحيون منه، فقد
انتفى المانع من الجهر , ووجد المقتضي له عندهم وهو ما يسمونه الحرية
الشخصية والشجاعة أو الجرأة المعنوية، وقد يحتقرون المستخفي بالفطر أو يفندون
رأيه برميه بالجبن والنفاق , وأنه هو المانع له من إظهار ما هو منطوٍ عليه من
عدم التدين، وهم يخدعون أنفسهم بألقاب الحرية والجرأة الفسقية التي يسمونها
شجاعة أدبية , فإن أحدهم لو مات والده المسلم مثلاً وكان غنيًّا , وادَّعى بعض
إخوته أو غيرهم أنه لا يرثه؛ لأنه ليس على دينه , وطلب من المحكمة الشرعية
الحكم بحرمانه من الإرث , وسأله القاضي الشرعي عن ذلك , فإنه يدَّعي الإسلام
ويُكذِّبُ من رماه بالارتداد عنه، وقل مثل هذا إذا أراد أن يتزوج فتاة مسلمة أو
ادعت عليه زوجته المسلمة أنه قد ارتد عن الإسلام , وطلبت من المحكمة الشرعية
التفريق بينها وبينه.
وجملة القول: إن هؤلاء أدنياء لا شعور لهم بالكرامة القومية ولا المِلِّيّة،
وأما سائر المجاهرين بالفطر في رمضان فهم التحوت المستولغون من الطبقة
السفلى؛ أي الذين لا يبالون أمًّا ولا عارًا وأمرهم معروف.