المقصود بالذات قيام الحجة البالغة على ثبوت نبوة محمد العامة
إذا عجز حكماء هذا العصر وعلماء الحياة والاجتماع والأخلاق والمؤرخون من أحرار الإفرنج وغيرهم عن إخبارنا بوجود رجل مثل محمد فيما علم من تاريخه المعروف المشهور جاء بمثل هذا القرآن في خصائصه ولا سيما التعاليم التي لخصنا كلياتها في هذا البحث، وقدر أن ينفذها ويربي بها أمة كالأمة العربية يكون لها بها من الأثر الديني والمدني في العالم مثل أثرها وإنهم لعاجزون عن ذلك قطعًا - أفلا يكون عجزهم هذا برهانًا على أن دين محمد وكتاب محمد وهدي محمد وتربية محمد للأمة العربية من خوارق العادات. وإذا كان هذا حقًّا واقعًا ما له من دافع، فما المانع من عد هذه التعاليم وحيًا من رب العالمين، العليم الحكيم؟ وما معنى كونها وحيًا إلا أنها علم أفاضه الله تعالى على روح محمد وقلبه، بطريقة خفية غير طرق العلم الكسبية المعروفة للبشر عامة، وفوق الإلهامات القليلة التي تؤثر عن بعض الخاصة؟ وما معنى كونها معجزة إلا أنها جاءت على غير المعهود في علم البشر الكسبي، وخلاف المقرر في علم النفس والفلسفة العقلية وسنن الاجتماع، وتواريخ الأمم، وسير الحكماء والعلماء والملوك، وفوق المعروف عن الأنبياء أيضًا، وإن كانت من جنسها، فالأنبياء قد أنبئوا ببعض الغيوب الحاضرة في عصرهم والتي تأتي بعدهم وأنبأ محمد (صلوات الله عليه وعليهم) بمثلها وبغيوب سابقة كانت قبل نبوته بقرون، ولكن لم يجئ أحد منهم بمثل ما تقدم إجماله في المقاصد العشرة العالية من العلم والحكمة والتشريع. قد بيَّنا لكم أيها العقلاء الأحرار بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلل والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي الأعلى، والتشريع المدني الأسمى، والحكمة الأدبية المثلى من استعداده الشخصي، وما اقتبسه من بيئته ومن أسفاره، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً، وعلمتم أن بعض ما قالوه افتراء على التاريخ، وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه، وعلمتم أنه في جملته مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ. ونحن نتحداكم الآن بالإتيان بعِلَل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي الله تعالى وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه علل يقبلها ميزان العقل المسمى بعلم المنطق، وما ثبت عندكم في هذا العهد من علم النفس وعلم الاجتماع وحوادث التاريخ وفلسفته. فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول، وتؤيدها النقول، فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وبكتابه المنزل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر، وأن تتولوا الدعوة إلى هذا الإيمان، ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به، بعد أن عجزت علومكم الواسعة، وفلسفتكم الدقيقة عن وقف سريان عدوى فساد الإباحة وعبادة الشهوات وفوضى الأفكار في الأمم، وعجزت عن منع دول حضارتكم أن تنفق معظم أموالها المنتزعة من شعوبها ومستعمراتها في الاستعداد لحرب البغي والعدوان المدمرة، وتأريث العداوات بين شعوب الأرض كافة، فقد كان غاية شوط هذه العلوم الواسعة عند هذه الدول أعظم نكبة على البشر، وأنتم أيها العلماء لم تقصدوا إلا أن تكون نعمة تتم بها سعادة البشر. ألا أنه قد ثبت بالحس والعيان أن العلم البشري وحده لا يُصْلِح أنفس البشر؛ لأنهم لا يخالفون أهواءهم وشهواتهم الشخصية والقومية باتِّباع آراء أفراد منهم، وإنما يدينون بوازع الفطرة، لما هو فوق معارفهم البشرية وهو ما يأتيهم من ربهم، ولا يوجد في الأرض دين عام كامل صحيح ثابت إلا دين الإسلام، وقد بيَّنا لكم أصول تشريعه الروحي والسياسي والاجتماعي الصالح لكل زمان ومكان، وأنه دين السلام والحق والعدل والمساواة التي تعطي كل شعب وكل فرد حقه، وبها وحدها يمكن البرء من الأدواء المالية والسياسية والحربية والاجتماعية كلها. قد دعا بعض العلماء منكم إلى عقد مؤتمر من كبار علماء الشعوب كلها للبحث في الوسائل التي يمكن أن تقي حضارة العصر من الدمار، ولئن عقد هذا المؤتمر فلن يكون أمثل ولا أرجى من هذه المؤتمرات التي تعقدها الدول في جامعة الأمم وعواصم السياسة وهي لما تزد الأدواء إلا إعضالا، والأخطار إلا تفاقمًا، وإنما الدواء الواقي المضمون بين أيديهم وهم لا يبصرون، وحجته البينة تناديهم ولكنهم لا يسمعون: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: ٢٣) . * * * سؤال علماء الإفرنج عن شبهاتهم على الدعوة المحمدية (بعد تبليغهم لحقيقتها، ومكان أخبار القرآن منها) وأما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار، فالمرجو منكم أن تسمعوا وتبصروا، وأن تعلموا فتعملوا، ولكن دعوة القرآن لم تبلغكم حقيقتها على الوجه الصحيح الذي يحرك إلى النظر؛ لأن الإسلام ليس له زعامة ولا جمعيات تبث دعوته، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ حضارته، بل صار المسلمون في جملتهم حجة على الإسلام وحجابًا دون حقيقته، وأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في بلوغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا العصر، فإن ظهر لكم بها الحق فذلك ما نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها، وإن عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم للعلم، وحرصكم على استبانة الحق، أن تشرحوها لنا لنعرض عليكم جوابنا عنها، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون. ولا أراكم تعدون من الشبهات الصادَّة عنه (بعد أن ثبتت أصوله بما ذكرنا، أن فيه أخبارًا عن عالم الغيب لا دليل عليها عندكم، فإنما مصدر الدين عالم الغيب) ولو كان مما يعلمه البشر بكسبهم لما كانوا في حاجة إلى تلقيه من الوحي، وقد بيَّنا أن تعاليم الإسلام قد أثبتت أنها وحي من عالم الغيب وقامت برهانًا على وجود الله وعلمه وحكمته، فوجب أن تؤخذ أخباره بالتسليم، وحسبكم أنه ليس في القرآن منها ما يقوم البرهان على استحالته. وأما أخبار القرآن عن عالم الغيب والشهادة من تكوين وتاريخ فمن معجزاته الإيجابية أنه جاء فيه كثير من التعبيرات التي كشف العلم والتاريخ في القرون الأخيرة من معانيها ما لم يكن يخطر في بال أحد من أهل العصر الذي نزل فيه كما أنه لم يثبت على توالي القرون بعد نزوله شيء قطعي ينقض شيئًا من أخباره القطعية، على أن أخباره هذه إنما جاءت لأجل الموعظة والعبرة والتهذيب، ويكفي في هذا أن تكون الأخبار على المألوف عند الناس، ولا ينتقد عليها إذا لم تشرح الحقائق الفنية والوقائع؛ لأنها ليست مما يبعث الرسل لبيانه، ولا يمكن الوقوف عليها إلا بالتعمق في العلم أو الاستعانة بالآلات التي لم تكن معروفة عند المخاطبين الأولين بالكتاب، بل لا يصح أن يأتي فيها ما يجزمون بإنكاره بحسب حالتهم العلمية لئلا يكون فتنة لهم، وقد قال نبي الإنسانية العام: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) رواه مسلم في صحيحه. ومن دقائق تعبير القرآن في النوع الأول أن مادة الخلق (دخان) وهو عين ما يسمى السديم، وأن السموات والأرض كانتا رتقًا، أي مادة واحدة متصلة ففتقهما الله وجعل كلا منهما خلقًا مستقلا، وأنه جعل من الماء كل شيء حي، وأنه خلق جميع الأحياء النباتية والحيوانية أزواجًا فجعل في كل منها ذكرًا وأنثى، وأنه جعل كل نبات موزونًا، وأنه أرسل الرياح لواقح وأمثال ذلك كثير. وأعجب منه بيان كثير من سنن الاجتماع البشري التي لم يهتد البشر إليها بالبحث العلمي التدريجي إلا عدة قرون فمن المناسب لهذا وما سبقه من عجائب القرآن أن أختم هذا البحث كله بقوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (فصلت: ٥٢) * {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: ٥٣-٥٤) (صدق الله العظيم، وبلَّغ رسوله الكريم، والحمد لله رب العالمين) * * * الشبهات على القرآن ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام كنت عازمًا على إتباع هذا البحث ببيان ما لعلماء هذا العصر من الشبهات على القرآن العظيم ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأجوبة عنها، وكتبت من ذلك شبهة موسيو درمنغام صاحب كتاب (حياة محمد) على مسألة الصلب والفداء. ثم بدا لي أن أكتب في هذا رسالة مستقلة ألخص فيها ما سبق لي نشره في مجلة المنار وتفسيرها، ومنه ما طبع مستقلا كرسالة (عقيدة الصلب والفداء) وأزيد عليه ما أقف عليه بعد نشر هذا البحث، والله الموفق وهو المستعان.