للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نهضة مسلمي الهند
(١)
شعرت جميع الشعوب والأمم من جميع المِلَل والنِّحَل في الشرق بشدة حاجتها
إلى التربية والتعليم المفيدين للقوة والعزة المنميين للثروة الموصلين للسعادة، إلا أن
المسلمين كانوا أبطأ شعورًا وأضعف إحساسًا بذلك، وأجدر بهم أن يكونوا هم
السابقين لجميع الشرقيين؛ إذ الغربيون لم يهتدوا لذلك إلا بما اقتبسوه من أنوارهم من
قبل. ولم يكن السبب في ذلك ضعف قابلية المسلمين واستعدادهم؛ لأن الاستعداد
الطبيعي لا يختلف باختلاف الاعتقاد، ولا تعاليمهم الدينية؛ لأنهم كانوا أشد تمسكًا
بالدين علمًا وعملاً أيام أخذوا الفنون عن مخالفيهم وجدُّوا في إنمائها واستثمارها،
ولكن العلوم لما دالت إلى الغرب وغمرته بخيراتها وبركاتها، ثم اندفع أهله إلى
الشرق مكتسبين ومستعمرين - كان أول من أخذ عنهم معارفهم النصارى للتناسب
بينهم في الدين ومذاهبه، ثم تبعهم الوثنيون في الهند وفي اليابان، وعادى
المسلمون علومهم لعداوتهم السياسية، حتى توهم عامتهم وجهالهم أن تلك العلوم مضادة
للدين نفسه، وبقي المسلمون أجيالاً في الكسل والخمول، لا يرجعون إلى آداب دينهم
التي نهضت بهم في النشأة الأولى، ولا يتمسكون بالفنون العصرية التي نهض بها
غيرهم عادوا الأولى عملاً، والثانية قولاً وعملاً، وتقيدوا بسلاسل العادات
المضرة والتقليدات المكسلة، حتى صاروا مضغة بين الأفواه ولماظة بين الشفاه،
تلوكهم دونُ الأمم وتلفظهم لفظ النواة، وحتى ساغ لمثل رزق الله حسون أن يقول:
أي قطر وليس فيه يهود ... ونصارى وفيه بيع وشراء
ولقد صدق الشاعر؛ فإن المسلمين أصبحوا أفقر الأمم مع أن دينهم يأمر
بالجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وجمهور أئمتهم يفضل الغني الشاكر على
الفقير الصابر، وكتابهم يعلمهم أن يقولوا في دعائهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: ٢٠١) وقد وصف حال بعض الناس بقوله:
{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج: ١١) .
أليس من العجيب أن يفوق أبناء هذه الملة في الكسب أهل كتاب ينص على أن
الغني لا يدخل ملكوت السموات حتى يدخل الجمل في سم الخياط، ثم يرمونهم بأن
دينهم هو الحجاب بينهم وبين الرقيّ في مراقي العمران، والصعود على مدارج
المدنية العزيزة، كما نراه في جرائد أوروبا كل يوم، وكما نسمعه من أهلها وعنهم
في كل مجتمع، وقد أقررناهم على انتقاصهم لنا حيث لم نكذبهم بقول ولا عمل.
نعم قد دافع عنا بعض المدافعة من ليس من أبناء ديننا، كصاحب جريدة الأهرام
الغراء، فقد رأيت فيها غير مرة القول بأن المسلمين يساوون أو يقاربون غيرهم في
الاستعداد للترقي، وأن دينهم لا يمنعهم اقتباس العلوم من غيرهم، وإننا نشكر سعادة
صاحب الأهرام على مدافعته عن هؤلاء الذين رضوا بأن يكونوا مع القاصرين،
ولولا ذلك لدافعوا عن أنفسهم بالبرهان القوي وهو العلم النافع والعمل الرافع، ولا
سبيل إلى هذا إلا بالتربية الصحيحة التي أهملوا أمرها فكانوا من المهمَلين.
هذا مجمل من خبر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها: تلدغهم عقارب
الحوادث، وأفاعي الكوارث من الجحر الواحد ألف مرة، وهم على ما هم، والنبي
صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يلدغ المؤمن من جُحر مرتين) حتى إذا ما
بلغ السيل الزبي طفقوا يشعرون بحقيقة شؤونهم، ويبصرون ما يحدق بالوسط الذي
يعيشون فيه من الأخطار إذا ظلوا على سكونهم وخمولهم، إلا أن هذا الشعور
والإبصار لم يهديا إلى الطريق القصد ويزعجا إلى السير والسلوك فيه إلا مسلمي
الهند، فقد رأينا جرائدهم تلهج دائمًا بالتربية والتعليم، لا سيما جريدة (محمديان)
التي تُطبع باللغة الإنكليزية في مدراس، فقد اقترحت هذه على المسلمين إنشاء رسائل
في التربية الإسلامية وما هو وجه الصواب فيها، ووعدت بجائزة نفيسة لمن يصيب
الغرض وتكون رسالته أفيد للمطلوب، ولا تزال الرسائل ترد عليها في ذلك، وإذا
تسنت لنا ترجمتها فإننا ننتقدها انتقادًا.
(البقية بعد)
((يتبع بمقال تالٍ))