لحضرة الكاتب الفاضل عزتلو رفيق بك عظم زاده من أمراء الشام
إن من لوازم العمران ومقتضى الحضارة ترقي قوة العلم بالاختصاص بمزايا الاجتماع القائم على دعائم التعاون بين الشعوب، وكلما نمت هذه القوة في قوم كانوا آخَذ بنواصي المدنية، وأقرب لتسنم ذرى الحضارة، لما يترتب على وجود سنن الاختصاص بين الشعوب من تحديد المقاصد وتوزيع الأعمال على قانون مخصوص تشعر به كل نفس بطبيعة الترقي والعلم بما يفرض عليها عمله، ويسوغ لها تركه في عالم الاجتماع. وهذا ما نريده من معنى الاختصاص بمزايا الاجتماع المدني، أو هو بعبارة أصرح: معرفة كل فرد ما أنيط به من العمل في مجتمعه على حدود وأحكام تمنع اختلاط المقاصد وتغالب النفوس المؤديين إلى تشويش نظام الاجتماع وفقد توازن القوى العاملة بين الأفراد البشرية في أي قبيل كان. فإذا فقد التوازن رجح القوي على الضعيف، وأكل الغني الفقير، فينشأ عن ذلك فوضى الأعمال التي بها تتهافت النفوس على حب الأثرة، ويتغالب الناس على مناط الحاجات، فيستهلك فريق كبير من الشعب في سبيل تحصيل القوت وتنتهك القوى المتضافرة، فتخمد النفوس السامية، ويختل نظام الحياة القومية، وتنفصم عرى التعاون والاختصاص بين أفراد الشعب، ومن ثم يأخذون بالهبوط إلى دركات الضعة، فينتهون إلى حيث يبدأ غيرهم بالعصور من الشعوب {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} (الأحزاب: ٣٨) . ومن المقرر أن أس الاجتماع في هذا الوجود البشري، ومناط الرجاء في انضمام الأيدي العاملة هي الحكومة، التي اختصت بالهيمنة على نظام الهيئة المحكومة، والقيام بإجراء قوانين الاجتماع الطبيعية والوضعية، ونريد بالأولى: العوائد والأخلاق التي تتدرج في مهد الأمة وتترقى بترقي الزمان، فالحكومة مكلفة بمراعاة جانب هذه القوانين والمحافظة عليها من عبث العابثين، تفاديًا من تطرق العوارض الفاسدة، والعلل المضرة على أخلاق الأمة ومألوفات النفوس. وبالثانية: قوانين التشريع الكافلة لاستمرار سير نظام المعاملات الدنيوية على وتيرة العدل، القاضي بحياة المجتمعات وعمران الممالك في كل زمان ومكان، فالحكومة مكلفة بتنفيذ أحكام هذه القوانين على وجه يبيح لكل فرد من أفراد الشعب التمتع بثمرات عمله دون مغالبة عليها من سواه أو مزاحمة ممن عداه. فمتى فرطت الحكومة بشيء من خصوصيات الهيمنة العادلة على القوانين المذكورة، أو عبثت بتلك السنن الطبيعية، فقد بدأت بتشويش نظام الاختصاص ومهدت للشعب سبيل التغلب وطريق الفوضى في الأعمال والتباين في المقاصد، فأودت به إلى الهلاك وبحياتها إلى خطر الارتباك. لهذا كان لا بد لإنماء قوى العلم بالاختصاص بمزايا التعاون من سلامة سنته الناجحة وقوانينه النافعة، وإنما تكون سلامتها بالمسيطر عليها، وهو الحكومة، فالحكومة بهذه المثابة مربية الشعوب، فإذا ربت شعبًا على مبادئ احترام القوانين الاجتماعية نشأ كل فرد من أفراده على معرفة الواجب والعلم بما له وعليه، وهذا غاية ما يطلب من أسباب الترقي للمتجمعات البشرية، والعكس بالعكس، ولا يحتاج إثبات هذه القضية لأكثر من النظر إلى حكومات المغرب المتمدنة التي احترمت عندها قوانين الاجتماع، فأنمت في شعوبها قوة الإحساس والشعور بمزايا التعاون والاختصاص، فعرفوا طرق الواجب التي تؤدي إلى خير المجتمعات فسلكوها غير متلكئين، وأدركوا من الحضارة شأوًا أعجز الأولين. والأمر في المشرق بخلاف هذا؛ فإنك ترى الحكومات الآن فيه بالغة منتهى الضلال في تربية الشعوب على نبذ قوانين الترقي والاجتماع، وهتك حرمة الاختصاص، حتى أدى ذلك إلى اختلال نظام المجتمع الشرقي، وانحلال عرى دوله العظيمة، ذلك من جراء استرسال الأهواء وتغالب النفوس التي ضلت عنها المقاصد، فكلَّتْ دونها الهمم وخمدت العواطف، ففقد الشعور بحاجات العمران ومقتضيات الزمان. هذا كله وقد بلغ الأمر بتلك الحكومات إلى أنها لا تزال تهدم بيدها أهم القواعد في قوانين الاجتماع وسنن الطبيعة وهي كثيرة، ومنها: ما تذكره مثالاً يؤيده ما ذهبنا إليه في هذه المقالة، ويبرهن على منتهى ما بلغت إليه في هذا العصر حكومات المشرق - وأخصها الإسلامية - من سوء التدبير في سياسة الأمم وإليك المثال. قضت سنن الوجود الطبيعية أن يكون العقل في الإنسان رائد العلم الضروري لحياة البشر، وتدبير أصول المعيشة، فلا يزال هذا العقل دائبًا في تتبع هذه الغاية، حتى يبلغ مبلغ الكمال الاكتسابي الذي يؤهل الإنسان لبسط يد السلطة على العلم بمقتضيات الحياة الأدبية، ويرفعه إلى ذرى الحضارة والتمدن، وهذا معنى قولهم: الإنسان مدني بالطبع. فإذا كانت طبيعة الوجود البشري نفسها تقضي بتسريح العقل في مناحي العلم لاكتساب معرفة مواد الحياة المدنية، فأي خرق في الرأي وإفساد في سنن الطبيعة أعظم من حيلولة الحكومة بين الشعب وبين مناحي عقول أفراده التي تؤهله لأن يكون مدنيًا عارفًا بواجبات الإنسان القاضية بتفضيله على سائر الحيوان. هذا الخرق في الرأي والإفساد في سنن الطبيعة هو ما تفعله الآن حكومات الإسلام في المشرق، وذلك باتخاذها الوسائل القاضية بإضعاف قوة النزوع إلى العلوم في سائر أفراد الشعب لأسباب * وظنون تضحك الثكلى. نعم نرى أن بعض تلك الحكومات لا تحصر العقول في دائرة ضيقة من العلم الذي لا يتعدى الضروري من أمر الدين، كما يفعله البعض الآخر، بل هي تبيح تلقي العقول لعلوم الدنيا، وتؤسس لها المدارس، ولكن تغفل عما وراء ذلك من لزوم تنشيط النفوس على العمل، بل تحظره ألبتة تفاديا من ترقي العقول إلى متناول المعرفة بالحقوق والواجبات التي تلزم كل فرد من أفراد الشعب بالنسبة إلى الحكومة والوطن، فهي تحظر الاجتماعات العلمية وتحجر على الجرائد وتختم على الأفواه وتغل الأيدي وتبعد النوابغ وتدني الجهلاء، إلى آخر ما يدعوا لمنع الفوائد التي يترقبها الشعب من تلك المدارس، ويرجو الحصول عليها من تلك العلوم. إذن فلا تفاوت في الوجهة بين سائر حكومات المشرق في سوء التدبير الذي انتهى إلى ما أصبحنا فيه معاشر الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا من الفوضى في الأعمال والتباين في المقاصد والضعف في النفوس والانحلال في العزائم والفتور في الهمم، وغير ذلك من بواعث التقهقر الذي مزق الأحشاء، وأدمى القلوب، وأودى بحياة الأمة، وقضى على الشرق قضاء لا مرد له إلا بتنبه حكوماته من سنة الغرور وإطراحهم لعجرفة الأيام الغابرة، والعمل مع الشعوب بما يدفع هذه الرزايا، ويصرف هذه المحن، وإلا فتالله إن تلك الحكومات لمسؤولة أمام الله وإمام الإنسانية وأمام العدل عن تلك الحرمات المهتوكة، والدماء المسفوكة، والربوع المستباحة لسلب السالبين ونهب الناهبين، والممالك الممزقة، والشعوب المفرقة، وما لا يعلم بنهايته إلا الله، والله بكل شيء عليم اهـ. (رأي المنار في الجواب) ما ذهب إليه حضرة الكاتب الفاضل من أن المسئول بإسعاد البلاد وترقي الأمة حكامها، هو المذهب المتبع عند الشعوب الشرقية كافة، وسببه استعباد حكام الشرق وملوكه لتك الشعوب، واستبدادهم فيها بحيث صار هذا الفعل والانفعال راسخين في النفوس بالوراثة، وقد جاء الإسلام بالتعليم الديمقراطي المعتدل، وقيد سلطة الملوك والأمراء والرؤساء بشرعه الذي جعل الناس فيه شرعا (بالتحريك أي: سواء) ولكن مُحِيَ هذا التعليم بعد الخلفاء الراشدين كما شرحناه في مقالات (الخلافة والخلفاء) وغيرها، وصار ملوك المسلمين وحكامهم بتمادي الزمان أشد استبدادًا ممن عداهم. ولما سرى روح هذا التعليم في أوروبا بسبب انتشار العلوم والمعارف فيها - وإنما كان مبدأ فيضانه من الإسلام - تَرَبَّتْ بحسن تربيتهم ملوكهم وحكامهم، وقيدوا السلطة، حتى انتهوا إلى الجمهورية، فارتقوا بذلك ارتقاء لم يعهد في تاريخ الإنسان، حتى كاد يتم لهم الاستيلاء على العالم كله. فخذل الجاهل أمام العالم، ودحر الظالم تجاه العادل، وأوشك تنازع البقاء أن يقضي بمحو السلطة الشرقية أو الإسلامية خاصة من لوح الوجود بما ظهر من عجز مقاواة السلطة الاستبدادية للسلطة الدستورية الشوروية، وأحست الشعوب الشرقية أو الإسلامية بالخطر الذي يتهددها وهو العدم والفناء القومي والملي، لكن الجهل بحقيقة الداء والدواء تركها في أمر مريج، تنظر إلى ملوكها وحكامها فتشاهد البلاء ينصب عليها من قِبلهم، فتقع في هوة اليأس وتهوي إلى وهدة القنوط. وكيف لا ييأس من يشاهد الطبيب يقتل المرضى بما يجرعهم من السموم؟ وكيف لا يقنط من يرى البلاء والشقاء ينصب عليه من ميازيب السعادة والنعماء؟ اليائس لا عمل له، اليائس لا يرجى منه خير، اليائس في عداد الموتى، فمن أراد أن يخدم أمة يئست من الحياة العزيزة القومية بيأسها من حكامها، فليقنعها قبل كل شيء بأن قوة الشعب فوق كل قوة؛ لأنها مظهر القوة الإلهية، وأن الأمم إذا تربت وتعلمت تربية وتعليمًا صحيحين تعتز وتسعد بقسميها الحاكمين والمحكومين، وأن الأمة في استطاعتها أن تقوم بهذه التربية وهذا التعليم من دون الحكومة بهمة علمائها العقلاء وأغنيائها الفضلاء، وبهذا نهضت أوروبا التي بهرت مدنيتها أبصارهم وحيرت ألبابهم. وهذا الموضوع الشريف هو أهم المقاصد التي أنشأنا لأجلها جريدتنا (المنار) ، فقد قلنا في مقدمة العدد الأول: فعليك بالعلم والعمل، رُض بهما نفسك، ورَبِّ عليهما ولدك، فلقد حل من لساني عقدة الاعتقال والسكوت، وأطلق قلمي من عقال الدعة والسكون، استغراق بعض إخوتي وإخوتك في النوم، وغرق بعضهم في بحار الوهم، وجهل المريض منهم بدائه، ويأس العالم بمرضه من شفائه، فأنشأت هذه الجريدة إجابة لرغبة من تنبهت نفوسهم لإصلاح الخلل، ومشايعة للساعين في مداواة العلل، الذين أرشدتهم التعاليم الدينية، وهداهم النظر في الآيات الكونية، إلى أن اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته جل علاه، هو عين الكفر والضلال، وآية الخزي والنكال، فأحبوا أن يعملوا لأمتهم، ويقوموا بخدمة لملتهم، إلخ. ثم قلنا في بيان مقاصد الجريدة من المقدمة أيضا: (وغرضها الأول: الحث على تربية البنات والبنين، لا الحط على الأمراء والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة وطروق أبواب الكسب والاقتصاد) . ومنها أيضًا: (وتُنبه - أي الجريدة - العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران، وينبوع العرفان، وأن عليهما مدار تقدم أوروبا في الفنون والصنائع لا على الملوك والأمراء، فهي التي تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد المعامل والمصانع، وتسير المراكب والبواخر، ونموذج ذلك بين أيديهم وتحت مواقع أبصارهم) . وكتبنا في العدد الثاني محاورة في سعادة الأمة، أوردنا فيها أسئلة كثيرة تتعلق بتحصيل هذه السعادة، وفندنا في الكلام عن أجوبتها جواب مَن حَصَرَ السعادة في الحكام، فقلنا بعد إيراد الأسئلة: فلما فرغت المسائل وسكت السائل، وطلب ما عند القوم من الجواب، ابتدر أحدهم فقال: لا شك أن الأمراء والحكام هم الذين يكونون بِنى (جمع بنية) الأمم، وينفخون فيها روح الوحدة. وينشقونها نسيم الحياة الوطنية. ويمدون فيها جداول الثروة، بما يمهدون من طرق الكسب ويحفرون من الترع ويبنون من المعامل والمصانع، ويهيئون من الآلات والأدوات إلخ ما أشرتم إليه من أسباب السعادة. فرد عليه السائل قائلاً: إذا فرضنا أن الحكومة غنية مع فقر الأمة وأمكنها أن تعمل كل هذه الأعمال، فهل في استطاعة الحاكم أن يقتلع من نفوس الأمة جراثيم الأخلاق الذميمة، وينقي منها بذور العادات الرديئة التي تنجم عنها الأفعال المضرة، ويغرس فيها أشجار الأخلاق الفاضلة والسجايا الجميلة التي تثمر الأعمال النافعة؟ كلا إن من يلقي التبعة كلها على الحكام مخطئ في حكمه، وإنني رأيت أكثر الأمم الشرقية لا يرون لأنفسهم وجودًا إلا بالحكام، ويرون أن صلاح الأمة وفسادها وغيها ورشادها وصحتها ومرضها وغناها وفقرها، بل ومحياها ومماتها، كل ذلك بيد الحاكم حتى كأن الحاكم بيده ملكوت كل شيء وهو يجير لا يجار عليه، وكأن هذا الوهم متسلسل فيهم بالإرث من عهد من قال {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: ٢٥٨) وعهد من قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: ٢٤) وجهلوا أن الحاكم ليس إلا رجلاً من الأمة، وأن الحاكمية مازادت في فضائله، ولا منحته قوة فوق القوى البشرية، بل ربما أفسدت أخلاقه وأسقمت مداركه (كما شوهد في البعض) والصواب أن إصلاح الأمة لا يكون من الحاكم، نعم إن الحاكم إذا ساعده يكون أسرع سيراً وأقرب نجاحًا. اهـ. والحاصل أن ما قاله الكاتب الفاضل صحيح، ونحن معه إلا في حصر المسئولية بالحكام، والحق أن الحاكم مسئول والشعب مسئول، فإذا قصر الأول لا ينبغي أن يقصر الثاني، وبالله التوفيق.