للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي


خديجة أم المؤمنين
(٦)

الفصل الحادي عشر [*]
(الحب الشريف)
إن أشرف السِّيَر سِيَر أهل الفضيلة، وما الفضيلة إلا من خصائص النفوس،
فمن كان من عشّاق الفضائل حسن به أن لا تفتر نظرات بصيرته إلى النفس، فهي
مستقرّ الخوارق، ومستودع العجائب.
النفس مَجْلَى الآيات الكُبَر، ومهبط الفيوضات العُلَى، والمرآة العظمى التي
ينكشف بها الأزل والأبد، والمطبعة العظمى التي ترتسم بها الأشياء وتتكثر الصور.
هي السلك الممدود بين مبدع الطبائع، ومقيم الشرائع، وبين الجواهر المتألفة
الصامتة، والظواهر المسخرة المطيعة، فهي خليفة عليها، واقفة على خطواتها،
مشرفة على حركاتها، وهي مجذوبة من طرف إليها بجاذبية الأنس والعادة،
ومجذوبة من طرف آخر إلى مصدر بوارقها بجاذبية الحبّ والشوق، فبانجذاب
النفس إلى الظواهر تأخذ الظواهر حظّها من الانكشاف، وبانجذاب النفس إلى مانح
الظهور تأخذ النفس حظّها من الشهود والإشراف، فيحق لها في الحالتين أن تتمجد
بما ميّزها به فاطِرُها تَباركَتْ عظمتُه، وتعالى شأنه.
أعظم خصائص النفس الحب والبغض، بل إن هاتين الطبيعتين المتضادّتين
أعظم نواميس الأكوان والموجودات كلها، لكن اختلفت المحبات، وتباينت الأشواق،
وأُوتِيَتِ النفس الإنسانية أعظم نصيب من هاتين الطبيعتين لاتساع المحيط الذي
تدور فيه، ولاتصالها بعالم الحسّ وعالم الغيب، وترددها بالانجذاب بينهما فهي إن
وقفت يومًا مع الظواهر أنست بها , فعشقتها لما رشّ عليها مبدعها من الحسن الذي
هو وصفه، وإن ارتفعت إلى المبدع دهشت فتولهت لما هنالك من المجالي الأزلِيّة
التي تطير السرائر شوقًا إلى التمتع بها.
الفضائل والرذائل، الخيرات والشرور، الحزن والسرور، الرغبة والرهبة،
الإقدام والإحجام، الكسل والنشاط، الارتفاع والهبوط، كل ذلك من مبتدعات الحب
والبغض وآثارهما، وكل درجة من هذه الأشياء فإنما هي على مقاييسهما، هما
بالاختصار رُكْنَا السعادةِ والشقاء، فمن هُدِيَ إلى تصريفهما والجري بهما على سُنَّة
مُثْلَى فقد أهديت إليه السعادة , وأُوتِيَ بالحب الشريف والبغض الشريف حظًّا مِن
الخير عظيمًا.
كانت السيدة (خديجة) ذاتَ قلب طاهر، والقلب الطاهر مركز الحب
الشريف، فماذا أحبّت سيدتنا هذه؟ كان قلبها تواقًا إلى معالي الأمور، عظيم الشنف
بمحاسن الأخلاق، وقد أمدّ الله فطرتها إمدادًا عظيمًا فقويت معرفتها بالمكارم،
وعظم علمها بأن الفضائل هي التي تليق بالإنسان، سواءٌ وقفت نفسه مع هذه
المحسوسات , أم أرادت أن تندرج في زُمْرَة عُشّاق المجالي الأزليّة.
عرفت هذه السيدة صلة النفس الإنسانية بمن منه انشقت أسرارها، وانفتقت
أنوارها، فكان لها تشوف إلى جود عظيم يفيض عليها من العناية الربّانِيّة، كما هو
شأن ذوي السرائر الصافية، وحصل لها من هذه الحالة الطيبة قوة فراسة،
والفراسة نور، فكانت تهتدي بها فيما هي حائمة الروح عليه من الفضائل، ومن
أحب شيئًا أحبّ أهله من أجله، فلما عرفت ابن عبد الله ووجدت فيه ما يعشق من
المزايا العَلِيّة، انتثرت حَبَّةٌ من تلك المحبة الشريفة التي كانت بها تنشد المكارم ,
فوقعت في محلّ مِن قلبها لتنبت شوقًا إلى هذا الرجل الصالح الذي ألفت المكارم كلها
لديه، وأيقنت أن معرفتها هذا السعيد بمزاياه العظيمة هو أعظم الآثار التي كانت
تتشوف إليها من لَدُن العناية المرجوة.
الآن وجدَتْ مُحِبَّةُ الفضائلِ والمحامد أعظم مَن تتجلى الفضائلُ والمحامِدُ فيه،
فكيف ينفر منه قلبها؟ بل كيف لا يميل إليه فؤادها؟ فالأمانة هو ذلك الشهير فيها
وقد سبرته في متجرها فربحت بواسطته أضعافًا، والشجاعة هو المنشأ فيها على يد
عظيم الهمة أبي طالب، والنباهة هو الذي تسطع في محيَّاه طوالعها، والحكمة هو
الذي تقرأ في سيماه آياتها، والعفة هو ربها، والمروءة هو مجمع شواردها،
ومحاسن الخلقة هو النسخة الصحيحة منها، فأي الفضل تنشد بعد هذا مُحِبَّةُ الفضل،
وأي المحامد تريد بعد هذه مريدةُ المحامد؟ كمال خَلْق وكمال خُلُقٍ، جمال شخص
وجمال نفس، حنكة لم يظفر بمثلها أقرانه مِن الشُّبَّان، ووقار لم يحظ بأقلّه الكبار،
وهمّة لا تقف أمامها الصعاب، وعزيمة لا تني أمام الثقال، قوي شديد، حليم رشيد،
كما يقول فيه عمه أبو طالب وهو به جدير:
فمن مثله في الناس أي مؤمّل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل؟
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلهًا عنه ليس بغافل
لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنه سَوْرَة المتطاول
فما أكثر غبطة السيدة (خديجة) إذ عرفت هذا السيد الجليل، وما كان
أجدرها بأن يتعلق قلبُها الطاهر به، وما أقوى نور فراستها إذ علمت أنه لا نظير له،
وأن سعادتها لا تتمّ إلا به، وما أحقها أن تغتنم الفرصة وتسبق إلى تزوّج هذا
الشريف الذي جمع إلى شرف النسب شرف الخلال.
* * *
الفصل الثاني عَشَرَ
(تفاؤلٌ هذا وقتُه)
كانت الكهانة شائعة في ذلك الزمان كما هو شأنها في كل الأزمنة إلى زماننا
هذا، وكان علماء التوراة ينبئون دائمًا بظهور نبيّ مُنْتَظَر، وبعضهم كان يقول:
إنه سيظهر مِن العرب، والراهب بَحِيرَا تفرّس بابن أخي أبي طالب إذ كان معه
صغيرًا , وقال له: سيكون لابن أخيك هذا شأن! ولم يكن بعيدًا عن المألوف أن
يخبر بعض الناس بالمغيبات , ولكن لم يكونوا يصدقون كل شيء من هذا القبيل ولا
يكذبون كل شيء كما هو الشأن في أهل زماننا أيضًا.
وقد كثر التكهّن قبيل ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن أكثر الناس
لم يكونوا يبالون بتلك الأخبار؛ لأنهم تَعَوّدوا أن يروا شيئًا من كذب الكهانة مع
مصادفة صدقها أحيانًا، فلم تكن الثقة بها في الحقيقة تامّة، ولا سِيَّمَا في الأمور
العظيمة.
وبينما نساء من قريش مجتمعات في عِيدٍ لهُنّ في الجاهلية، إذ تمثل لهن رجلٌ،
فلما قرب نادى بأعلى صوته: يا نساءَ مَكَّة، سيكون في بلدكن نبيٌّ يُقال له أحمد،
فمن استطاع منكن أن تكون زوجًا له فلتفعل. فَكَذَبْنَهُ وَرَمَيْنَهُ بالحصى، وكانت
فيهن (خديجة) فلم تَرْمِه كما رَمَيْنَه.
لم يكن هذا المنبئ كاهنًا معروفًا، فلذلك احتقره النساء؛ لأنهن لا يعبأن في
الغالب إلا بأهل الشهرة. ولكن كان قومهن يعتقدون بالهاتف، وهو على اعتقادهم
روح ينطق بالشيء مِن حيثُ لا يُرى، أو يتمثل بصورة بشرية فيقول قولاً من هذا
القبيل ثم يغيب، فكأن السيدة (خديجة) اعتقدت أن هذا المنادي هاتف، فلم ترمه
كما رماه ترائِبُها، ولعلّها صدقت إذ ذاك وتفاءلت خيرًا، ورجت أن تكون صاحبة
هذا الحظ.
وإن صحّ ظننا هذا بالسيدة كان لنا دليل جديد على عظيم تطلعها إلى بركات
الجناب القُدُسِيّ، فإنّ الرغبة في تزوج المنعم عليهم بالنبوة لا تعظم إلا من العارفة
بذلك الجناب الأَعْلَى الذي يتفضل بخلعة النبوة على مَن يشاء.
كانت النبوة معروفة عند قومها بما سمعوه من أخبار أنبياء جيرانهم بني
إسرائيل، ومعروف أن النبي رجل كالرجال , ولكن يصطفيه الله ويرفع درجة نفسه
على درجات سائر نفوس البشر، حتى يطلعه على ما لم يطلع عليه أحدًا من أسرار
عالم الغيب، وليست النبوة ملكًا أو حظوظًا زائدة مِن نعيم الدنيا، بل جلّ الأنبياء
الذين سلفوا كانوا مقلين , ولم يكن حظهم إلا مقاومة الناس إياهم وتعذيبهم،، والنساء
إنما يرغبن بالنعيم والرفاهية ورغد العيش وكثرة الحلل والحلي، وكل هذا لا يرجى
لدى الأنبياء الذين تنصرف أنظارهم عن متاع الغرور، ويلتفتون إلى ما فيه غِبْطَة
الرُّوح، فلا تَتَصوّر السعادةَ من النساء عند الأنبياء إلا اللاتي أنعم الله عليهن بسلامة
الفطرة وقوة الاستعداد كالسيدة (خديجة) .
ولما رجع عبدها (ميسرة) من الشام في تلك السفرة التي ذهب بها مع
الهاشمي (محمد) أخبرها بأحوال غريبة رآها منه لا يكون أمثالها إلا لمن سمعت
أخبارهم من الصالحين المباركين، فما لبث أن رنّ في قلبها صدى ذلك الصوت
الذي سمعته بأذنها، صوت ذلك المنادي في النساء المجتمعات اللاتي كانت معهن في
العيد، وكان هذا الصدى الذي رنّ في قلبها تتألف منه هذه الكلمات:
(تفاؤل هذا وقته) .
* * *
الفصل الثالث عشر
(الخواطر في قلب خديجة)
كانت (خديجة) تعرف أن ليست النبوة بالكسب والاجتهاد، وإنما هي محض
عطاء واختصاص من الحيّ الأزلي الدائم، ولكن كانت تعيد على خواطرها ما حكاه
لها عبدها (ميسرة) ويرنّ على أثره ذلك الصدى في قلبها فتقول في نفسها: أيّ
مانع يمنع رجائي بفضل الله بأن أكون صاحبةَ الحظِّ مِن الرجل المبارك الذي أنبأ به
الهاتف؟ أيّ مانع يمنع فضل الله عن قومي إذا أراد أن يخرج منهم ذلك الإنسان
الذي يقول عنه علماء التوراة، وكان لها ابن عم من جملة علماء هذا الكتاب.
ثم إذا مر بقلبها خاطر آخر يقطع عليها هذه الآمال وينهاها عن هذه الأحلام -
التي كانت تراها في اليقظة - ترجع إلى الشيء المحقق الذي لا ينازع فيه خاطر ولا
يماري فيه حِجًى وهو ما تحلّى به ابن عبد الله من صفات الكمال، فتتمثل في فكرها
تلك الطلعة السّنِيّة , ويلمع أمامها برق من تلك العينين الدعجاوين، وتنسى الشمس
وسائر الدراري حين تذكر دائرة ذلك الوجه المتألق، ويَقْوَى إيمانها بالملائكة إذ ترى
في هذا الشخص البشريّ آياتِ القُدُس والطهارة، فتقول في نفسها: أفليس حسبي أن
أكون ربة النصيب من فتى قريش الوحيد الذي كَمَّلَه الله، إن لم أكن صاحبة الحظ
من الصالح الذي أنبأ به الهاتف.
ثم تتراجع إليها الخواطر ويقلبها ذلك الحب الشريف الذي نَمَتْ حَبّته في قلبها
على ضروب من الحيرة , فتقول في نفسها مرَّةً أخرى: مَن لي بهذا المكمل الذي
مَالَ إليه قلبي، وحامت حوله خواطري، وعكفت في دائرة محاسنه نفسي، أليست
تمنع العادات بأن أكون أنا الخاطبة؟ أفّ للعادات ما أثقلَ أحكامَها! وما أظلمَ
قضاءَها! وما أشدَّ عتمةَ مسالكها! وما أسوأ عواقبَ الجمود عليها! وما أبخس
صفقة الذين لا يتزحزحون عنها!
نعم، نعم، أُفٍّ للعادات، فكم أوقفت بعض الأجيال في سجون ضيقة مظلمة
من التقليد الضارّ , وحجبت عنهم أنوار التبصير والتدبّر والتفكّر , فانطمست عليهم
سُبُل الارتقاء في معارج الاستحسان والتحسين , وغمت عليهم مطالع السعادة
الحقيقية للنفوس.
أُفٍّ ثم أُفٍّ للعادات؛ فهي قاطعة الطريق على نتائج العقول , تزجّ بها في مهاوي
العدم، أو تذرها في سجن أقفر ممنوعًا عنها كل ما يربها، ويا عجبًا لبني آدم الذين
يضعون العادة في هذا المكان من الحكم على نفوسهم والقضاء على عقولهم وقلوبهم،
أليس لهم ما يذكرهم بأن العادة من صنعة أيديهم وتصوير أحلامهم، أليس لهم ما
يبصرهم بأن العادة يجب أن تكون تابعة لا متبوعة، ومنقادة لا قائدة، حتى إذا
فتحت أمام بصائرهم أبواب أُخَر لما هو خير وَدَّعُوا عادتهم تلك محمودة على قدر ما
نفعت، ومذمومة على مبلغ ما أضرت، واستقبلوا أخرى مصاحبيها على مقدار ما
يدوم من أسبابها، وينفع من أبوابها.
تبرمت (خديجة) بالعادة كثيرًا، وتأففت من تقلبها طويلاً، وسردت كل
سيئات الجمود عليها في نفسها التي هي أعلى من نفوس الغافلين عن المقدمات
والنتائج، لما خصها الله من سلامة الفطرة، وفضل الفطنة، وقوة آلة المعرفة،
ومزيد حرارة الهمة.
ثم عادت تعذر الضعفاء الذين لا يستطيعون التغلب على الثابت الراسخ وهم
الأكثرون، وتذكرت أسباب رسوخ بعض العادات، ومنها وفرة فوائدها في أوقات
سلفت، وأحوال مضت، ورأت أن الناس يرثون من السالفين كل شيء ولا يميلون
إلى التغيير حتى يميل بهم الدهر ميلة شديدة على يد عاصف من الحوادث، أو هبة
شديدة من إرادة بعض الأشخاص، وكم دكت الإرادات القوية أطودًا من العادات،
ربما كانت هذه السيدة تستطيع التغلب على العادة فلا تجد بأسًا بأن تخطبه
بنفسها، لأنها كانت قوية الإرادة، ولكن من لها بأنه لا يرد خطبتها وهي أرملة في
الأربعين من العمر، وهو في الخامسة والعشرين , يَشِفّ مُحيَّاه عن ماء الفتوة،
وينشر شذى الشباب، والمرأة مهما قويت إرادتها تتذكر الخيبة فيغلب إحجامها
إقدامها، وهذا بعض أسباب العادة في أن تكون هي المخطوبة.
ما أصعب الخواطر على المرأة التي تجد ضالتها من السعادة ولا تستطيع
الإقدام على تحصيلها! هي صعبة على الرجل أيضًا، ولكنها على المرأة أصعب،
لأنها أضعف على كل حال. بَيْدَ أن ضعفها الذي زينها الله به في عين الرجل به
تمت نعمتها وعلت كرامتها لديه. فقوة الخفر والحياء من ضعفها، وذلك أعظم حلية
طبيعية تزدان بها، ومن عطل من هذه الحلية منهن رغب عنها الكرام من الرجال،
وشدة الرحمة من ضعفها وما أعلى وأجمل وأزين هذا الضعف الذي بدونه تمقت
المرأة. والجبن من ضعفها ولولاه لما حصل الاعتدال في اقتسام الأعمال بينها وبين
الرجل.
فماذا تصنع قوة إرادة السيدة (خديجة) أمام شدة خفرها وحيائها، وماذا تنفع
شجاعتها أمام خشيتها من الخيبة، وماذا تجدي قوة عزيمتها وصبرها عند المزعجات
من خواطر الحب الشريف الذي ملأ قلبها الطاهر بعد أن كان حبة صغيرة ألقيت فيه.
اللهم رحماك , فليست القلوب من حديد، ولم تقدّ من صخر، إن نسيم
الخواطر فيها يصدع إن جاءها برائحة اليأس، ويرأب إن أتاها برائحة الرجاء،
وكذلك كانت خواطر السيدة (خديجة) صادعةً ورائبة، بَيْد أن رجاءها كان أغلب،
ولو كشف لها الغطاء عمّا يحف بها من السعادة المغيبة عنها إذ ذاك لانقلب رجاؤها
يقينًا؛ ولكن لتستكمل الغرائز حظها من النفوس كُتِبَ على الإنسان أن يُغيَّب عنه
آتيه من السعادة والشقاء فترى منحوسًا يضحك ويلعب والشقاء يساوره عما قريب
يأخذه بياتًا أو يصبحه وعاء صباحًا. وترى مسعودًا يتململ ويمسي ويصبح على
مضاجع الحيرة والأرق واجمًا سادمًا والسعادة من حوله مرفرفة بأجنحتها ستقف عما
قريب على رأسه وتشمله ويتبارك بها بيته.
فما أشد حاجة هذه السيدة السعيدة في مواقف حيرتها تلك إلى هاتف يبشرها
بقرب اتصال السعادة التامّة بها. ما أشد حاجتها إلى من ينبئها بأنها هي الجوهرة
النفيسة التي أعدت لذلك الذي ميزته العناية الأزلية أكمل تمييز. ولكن ليظهر مزيد
فضلها في الميل إلى رب الفضائل والمكارم التي لا تُبارَى حُجِبَ عنها كل هاتف
وحُبِسَتْ عنها البشرى حتى أخذت الخواطر حظها من قلبها الكريم وتمكن منه كل
التمكن ذلك الحب الشريف لذاك الذي أجمعت فيما بعد قلوب الملايين التي لا تحصى
على حبه.
* * *
الفصل الرابع عشر
(الزواج)
لا بدع إذا قلب الشوق نفوس المحبين في يد الخواطر، كالكرة بيد اللاعب،
فإن قوام الكائنات بشوق ذراتها بعضها إلى بعض، وكان جديرًا أن يتجلى هذا
المعنى بزيادة في غريزة خليفة الله في الأرض، نعني الإنسان. كيلا يكون بنو آدم
وحواء أنقص من الجمادات حظًّا في هذا الناموس الكبير الفائدة.
فبعد أن تمكن من (خديجة) الشوق الشريف هذا التمكن أصبحت جديرة أن
تتناول هدية سعادتها، وتنكشف لها الحجب عن الرحمة التي ترعاها، فهبط على
قلبها خاطر جديد كان به الوصول إلى النعمة الجديدة.
خطر لها أن تبعث إلى الذي سكنت مكارمُه ومعاليه فؤادها رسولاً تسبر به
رغبته وتستنبئ به سعدها مما ينزل على قلبه من الإلهام بهذا الشأن وساقها إلى هذا
الخاطر قوةُ رجائها بالله سبحانه وحسن ظنها بأن هذا المكمل لا يرد رغبة مثلها ,
وهي الجامعة لصنوف من المعالي يقل اجتماعها في سواها.
كانت لها صديقة اسمها (نفيسة) (وهي أخت يعلى بن أمية) فقصت عليها
حديثها وائتمنتها على هذه الرسالة، ولم يكن بالصعب أن تؤدي الصديقة هذه الأمانة؛
لأنها ستتكلم كأنها صاحبة رأي تشير به حتى إذا وجدت مجالاً كانت وكيلة بإبداء
القبول.
لم تكن النسوة إذ ذاك محتجبات ولم يَكُنَّ ممنوعات من مكالمة الرجال، فلم
تكن رسول (خديجة) محتاجة إلا لشيء من قوة الجنان أمام ذلك المهيب العظيم،
وقد أمدت من سعد مرسلتها بحظ منه.
ومن يكن راعيه السعد فقل ... ما شئت في تيسير ما يرجوه
جاءت (نفيسة) هذه ابن عبد الله، وفي القبيلة الواحدة يعرف الناس بعضهم
بعضًا، فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج، فاعتذر لها بقلة المال اللازم للقيام بشئون
العائلة، قالت له: فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة، قال لها:
(ومن؟) قالت له: (خديجة) .
قالت هذه الكلمة وصمتت تنتظر ما سيبدو منه، وأحدث هذا الكلام حركة في
فؤاده، وبأي شيء يتحدث هذا الفؤاد الطاهر حينئذ إلا بقوله: خديجة الشريفة
المعروفة بالطاهرة؟ هي المناسبة، هي الموافقة، هي الصالحة، اذهبي يا نفيسة
فإني سأخطبها.
فرجعت تحمل هذه البشرى، وكانت ميمونة النقيبة في هذه الرسالة، فالله يعلم
كيف أجزلت السيدة خديجة كرامتها ولم تنتظر كثيرًا حتى أتى خاطبًا ومعه عمه
حمزة، فقال عمها عمرو بن أسد بن عبد العُزّى: (هو الفحل لا يقدع أنفه) وهو
مَثَل عربي، يقال للكفؤ الذي لا يُرَدّ إن خطب.
ما كان هذا الخاطب الكفؤ غنيًّا إذ ذاك، ولكنه لم يكن أيضًا معدمًا فهو من آل
عبد المطلب العامرة بيوتهم بقرى الضيفان وإغاثة اللهفان، ففي هذا السبيل تذهب
أموالهم , ثم يخلف الله عليهم من وجوه المكاسب وأبواب المرابح بما أوتوا من الهمم
والشمم، ولم يكن اعتذاره ذلك اعتذار المعدمين، وإنما هو اعتذار المتربص أن
يتوفر له مقدار أكبر. فمع قلة ماله في ذلك الحين أصدقها عشرين بَكْرة؛ لأن
إعطاء الرجل للمرأة صداقًا سُنّة عربية، لم يكن ليحسن تركها.
والزواج العربي ليس محتاجًا إلى رؤساء ديانات، ولا تلاوة الرؤساء صلوات،
بل هو عقد كسائر العقود المدنية يتوثق برضا المرأة وأوليائها ورضا الرجل،
فبخطبة من الرجل وتقديمه الصداق وإجابة من المرأة وأوليائها تصبح المرأةُ زوجةً
شرعيةً للخاطب. وهكذا أصبحت (خديجة) الطاهرة زوجة (محمد) الأمين بكلمة
أعلنها عمها عمرو بن أسد، فما أعظمها مِن كلمة جمعت بين القمرين.
((يتبع بمقال تالٍ))