للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رد مسيح الهند على الطاعنين

نورد بعض ما كتبه في رد المطاعن التي سبقت في الجزء الماضي للاعتبار ,
ولأن بعض كلامه حق وبعض ما نقله عن العلماء الطاعنين به غير معروف عند
علماء المسلمين , قال في حمامة البشرى ما ملخصه مع حفظ عبارته:
(وما قولهم: إن المسيح كان خالق الطيور , وكان خلقه كخلق الله تعالى
بعينه, وكان إحياؤه كإحياء الله تعالى بعينه بلا تفاوت [١] , وكان معصومًا تامًّا
ومحفوظًا من مس الشيطان. وليس كمثله في هذه العصمة نبينا صلى الله عليه
وسلم [٢] فهذا عندي ظلم وزور {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} (الكهف: ٥) ,
وإنهم في هذه الكلمات من الكاذبين (ثم رد عليهم ما نسبوه إليه من إنكار الملائكة
وقال: نعم إني قلت وأقول: إن عيسى ابن مريم عليه السلام قد توفي كما أخبرنا
القرآن العظيم والرسول الكريم فكيف نرتاب في قول الله ورسوله , وكيف نؤثر
عليه أقوالاً أخرى أأختار الضلالة بعدما هداني الله تعالى والقرآن حكم عدل بيني
وبين المخالفين؟ - وبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ألم يكف لهم ما قال رب
العالمين - ولكنهم ما يقبلون شهادة القرآن ويتكئون على أقاويل أخرى التي لا
يدرون حقيقتها , فليت شعري إلى أيّ أمر يدعونني , أيدعونني إلى الجهل والعمى
بعدما كنت من المتبصرين , والله إني على بصيرة من ربي , وعندي شهادات من
الله وكتابه وإلهامه وكشفه) إلى أن قال: (وإني أرى أنهم لا يعتقدون بأن القرآن
كلام حيٌّ , وإمام صادق ومهيمن ومعيار كامل , بل يحقرونه ويضعونه تحت أقدام
الأحاديث [٣] ويجعلون الأحاديث قاضية عليه من قبل أن يفتشوا الآثار حق تفتيشها ,
ويثبتوا موازنة القطعيات بالقطعيات , بل هم يأمرون تحكمًا ويقولون ظلمًا: إن
الأحاديث بجميع صورها الظنية والشكية أحق قبولاً من القرآن وحاكمة عليه [٤] ,
وإن هو إلا ظلم وزور تكاد السموات يتفطرن منه , ولا يوجد في القرآن وحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماض إلى ذلك , ولا إيماء إلى هذه البهتانات , بل
الصحابة كانوا يقدمون القرآن في كل حال ولا يتركونه لأثر من الآحاد) ثم أشار
إلى ما ثبت في الصحيح من تقديم عائشة القرآن على الحديث وكذلك الصحابة
رضي الله عنهم. ثم ذكر الإلهامات من الله بأنه المسيح عيسى ابن مريم بمثل ما
تقدم في الجزء الماضي , وردّ على العلماء المنكرين وقال: (ولو كانوا عاقلين
منصفين طالبين للحق مفتشين للحقيقة لتفكروا في قول قد كتب من قبل وطبع
وأشيع في زمان ما كان أثر هذه الدعاوى فيه , ولتفكروا في سوانح عمري , وقد
لبثت فيهم عمرًا من قبل , ولتفكروا في رأس المائة وضرورة المجدد بما وعد الله
ورسوله [٥] , ولتفكروا في مفاسد الزمان وبدعاتها (كذا) ونسل النصارى من كل
حدب , فيا حسرةً عليهم إنهم ظنوا ظن السوء بغير فكر وتحقيق وإمعان , وما كان
لهم أن يتكلموا في المؤمن إلا بحسن الظن) إلى أن قال:
(وأما ما قلت في وفاة المسيح فما كان لي أن أقول من عند نفسي بل اتبعت
قول الله تعالى , وآمنت بما قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى
يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: ٥٥) فانظر كيف شهد الله على وفاته في كتابه المبين،
ومعلوم أن الرفع وتطهير ذيل المسيح من إلزامات اليهود وبهتاناتهم , وغلبة أهل
الحق وضرب الذلة على اليهود , وجعلهم مغلوبين مقهورين تحت النصارى
والمسلمين. لقد وقعت هذه الأنباء والمواعيد كلها , وتمت وظهرت, وما وقعت إلا
على صورتها وترتيبها , وقد انقضت مدة طويلة على ظهورها ووقوعها , فكيف
يعتقد عاقل بالغ ذو عقل سليم وفهم مستقيم بأن خبر التوفي الذي قدم على هذه
الأخبار في ترتيب الآية الموصوفة هو غير واقع إلى وقتنا هذا , وما مات عيسى
ابن مريم إلى هذا الزمان الذي فسد بضلالات أمته بل يموت بعد نزوله في وقت
غير معلوم ولا يخفى سخافة هذا الرأي على المتفكرين) .
(والقائلون بحياة المسيح لما رأوا أن الآية الموصوفة تبين وفاته بتصريح لا
يمكن إخفاؤه جعلوا يئولونها بتأويلات ركيكة واهية , وقالوا: إن لفظ التوفي في آية
{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران: ٥٥) كان مؤخرًا في الحقيقة من كل هذه
الواقعات , يعني من رفع عيسى وتطهيره من البهتانات ببعث النبي المصدق ,
وغلبة المسلمين على اليهود , وجعل اليهود من السافلين - ولكن قدم لفظ (المتوفي)
على لفظ (رافعك) وعلى لفظ (مطهرك) وغيرها مع حذف بعض الفقرات
الضرورية رعاية لصفاء نظم الكلام كالمضطرين - وكان اللفظ المذكور يعني إني
متوفيك في آخر ألفاظ الآية فوضعه الله في أولها اضطرارًا لرعاية النظم المحكم ...
والآية بزعمهم كانت في الأصل على هذه الصورة يا عيسى إني رافعك إليّ
ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ,
ثم منزلك من السماء , ثم متوفيك , فانظر كيف يبدلون كلام الله ويحرفون الكلم عن
مواضعه , وليس عندهم برهان على هذا , إن يتبعون إلا أهواءَهم , وما كان لهم أن
يتكلموا في القرآن إلا خائفين - وأنت تعلم أن الله منزه عن هذه الاضطرارات ,
وكلامه كله مرتب كالجواهرات (كذا) , والتكلم في شأنه بمثل ذلك جهالة عظيمة
وسفاهة شنيعة , وما يقع في هذه الوساوس إلا الذي نسي قدرة الله تعالى وحوله ...
وما قدره حق قدره , وما عرف شأن كلامه , بل اجترأ وألحق كلام الحق بكلام
الشاعرين) .
له بقية