بسم الله الرحمن الرحيم أبعث جزيل التحيات، ووافر السلام والتشكرات، لحضرة الشيخ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور، ووفقه وسدده في كل أحواله آمين، أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فالداعي لذلك ما اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام والمسلمين، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم، وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة، وأنعم عليكم بنعمه الظاهرة والباطنية، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًا واسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة بل دعاء الضرورة إليه ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين وراج عليهم من أصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة بسبب روجان كثير من الكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ككتب ابن سينا وابن رشد وابن عربي ورسائل إخوان الصفا بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبهها من الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر، وإنكار ما عُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثير من الصحف المصرية بل رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي قد ذكر في مواضع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئًا من ذلك ككلامه على استخلاف آدم وعلى قصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصول الفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخييلات وضرب أمثال لا حقيقة لها، وأنه يمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير أنه مناقض لدين الإسلام وتكذيب لله ورسوله، وذهاب إلى معانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادها وأن الله بريء منها ورسوله، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها، ويلومهم على إهمالها وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب إهمال علمها وعملها. وَيْح من قال ذلك، لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التي أوهنت قوى المسلمين وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدة الفلاسفة، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ويتأولون ما في الكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائد والشرائع فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان فعبَّر عنها الشرع بالملائكة كما أن الشياطين هي القوى الشريرة التي في الإنسان فعبَّر عنها الشرع بذلك، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسله أجمعين، ويتأولون قصة آدم وإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقة له، وإنما قصد به ضرب الأمثال، وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها بكثير، وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجرد تصورها، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع، وأنه لا يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبدًا، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسول صار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن. وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي: التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلها تخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ويلبسون على الناس بذلك ويتسترون بالإسلام، وهم أبعد الناس عنه كما ثبت أيضًا عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ويعظم الرسول وينقاد لشرعه وينكر على هؤلاء الفلاسفة ويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولا شعور لعدم علمه بما تؤول إليه ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه، ولتقليد من يعظمه وخضوعًا أيضًا، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لم يوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوسًا بزعمهم فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل، فالأمل قد تعلق بأمثالكم لتحقيق هذه الأمور وإبطالها فإنها فشت وانتشرت وعمت المصيبة بها الفضلاء فضلاً عمن دونهم، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون، وتقوم به الحجة على المعاندين، وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه والإشارة؛ لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم؛ لأن فيه الخطر العظيم على المسلمين، وإذا لم ير الناس لكم فيه كلامًا كثيرًا وتحقيقًا تامًا فمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار؟ والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وسلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم الداعي ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن بن ناصر السعدي (المنار) إننا لا نألو جهدًا في الرد على كل ما نطلع عليه من البدع المخالفة لكتاب الله والصحيح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة إليهما على الوجه الذي كان عليه جمهور السلف الصالح، وفي الرد على خصومهما كما يرى في مقالة أعداء الإسلام من هذا الجزء، والذي نعلمه أن بدعة وحدة الوجود وفلسفة اليونان في الإلهيات والرسالة التي فتن الناس بها الباطنية وغيرهم في عصرهم قد نسخت وزالت في هذا العصر فلم يبق لهم دعاة، وإن كان لها اتباع قليلون وتفسير الشيخ طنطاوي جوهري لم نطلع عليه وإنما رأينا جزءًا واحدًا منه عند أحد أصدقائنا فتصفحت قليلاً منه في بضع دقائق فرأيت أن همه منه حث المسلمين على علوم الكون وشرح الكثير من مسائلها بمناسبة الآيات التي ترشد الناس إلى آياته تعالى في خلقه ونعمه على عباده كما جرى عليه في كتب أخرى له، وما نعرفه إلا مسلمًا يغار على الإسلام ويحب أن يجمع المسلمون بين الاهتداء به والانتفاع بعلوم الكون التي تتوقف عليها قوة الدول وثروة الأمم في هذا العصر، ونحن قد سقناه بالدعوة إلى هذا، وبيناه بالدلائل في مواضع كثيرة من تفسيرنا من المنار وإن كنا أشرنا إلى الانتقاد على خطة الأستاذ المذكور في تفسيره فيما بيناه من أساليب المفسرين في فاتحة الجزء الأول من تفسيره ومراجعة ما كتبه من الآيات التي ذكرتموها. ويجب عليكم أن تفرقوا بين علوم الكون التي ندعو إليها وبين الفلسفة قديمها وحديثها، فالفلسفة آراء ونظريات فكرية، وعلوم الكون عبارة عن العلم بما أودع الله تعالى في خلقه من المنافع كمنافع الماء وبخاره والهواء وما تركبا منه ومنافع الكهرباء التي منها التلغراف والتليفون وغيرهما بجميع الصناعات العجيبة والآلات الحربية من برية وبحرية وهوائية وجميع العقاقير الطبية مأخوذة من هذه العلوم فهي حقائق قطعية ثابتة بالحس، فمن يزعم أنها تخالف ما بعث به الله رسله فقد طعن في دين الله وصد العلماء بها عنه؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكذبوا حواسهم. وأما كفر من يكفرون في هذا العصر فأكثره من تأثير فلسفة الإفرنج المخالفة لفلسفة اليونانيين ومن جرى على طريقتهم كالعرب، وإن خالفهم في بعض النظريات كابن سينا وابن رشد وغيرهما، والرد على هؤلاء بما يرجى أن ينفعهم أو يقي كثيرًا من الناظرين في فلسفة العصر من إضلالهم يتوقف أحيانًا على تأويل بعض الآيات والأحاديث تأويلاً ينطبق على مدلولات اللغة في مفرداتها وأساليبها ويتفق مع العلم والعقل. وليعلم أخونا صاحب هذه الرسالة أن الملاحدة والمعطلين في مصر وأمثالها قد يصرَّحون بكفرهم ولا يخشون عقابًا ولا إهانة فهم لا يحتاجون إلى التستر بالإسلام كزنادقة الباطنية المتقدمين، وقصارى ما يلقونه من النقد إذا صرَّحوا بكفرهم في الكتب أو الجرائد أن يرد عليهم بعض المسلمين بالكتابة والناس أحرار فيها، فإذا ادعى بعضهم مع نشر الكفر أنه مؤمن وجد من ينصره ويقول: إن ما كتبه لا ينافي الإيمان ولا يصادم الإسلام، ولم يصرح أحد من المصريين في هذا العهد بالطعن في الإسلام وتكذيب القرآن بمثل ما صرَّح به الدكتور طه حسين المشتغل بالجامعة المصرية تدريسًا وتأليفًا ولم يلق أحد من التكفير والتجهيل والطعن على ذلك مثل ما لقي من الكُتَّاب والمؤلفين من علماء الدين وعلماء الدنيا حتى اقترح بعض أعضاء مجلس النواب عزله من الجامعة فلم تعزله الحكومة؛ لأن أنصاره فيها كانوا أقوى من خصومه وكان منهم عدلي باشا رئيس الوزارة وثروت باشا وزير الخارجية الذي طرز الدكتور طرة كتاب الطعن باسمه، وعلي باشا الشمسي وزير المعارف وأحمد لطفي السيد مدير الجامعة. وقد بيَّنا في فاتحة تفسيرنا وفي مواضع أخرى منه مسألة التأويل فذكرنا أننا نلم بتأويل بعض الآيات لأجل الدفاع عن القرآن، ورد بعض الشبهات التي يوردها الفلاسفة أو غيرهم عليها حتى لا يكون لهم حجة مقبولة عليها مع تصريحنا بأن اعتقادنا الذي ندعو إليه ونرجو أن نموت كما نحيا عليه هو اتباع مذهب السلف في كل ما يتعلق بعالم الغيب من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وجنته وناره. والتأويل قد يكون المنقذ الوحيد لبعض الناس من الكفر وتكذيب القرآن؛ إذ من المعلوم أن الموقن بصدق القرآن لا يخرج من الملة بفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا لفهم غيره إذا لم يكن في فهمه هذا جحد لشيء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، ونرجو أن يقرأ أخونا صاحب هذه الرسالة الجزء الأول من تفسير المنار المشتمل على هذا البحث ويكتب إلينا بما يراه فيه، فإنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطلع بعض علماء نجد على المنار ويفتح بيني وبينهم البحث والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقدًا لينجلي وجه الصواب فيها، وقد كنت كتبت إلى إمامهم بذلك، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء ليوزعها على أشهرهم، وفعلت ذلك عدة سنين ولكن لم يأتني منه جواب، ثم ترجَّح عندي أن تلك النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سني الحرب وما بعدها.