الديموقراطية الحقيقية في الإسلام لسعادة الكاتب الجليل الأمير شكيب أرسلان
لما تأخر الإسلام سلبه الناس محاسنه الحقيقية بل سلبوه محاسن ثبتت له ولم تثبت لغيره، وهكذا شأن الضعيف في كل وقت، وهو أن يُسْلَب كل شيء حتى الحقيقة وحتى التاريخ. اطلعت في (الأخبار) في عددها المؤرخ في ٢٩ جمادى الأولى على مقالة عنوانها ملاحظات وتحقيقات توخى فيها محرِّرها الشيخ محمد السيد الطويل من القسم العالي بالأزهر إثبات روح الديموقراطية والحكم النيابي والنظام الشورى للشريعة الإسلامية والرد على من زعم أن الحكم النيابي إنما جاء من الغرب، وإننا إذا نظرنا إلى الوراء لا نجد شيئًا من روح الديموقراطية عندنا في الشرق. ولقد أتى صاحب الرد بآيات بينات على ديموقراطية الإسلام ووجوب الشورى في أحكامها مما لا حاجة معه إلى التكرار لكن أحببت بهذه العجالة أن أزيد الموضوع بيانًا فأقول لمن ظن أن الديموقراطية هي من وضع الأوربيين: إن الأمة الفرنسية كانت من القديم تنقسم في طبقاتها الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام: الأشراف والكهنة وسواد الأمة، ولكن لم تكن حقوق هذه الطبقات واحدة، وكان الأشراف يستبدون بالعامة كما يشاءون وكذلك الإكليروس أي الكهنة كانت لهم امتيازات عظيمة، والشعب إنما كان آلة يستخدمها في مصالحه الملك وكل من الأمراء أصحاب الإقطاعات، وما زال الأمر كذلك إلى زمان لويس الثالث عشر إذ حصلت أزمة اقتصادية احتاجت المملكة بها إلى عقد مجمع من الطبقات الثلاث للمذاكرة في تسديد الأمور؟ فاجتمعوا في سنة ١٩١٢ أو ١٩١٣ لا أتذكر الآن جيدًا تاريخ ذلك المجمع العام، وفي أثناء المذاكرات تلفظ أحد نواب الشعب بجملة معناها أن الأمة الفرنسية عائلة واحدة، فما كادت تخرج تلك الكلمة من فيه حتى قامت قيامة الأشراف. التفت إليه أحدهم قائلا: (ويحك أتجرؤ أن تقول: إن الأمة الفرنسوية عائلة واحدة، وبذلك تجعلنا أقارب لكم، ما أنتم إلا خدم عندنا) ثم إنهم عندما أرادوا إعطاء الآراء لم يقبل الأشراف أن يكون لنواب الشعب حق التصويت على قاعدة المساواة في الأصوات أي أن صوت النائب الشعبي يكون مساويًا لصوت النائب النبيل. وبقي هذا الحق منكرًا على الشعب إلى زمن لويس السادس عشر أي زمن الثورة الفرنسوية عندما نالوه بالقوة. فليذكر لنا التاريخ من أوله لآخره نادرة واحدة للإسلام مثل هذه النادرة، ومتى تجرأ مسلم خليفة كان أو ملكًا أو أميرًا من الأمراء أو شريفًا من آل البيت على أن ينكر على أقل مسلم كونه أخًا له. وليقس القارئ هذه النكبة بنكبة الملك الغساني جبلة الذي كان نصرانيًّا وأسلم في زمن عمر وجاء يطوف البيت الحرام فداس أعرابي على ثوبه فالتفت نحوه ولطمه، فذهب الأعرابي إلى الخليفة عمر وشكا إليه لطم جبلة إياه فأمر الخليفة بإحضار هذا أمامه، وقال للأعرابي: إن شئت الطمه كما لطمك. فقال جبلة لعمر: (أيستوي عندكم الملك والسوقة؟) فقال له: (نعم) فذهب جبلة بعد ذلك إلى الشام ومنها التحق بالقسطنطينية ورجع إلى النصرانية. وليتأمل القارئ كيف كان عمر يقيم الحد على أولاده حتى الموت، وليتأمل كيف أن الشريعة لم تجعل لأحد على أحد مزية ولا امتيازًا، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: لو سرقت فاطمة بنت محمد لأمرت بقطع يدها [١] . وليقايس بين ذلك وبين قوانين الأوربيين الأساسية التى فيها أن الملك مقدس وغير مسؤول، وإذا قيل: إن الرق قد وجد في الإسلام، فالجواب أنه لم يوجد فضيلة حث عليها الإسلام بصريح القرآن ومتواتر السنة أكثر من تحرير الرقيق، على أن النصرانية لم تنكر الرق كما ظهر من كلام بولس الرسول. وإن كانوا في أوربا قد اتفقوا مؤخرًا على إلغاء الرق فلا يجوز أن ننسى أن الشعب الروسي إلى زمان الإمبراطور بولس كان رقيقًا لأمرائه، وأن النبيل كان إذا باع قرية يملكها يبيعها مع الأهالي الذين فيها لا يملكون لأنفسهم أمرًا بل حكمهم كان حكم الحيوانات التي في القرية، هذا كان شأن الأمة الروسية منذ ١٥٠سنة لا زيادة، ولا يجوز أن ننسى أن الفرنسيس بعد أن تمكنوا من طرد المسلمين من جنوبي فرنسا استعبدوا البقية التى بقيت من المسلمين، واغتصبوا أملاكهم، واستعملوهم خولاً وخدمًا مدة طويلة حتى اندمجوا في غمار الأمة الفرنسية، وتُنوسيت أصولهم، ولا يجوز أن ننسى أن الحرب قامت في أمريكا من سنة ١٨٦٣ إلى ١٨٦٦ من أجل تحرير العبيد، وأن الأميركيين سكان جنوبي الولايات المتحدة حاربوا سكان شماليها مدة سنوات عديدة من أجل إصرارهم على استعباد السود، وكذلك إلى هذه الساعة، وقد رأيت ذلك بعيني في سياحتي إلى أميركا في الشتاء الماضي، لا يقدر السود أن يجالسوا البيض ولا في مكان. وفي الولايات الجنوبية للسود قُطُر مخصوصة يركبون فيها بالسكة الحديدية ومقاعد انتظار في المحطات خاصة بهم بحيث لا يختلطون مع البيض، بل أولادهم لا تقدر أن تتعلم مع أولاد البيض في مدارس واحدة وكنائسهم أيضًا لا يدخل إليها البيض. وفي أفريقيا الرسالات التبشيرية منذ قرنين أو ثلاثة تعمل لتنصير السود وقد تمكنت إلى هذا اليوم من تنصير ثمانية ملايين في غربي أفريقيا وجنوبيها وأواسطها. وقد نصت كتب أعمال الرسالات الدينية المذكورة على أنه في مدة الثلاثة القرون التي استمر بها التبشير الديني لم يعهد أن مبشرًا اقترن بامرأة سوداء إلا اثنين أو ثلاثة؛ ذلك لأن الأبيض يأنف من التنزل إلى خلط دمه بدم الأسود، أقول الأبيض والأسود كلاهما خلقه الله تعالى، وكلاهما بشر ويمشي بحسب قول نبيه: (إنما بعثت إلى الأحمر والأسود) ويتذكر كتابه الذي فيه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) فإذا كان المبشر الأوربي الذي يعظ طول النهار في أباطيل الدنيا، وفي العدل والمساواة هو نفسه لا يتنزل إلى خلط نسبه بنسب أولئك الذين يعظهم ويرَّغِبهم في قبول دينه، فكيف تكون حالة التاجر الأوربي أو الحاكم أو الجندي الذي ليست مهنته التبشير؟ لا جرم أن مبدأ المساواة هو أبعد المبادئ عن عقلية الأوربيين، وإن كانوا قرَّروها في الأعصر الأخيرة، فإنما قرروها فيما بين شعوبهم، ولم يكونوا ليعترفوا بها للشعوب الأخرى، وإنني لأتعجب ممن يقول: إن آثار الرقي التى شوهدت في الشرق في الخمسين سنة الأخيرة إنما هي ثمرة إدخال القانون الروماني في إدارة الشرق. فأنا أقول لمثل هذا: أين كان القانون الروماني في أوربا، وفي فرنسا بخاصة عندما كان لا يجرؤ أحد نواب الشعب في هذه المملكة أن يقول: إن الأمة الفرنسية عائلة واحدة حتى تقوم قيامة الأشراف ويعتدوا تلك الكلمة كفرًا؟ هل كانت فرنسة غير مملكة رومانية لاتينية روح رومة وثقافتها وقوانينها منبثة في جميع شعاب إدارتها؟ إن الكاتب الفيلسوف الإنكليزي المستر ولسن عندما جاء منذ أشهر إلى باريس واحتفل أدباء الفرنسيس بتكريمه في السوربون وخطبوا الخطب الشائقة وجاوبهم بخطبة عن الديموقراطية الحقيقة نشرتها الجرائد كان من جملة قوله فيها: (إن الديموقراطية الحقيقة لم تثبت إلا للإسلام والنصرانية) . وأنا أقول: إن شهادته بها للإسلام هي أغلى جدًّا من شهادته بها للنصرانية التى هي مذهبه ومذهب أمته ومذهب الأمة التى كانت مختلفة في تكريمه. فالإسلام يشهد له كثير من فلاسفة الأوربيين بالديموقراطية الصحيحة مع قصور معلوماتهم عنه وينكرها عليه أناس من أبنائه، لا بل وينسبون إلى غيره محاسنه ويجردونه من المزايا التى فُطِرَ عليها. وهكذا أولعنا بتشويه محاسن أنفسنا وبجحد فضائل قومنا وبنحل غيرنا ما هو في الحقيقة لنا، وصرنا - لمجرد أن نُنعت بالرقي - نقلب حسنات أجدادنا سيئات، ونقلب سيئات الأوربيين حسنات، أو نتعامى عنها أو نتلمس لها عذرًا، هكذا. يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن برلين ٤ ديسمبر ١٩٢٧ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان