للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين القاسمي


تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]

(١٢)
ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب
(قال الإمام الغزالي) في إحياء علوم الدين: وأما الكلام - أي علم
الكلام - فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا
غير.
(ثم قال) : ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع، ومعارضة بدعته بما يفسدها
وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم. وأما
المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئًا يسيرًا، فقلّما ينفع معه الكلام، فإنك إن
أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جوابًا ما،
وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا صرف عن
الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد
تعصبهم وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من
آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين
بعين الازدراء والاستحقار، فينبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة،
وتتوفر دواعيهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا
إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض
التعصب والتحقير، لأنجحوا فيه؛ ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا
يستميل الاتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم
وآلتهم، وسمّوه ذبًّا عن الدين، ونضالاً عن المسلمين، وفيه - على التحقيق -
هلاك الخلق، ورسوخ البدعة في النفوس. اهـ.
(وقال الغزالي) - رحمه الله - أيضًا؛ في الجدل المذموم ومضراته: وله
ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث
دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه؛ قال: ولكن هذا الضرر بواسطة
التعصب الذي يثور من الجدل، ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده
باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب،
فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره، بل
الهوى والتعصب وبعض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه،
ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء،
ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك؟ لكره ذلك خيفة أن يفرح به خصمه (قال)
وهذا هو الداء العظيم الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره
المجادلون بالتعصب فهذا ضرره. اهـ.
وقال العلامة المقبلي في العلم الشامخ: واعلم أن الخلاف والتعصب والتحزب
هو الذي حمل سيوف بعض المسلمين على بعض، وحلل دماءهم وأموالهم
وأعراضهم، وحرف الكتاب والسنة، ثم صيَّرهما كالعدم بسد باب الاجتهاد اهـ.
و (قال أيضًا) : ثم ترتب على الافتراق تقويم كل لعمود الشقاق، وصار كل
منهم إنما يعتز بمن مال إليه من الملوك على خصمه. اهـ.
وبالجملة فمن أعظم آفات التعصب ما نشأ عنه من التفرق والتعادي، بحيث
صار يرثه المتأخر عن المتقدم، حتى أصبح يبغض القريب قريبه إذا وجده يخالف
رأيه، ويلصق به كل تهمة شنعاء ولو أقام على صحة رأيه مئين من البراهين؛ بل
بلغ احتقار بعضهم لبعض مبلغًا دفع به أن يحنق على مخالفه، ويتحين الفرص
للإيقاف به، حتى إذا بدرت منه هفوة، أو ظهرت زلة - ولا معصوم إلا المعصوم -
رفع مخالفه عقيرته بتأنيبه، وملأ الأرض والسماء صراخًا بتشهيره، غير مبال
بما حظره الشرع مما يولد البغضاء والشحناء، ويفكك عرى الإخاء، ولا ملام على
الدهماء من ترويج مثل هذه الخطة الشائنة لغرقهم في بحار الجهل، وإنما يلام قادة
الأفكار على احتذائهم هذا الحذو، ونسجهم على هذا المنوال، إذ لولا صخب هؤلاء
الرهط، وبثهم هذه الألقاب في النفوس، لكانت الأمة متماسكة الأجزاء، متينة
عرى المحبة بين الأفراد.
نعم؛ لا بأس أن تُنْتَقَدَ الأَقْوَالُ، وتُضَعَّفَ بالبُرْهَانِ، ويُوَضَّحَ كلُّ خَطَأٍ يَنْجُمُ
عنها؛ ولكن الذي يجب التوقي منه هو أن يتشاحن قادة العقول ويتطاحنوا
ويتبغضوا لما لا يصح أن يكون سببًا معقولاً، وأن يثب كلٌّ على مخالفه وثبة الغادر
المنتقم، فيود أن ينكل به أو يمزقه شر ممزَّق، فيقتفي أثرهم مقلدها، فتصبح الأمة
أعداءً متشاكسة، وأحزابًا متنافرة، بشؤم التعصب الذميم، الذي لم يتمكن من أمة
إلا وذهب بها مذهب التفرق والانحطاط، وأضعف قواها، وأحاق بها الخطوب
والأرزاء، فمن الواجب العلم على ملاشاة الشحناء والشقاق، والقيام بالتحابّ
والاتفاق، وبالله التوفيق.
(١٣)
حظر الأئمة للمحققين، رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق
من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية، رمي بعضها بعضًا بالفسق والكفر،
مع أن قصد كلٍّ الوصول إلى الحق، بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده، والدعوة
إليه، فالمجتهد منهم - وإن أخطأ - مأجور (وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية) في
كتابه موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول [١] عن الإمام الرازي (في نهاية العقول)
في مسألة التكفير ما مثاله: قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب (مقالات
الإسلاميين) : اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلّل فيها بعضهم بعضًا وتبرّأ
بعضهم من بعض فصاروا فرقًا متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم. فهذا
مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب من كفر المخالفين.
وأما الفقهاء، فقد نقل عن الشافعي - رضي الله عنه - قال: لا أردّ شهادة أهل
الأهواء إلا الخطّابية [٢] ، فإنهم يعتقدون حل الكذب. وأما أبو حنيفة رضي الله عنه،
فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر
أحدًا من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك.
وأما المعتزلة، فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفّروا أصحابنا في
إثبات الصفات وخلق الأعمال. وأما المشبِّهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن
المعتزلة، وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفِّر من يكفِّرني، وكل مخالف يكفرنا
فنحن نكفره وإلا فلا.
ثم قال الرازي: والذي نختاره أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة، والدليل عليه
أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل أن الله تعالى هل هو مُوجِدٌ لأفعال
العباد أم لا؟ وأنه هل هو متحيز، وهل هو في مكانٍ وجِهَة، وهل هو مرئيّ أم لا؟
لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول
باطل؛ إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين، لكان الواجب على النبي -
صلى الله عليه وسلم - أن يطالبهم بهذه المسائل؛ بل ما جرى حديث من هذه
المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم،
علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن
الخطأ في هذه المسائل قادحًا في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير
أهل القبلة. اهـ.
ثم قال الإمام ابن تيمية بعد ذلك: (والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:
مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب باعتبار معناه
وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحًا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذمًّا
استحق الذم، وإن أثبت شيئًا وجب إثباته وإن نفى شيئًا وجب نفيه؛ لأن كلام الله حق
وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق. ومن دخل في اسم مذموم في الشرع
كان مذمومًا؛ كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في
الشرع كان محمودًا كاسم المؤمن والتقيّ والصدّيق ونحو ذلك) .
وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم
والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض
بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعَرَض،
فمن كانت معارضته بمثل الألفاظ؛ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما
يبين الشرع أنه كفر؛ لأن الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل
قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرًا في
الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابًا في العقل يجب في الشرع معرفته، ومن
العجب قول من يقول من أهل الكلام: أن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم
الكلام الذي يعرف بمجرد العقل، وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات
عندهم، وهذه هي طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب
الإرشاد وأمثالهم، فيقال لهم: هذا الكلام يتضمن شيئين: أحدهما أن أصول الدين هي
التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع، والثاني أن المخالف لها كافر، وكل من
المقدمتين وإن كانت باطلة، فالجمع بينهما متناقض، وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل
لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم
إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن
متابعته، مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود، ونحوهم.
وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول لا بمجرد ما يعلم بالعقل، فكيف
يجوز أن يكون الكفر بأمور لا تعلم إلا بالعقل؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور
التي لا تعلم إلا بالعقل كفر، فيكون حكم الشرع مقبولاً، لكن معلوم أن هذا لا يوجد
في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق
بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع
تصديقه وطاعته.
ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعًا
بآرائهم، وليس فيها كتاب ولا سنة، ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، وهذا
حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميها هو تركيبًا وتجسيمًا
وإثباتًا لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعها الجهمية
والمعتزلة ثم كفَّروا من خالفهم فيها. اهـ كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله.
ولب هذا كله قوله: (فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع
تصديقه وطاعته) وما ذكره ونقله قبل هو الفيصل في هذا الباب.
وقال رحمه الله في شرح الأصفهانية: (خاصة أهل السنة المتبعين للرسول -
صلى الله عليه وسلم - هي أنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاد، حيث
عذره الله ورسوله) اهـ.
وإنما رحموه لأنهم تجمعهم أخوة الإيمان، وقد قال تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: ٢٩) ، فالمؤمنون مهما اختلف اجتهادهم، وتباينت مداركهم، فهم إخوة
يتراحمون، يتآلفون ولا يتباغضون، ولا يلزم من اختلاف الرأي اختلاف القلوب،
وبالله التوفيق.
(١٤)
بيان أنه لا تضليل، لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل
قدمنا أولاً أنا لم نرد في هذه الورقات ذكر عقائد الجهمية والمعتزلة، ولا
مناقشتهم؛ لأن لذلك مواضع معروفة، لا سيّما وهذا المقام طويل الذيل، متشعب
المناحي، ويكفي أنه لأجله صنّف ودوّن علم الكلام، وإنما أردنا تعرف شأن هاتين
الفرقتين من الوجهة التاريخية، وقد أتينا على جمل منها.
بقي التنبيه على النصفة مع مجتهدي فرق الإسلام ومجافاة التضليل عن كل
من التزم قانون التأويل، فنقول: قد وقَرَ في قلوب كثير من الناس رمي أمثال
المعتزلة بالمروق والضلال والزيغ، تقليدًا لمن ينبزهم بذلك من حشوية المتفيهقين،
وهذا من أغرب الغريب، إذ كيف يصح هذا وكان القائمون بمذهب المعتزلة خلفاء
الإسلام في العهد العباسي، وقضاتهم وعدة من علمائهم؟ وهم يحتجون لما يدعون،
ويبرهنون على ما يذهبون، لا جرم أنهم - وإن أخطؤوا - لمجتهدون.
وممّا يدل على أن هذا العقد بلغ تمكن صحته من نفوسهم منتهاه من اليقين
حملهم الخلفاء على إكراه الناس عليه ابتغاء نجاتهم - بزعمهم - بتصحيح عقيدتهم
على ما يرون، وجليّ أن كل من استدل على ما يراه، واحتج على دعواه، فقد آذن
في اجتهاده فيه، وتحرى الحق فيما يقصده ويبغيه، فقصارى أمره إذا نقض برهانه
ودحضت حجته؛ أن يكون مجتهدًا مخطئًا، وهو معذور بل مأجور، إذ لم يرد إلا
الحق، فمن أين يسوغ بعد ذلك قرض الأعراض بالتضليل والتفسيق، وتثوير
المنبوز على المقابلة بالمثل بل الأمثال، والخروج بالإقذاع عن آداب
المناظرة والجدال.
إنَّ نبز الفرق المتجادلة بتلك الألقاب أوجب أن تصرف الألباب عن النظر في
أدلة كل منها، لتزن المقبول منها بمعياره، والمردود بمقداره؛ لأنها حاولت الضغط
على الأفكار، وحرمانها من حرية البحث والنظر والتأمل، لتحملها على رأي واحد،
ومذهب منفرد، وذلك ما كان ولن يكون.
إن اختلاف الآراء لا يدعو بطبيعته إلى الحفائظ والأضغان، وغرس الأحقاد
والشنآن، ولكن أكثر الفرق استولت على مناظرتها الضغائن، فذهبت بهم مذهب
التشفي والانتقام، هذه بالنبز بالألقاب السوء، وتلك بها أو بسلطتها الجائرة،
واضطهادها لمخالفيها بضروب العذاب.
من عجيب أمر التنابز، أن الإغراق فيه قد يغري خلي الذهن بالبحث عن المنبوز
والتنقيب عنه، فيحمله على التأمل في مداركه، والتبصر في مآخذه، فربما انضم
إليه وشايعه تقليدًا أو نظرًا واستدلالاً.
فالمتحاملون على فئة قد يحببون فيها من حيث يريدون التنفير منها، ويجذبون
إليها مما يأملون به الإبعاد عنها، ويصدق فيهم قول القائل:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
هؤلاء المتحاملون يرون أعظم منفر عن خصومهم هو التكفير، وفاتهم أن هذا
لا يغني من البرهان، ولا يجزئ من الحق شيئًا؛ بل قد يكون من أعظم أمانيّ
الخصوم، فإن الفكر الذي يحارب بهذا الاسم ربما يكون قد بلغ أشُدَّه واستوى،
ووصل إلى أعماق الرسوخ ورسا.
ولمّا حاول أعداء حجة الإسلام الغزالي - عليه الرحمة والرضوان - رميه
بالكفر (وما أسهل رميهم به لأمثاله) لمخالفته الأشعري، انتدب لتأليف كتاب يهدي
إلى حقيقة الكفر والزندقة، سمّاه (فيصل التفرقة، بين الإسلام والزندقة) ، قال في
خطبته: فهوِّن أيها الأخ المشفق على نفسك، لا يضيق به صدرك، وفلَّ من غربك
قليلاً، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً، واستحقرمن لا يحسد ولا
يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا يعرف [٣] .
ونقل الإمام الغزالي أيضًا في المستصفى أن عليًّا - كرم الله وجهه - استأذنه
قضاته في البصرة في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردّها،
فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب؛ لأنهم حاربوا على تأويل، وفي رد شهادتهم
تعصب وتجديد خلاف. اهـ.
فانظر كيف تسامح مع أهل التأويل من المبدعين وقبل شهادتهم وزكاهم
وعدلهم، فهل يصح بعد هذا النبز بالتفسيق أو التضليل؟ حاشا وكلا! وهذا لمن
عرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال، والله المستعان.
(١٥)
ما وصى به الأئمة من اطِّراح أقوال العلماء بعضهم في بعض،
ومن التماس الحكمة أينما وجدت
روى الإمام حافظ المغرب يوسف بن عبد البر في كتابه (جامع العلم وفضله)
في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض عن ابن عباس - رضي الله عنهما -
قال: استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض.
وعنه - رضي الله عنه - قال: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول
الفقهاء بعضهم على بعض.
وعن مالك بن دينار قال: يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض.
وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من
الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم الغنيمة، وإذا لقي من هو
مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يُزْهَ عليه، حتى كان هذا الزمان، فصار
الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة
إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه، فهلك الناس.
(قال الإمام ابن عبد البر) : لقد تجاوز الناس الحد في الغِيبة والذم فلم
يقنعوا بذم العامّة دون الخاصة ولا بذم الجهّال دون العلماء، وهذا كله يحمل عليه
الجهل والحسد. ثم قال رحمه الله: ومن صحت عدالته، وعُلمت بالعلم عنايته،
وسلم من الكبائر ولزم المروءة، وكان خيره غالبًا، وشره أقل عمله، فهذا لا يقبل
فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله.
(وقال الذهبي) في ميزان الاعتدال - في ترجمة أبي نعيم أحد الأعلام:
صدوق تكلم فيه ابن منده بلا حجة كما تكلم هو في ابن منده. (قال الذهبي) : ولا
أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان. ثم قال: وكلام الأقران
بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ما
ينجو منه إلا من عصم اللهُ (قال) وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من
ذلك سوى الأنبياء والصديقين فلو شئت لسردت من ذلك كراريس. اهـ.
قال العلامة المقبلي: وأشدها عداوة ما كان من قبل المذهب لأنه يزعمه دينًا،
ويمرن عليه فيغر نفسه أنه دين، وحظ الهوى في ذلك أوفى وأوفر، نسأل الله
العافية، وأن يجعلنا ممن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
وروى الإمام ابن عبد البر في كتاب (جامع العلم) في باب الحال التي ينال
بها العلم، عن علي - كرم الله وجهه - قال: العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من
أيدي المشركين ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه. وعنه كرم الله
وجهه قال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشُّرَط.
وروى ابن عبد البر قبل هذا الباب عن أيوب قال: إنك لا تعرف خطأ معلمك
حتى تجالس غيره. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الناس أبناء ما يحسنون،
وقدر كل امرئ ما يحسن؛ فتكلموا في العلم تتبين أقداركم.
قال ابن عبد البر: إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما يحسنه)
لم يسبقه إليه أحد (قال) وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها (وقالوا)
ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأولُ للآخر شيئًا)
قال ابن عبد البر: قول علي - رضي الله عنه - (قيمة كل امرئ ما يحسن)
من الكلام المعجب الخطير وقد طار له الناس كل مطير، ونظمه جماعة من
الشعراء إعجابًا به، وكلفًا بحسنه، فمن ذلك ما يعزى إلى الخليل بن أحمد وهو
قوله:
لا يكون السّريّ مثلَ الدّنيّ ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبِيّ
لا يكون الألدُّ ذو المقول المر ... هف عند القياس مثل العَييّ
قيمة المرءِ كل ما يحسن المر ... ءُ قضاء من الإمام عليّ
وقال غيره:
يلوم على أن رحت للعلم طالبًا ... أجمع من عند الرواة فنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه
وقال أبو العباس الناشئ:
تأمل بعينيك هذا الأنا ... م فكن بعض من صانه عقله
فحلية كل فتى فضله ... وقيمة كل امرئ نبله
فلا تتكل في طلاب العلا ... على نسب ثابت أصله
فما من فتى زانه قوله ... بشيء يخالفه فعله
ومما ينسب لعلي رضي الله عنه:
الناس من جهة التمثال أكْفاء ... أبوهم آدم والأم حواء
وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودَعات وللأحساب آباء
فإن يكن لهم من أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء
وأن أتيت بفخر من ذوي نسب ... فإن نسبتنا جود وعلياء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقيمة المرء ما قد كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
فقم بعلم ولا تبغ به بدلا ... فالناس موتى وأهل العلم أحياء
وقد ورد في هذا الباب ما رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة -
رضي الله عنها - قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل
الناس منازلهم. نسأله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: ١٠) .
في جمادى الأولى سنة ١٣٣٠