قد رأى قراء المنار ما أفتينا به في الجزء الرابع في بدعة زيادة بعض المؤذنين في آخر الآذان، وهو أنها بدعة في شعار ديني محض تدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ولكن مجلة مشيخة الأزهر أفتت بأنها بدعة حسنة، ولما رآه مفتيها بهذه البدعة كفتاويه بما هو أضل منها من البدع انقطع في بيته وعكف مع بعض أعوانه على مجلدات المنار يبحث فيها عن أمور يتخذها مطاعن على صاحب المنار، وجمع ما وجده قابلاً للتحريف والشبهة مما صادفه فيها في مقال طويل بدأ بالاحتجاج لبدعة الأذان بطريقته الأزهرية في المراء وجدل الألفاظ وإيراد الاحتمالات. وقفى على ذلك ببهائت بهت بها صاحب المنار وافترى عليه بأنه كذَّب الله ورسوله وخطَّأهما وخالف الإجماع ورد الأحاديث الصحيحة اتباعًا لهواه، وأنه ليس لكتاب الله وسنة رسوله عليه سلطان، وأنه أنكر وجود الملائكة بتقريره أنهم عبارة عن القوى الطبيعية، وأنكر وجود الجن وزعم أن الجن عبارة عن الميكروبات، وأنه يتأول القرآن بما ينافي اللغة والدين والعقل تقربًا إلى الماديين لا لشبهة علمية، وأنه ليس عنده أدنى استعداد للعلم والفهم، ولا للمنطق والعقل، ولا للأدب والذوق، وأنه من دون ذلك كله أفتى تلاميذ المدارس النصرانية من المسلمين بالصلاة مع النصارى في كنائسهم لأجل تنشئتهم على دين النصرانية عقيدة ووجدانًا، يعني مفتري هذا البهتان أن صاحب المنار لا غرض له من إنشاء مناره ولا من تفسيره لكتاب الله تعالى إلا هدم دين الإسلام وتحويل المسلمين عنه إما إلى النصرانية وإما إلى المادية، وأن ما اشتهر به في العالم الإسلامي، بل في العالم كله حتى مستشرقي الإفرنج ووزارات أوربة الخارجية والاستعمارية المشتركة فيه من أنه داعية الإسلام والمحامي عنه في هذا العصر، والذي استطاع أن ينزهه عن البدع والخرافات ويوفق بينه وبين أعلى ما وصل إليه البشر من الارتقاء في العلم والعمران - فهو اشتهار باطل؛ لأن هذا المحرر في مجلة الأزهر وهو من هيئة كبار علمائه الرسمية قد علم من حقيقة هذا الرجل وفهم من مجلته وتفسيره ما لم يعلمه ولم يفهمه أحد، كلا إنه ظن أنه يقدر على هدم منار الإسلام بمقالة أو مقالات في مجلة مشيخة الأزهر انتقامًا لنفسه ولها، وما هو بهادم إلا لنفسه ولها، فقد كانت بما يسخمها به من تأييد البدع والخرافات، ثم بهذه الشتائم والمفتريات فضيحة للأزهر الذي يريد الاعتزاز باسمه وبمشيخته الرسمية. ظهر مقاله في الجزء الذي صدر في غرة جمادى الأولى، وكان هذا الجزء من المنار قد حُرِّر ليصدر في سلخ ربيع الآخر وطُبع أكثره فأخَّرته ليصدر في سلخ جمادى الأولى، فأرى في أثناء الشهر ما يكون من أمر هذا الحدث الجديد في مشيخة الأزهر. أما كاتب المقال فقد سبق له مثل هذا التصدي للتعدي منذ ١٦ سنة فلم أكترث له، ولا رأيته أهلاً للرد عليه، فهو غير كفؤ للمبارزة بعلم ولا أدب ولا بصدق في القول ولا أمانة في النقل ولا إخلاص في النية، وأما مشيخة الأزهر فهي كفؤ لمنازلة المنار، بغير هذا الفارس العاجز المغوار، ولا يشعر صاحبه بأقل ضعف عن هذه المنازلة في حدود العلم والدين وآدابه؛ ولكنه في منتهى الضعف والعجز عن كتابة جملة واحدة من أمثال هذا المقال الذي افتتحت الحرب به، وله - إذا ولاها الدبر - أسوة بجده علي أمير المؤمنين حين تولى عن عمرو! على أنه رأى وجوب التروي في النضال العلمي حتى يعلم تعمد المشيخة له. بدأت بكتابة مقال في الدفاع عن حقي وحق القراء الذين اطلعوا على الطعن عليَّ في تلك المجلة ليعلموا ما عندي من الدلائل على تفنيد الافتراء عليَّ، والقول الحق في التهم التي نسبت إلي، وأرسلت المقال إلى رئيس تحرير المجلة، ولزيادة التحري سألت صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية عن هذا الحدث الجديد لثقتي بعلمه وصدقه وإخلاصه على قلة الجامعين لهذه الفضائل الثلاث، سألته بالمسرة (التلفون) هل رأيت الجزء الجديد من مجلة المشيخة؟ قال: لا، قلت: انظره فإن فيه كيت وزيت، ثم علمت أنه قرأ المقال فتفظعه، ففزع به إلى شيخ الأزهر فأفزعه بموافقته إياه على استنكاره، ووجوب تلافيه بالسعي إلى الصلح بين الطاعن والمطعون، والاتفاق بين الغابن والمغبون، فبادر المفتي إلى هذا السعي الحميد الموافق لطبعه وكاشفني بذلك بالمراسلة فالمكالمة بالمسرة فزيارتي للمشافهة بذلك في دار المنار، وأكد لي خبر استياء الأستاذ الأكبر كاستيائه مما حصل ورغبته في الصلح، وإعطائي الحق في الدفاع عن نفسي في مجلة نور الإسلام، على الوجه الذي ارتضيته لنفسي من نفسي وهو اجتناب الطعن الشخصي في كاتب المقال بمثل طعنه علي ولا بما هو دونه، وذلك بأن أذكر التهم التي اتهمني بها وأرد عليها، واقترح أيضًا أن أنقح مقدمة المقالة التي أرسلتها إلى المجلة فوعدته بذلك، وقال: إنه هو والأستاذ الأكبر يكفلان إرضاء الطاعن بالصلح، وحمله على كتابة شيء يرضيني، قلت: إن ذلك خير له ولمشيخة الأزهر ومجلتها، وهو لا يهمني. أرسلت مقالة الرد إلى رئيس تحرير المجلة المذكورة في ١٤ جمادى الأولى وتلاه السعي إلى الصلح إلى أن دخل الشهر الذي بعده وقد صدرت في غرته المجلة وفيها مقالة أخرى في الطعن على صاحب المنار، وقد كثرت في الشهر مكاتبة الناس إياي بوجوب الرد على هذه المجلة وجاءتني مكتوبات في ذلك من مصر ومن الحجاز بعضها في الرد وبعضها في انتظار الرد مني، وأنشأ بعض العلماء يردون عليها في الجرائد، وأنا لا أزال أنتظر ثمرة سعي الأستاذ المفتي إذ وعدته بالإمساك عن النشر فيها إلى أن تظهر لي النتيجة لهذه المقدمات، وقد تأخر إصدار هذا الجزء إلى أن ظهرت نتيجة الصلح بنقض الخصم له يوم عقده وبقيت نتيجة ما يضمره شيخ الأزهر من خبيء في المسألة فهي خبأة طلعة وقد شرعت في الرد على مجلتها، فلينتظر قراء المنار الجزء الآتي. ولي أن أقول الآن إن هذا الطعَّان الشيخ يوسف الدجوي لجدير بلقب صديقه وإمامه المرحوم الشيخ يوسف النبهاني؛ ولكن النبهاني كان يفوقه في الأدب، وهذا يفوقه في السباب والمراء والجدل، فهو من الذين قال فيهم الأستاذ الإمام: (إنهم يتعلمون كتبًا لا علمًا، وإنه لم يبق عندهم إلا تحاور في الألفاظ أو تناظر في الأساليب في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور) وهو لم يحذق شيئًا من تلك الكتب التي حذقها كثيرون منهم؛ ولكنه حذق شيئًا آخر ما أسف إليه أحد منهم فيما نعلم وهو ما يجد الناس نموذجه في مقالاته الدالة على أنه ليس له أدنى حظ من العلوم التي يجادلنا في مسائلها وهي التوحيد والتفسير والحديث والبدع والسنن، وكأني بقارئ بهائته يتلو قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: ٨) .