للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحريق في ميت غمر

(ميت غمر)
بلدة في مديرية الدقهلية أصابها في آخر الشهر الماضي حريق دمر الدور،
وقوض القصور، والتهم الأثاث والرياش، ولم يبق على الناس إلا من لجأ إلى الفرار
قبل أن تحيط به النار، فيأخذه لسانها، أو يخنقه دخانها، ويقال: إن عدد البيوت
التي أحرقت بأهلها إلا من أنجاه الله تقارب ٥٠٠، وإن الخسائر تقدر بمئات الألوف
من الجنيهات. وقد كان الهول عظيمًا، والخطب جسيمًا، وقد كاد يكون حال الذين
نجوا شرًّا من حال الذين فقدوا، فإن عذاب ساعة وإن كان شديدًا دون العذاب
المستمر الذي يتلون ألوانًا كثيرة، وكيف حال من أمسى واجدًا فأصبح معدومًا،
وكان كاسيًا فصار عاريًا، وكان ذا مكان آهل، فعاد ولا مكان ولا أهل. صار
الزوج أيّمًا، والمرأة أرملة، والولد يتيمًا، كما صار الغني فقيرًا والعزيز ذليلاً.
وما من هؤلاء أحد إلا وقد لفحته النار أو لذعته أو أحرقت له عضوًا، وحاصل
القول أن هؤلاء الذين سلموا من هذا الحريق قد صبت عليهم جميع المصائب التي
تفرقت في العالمين فكان كل واحد منها باعثًا للرحمة والشفقة وسببًا للإغاثة والإعانة.
وقد توجهت النفوس لجمع الإعانات لهم ولا شك أن الباخل في هذا الموضوع هو
أبخل الناس بل هو من جنس الجماد، لا من نوع الإنسان ولا من جنس الحيوان.
لا عذر لأحد من خلق الله في البخل على هؤلاء {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ
عَن نَّفْسِهِ} (محمد: ٣٨) فمن وجد في قلبه قساوة وفى نفسه شحًّا مطاعًا وفي يده
انقباضًا وإمساكًا فليمثل في نفسه هذا المصاب واقعًا به وبأهله، والناس معرضين
عنهم لا يجودون عليهم بشيء، ولينظر كيف يكون حكمه عليهم، ثم لينظر هل
يرضى بأن يكون محكومًا عليه عند الله والناس بمثل ما يحكم به عليهم. ليبذل كل
إنسان ما يستطيع، ولولا الاعتماد على التعاون لوجب عليه أن يبذل كل ما يملك
إن كانت وقاية إخوانه متوقفة على ذلك {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق: ٧) .