في الشيخ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا لأمير البيان الأمير شكيب أرسلان (في الجزء الأول من كتاب حاضر العالم الإسلامي)
الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أستاذنا فريد عصره، ووحيد مصره، حجة الإسلام الشيخ محمد عبده، أكرم الله مثواه، تعرف إليه كاتب هذه الحواشي في عهد الطلب، أيام كان هو منفيًّا في بيروت على إثر الحادثة العرابية وذلك سنة ١٨٨٦، ولازمته وأخذت عنه واستفدت منه بقدر ما وسع فتور خاطري، واستفضت من بحر حكمته ما أمكن أن يناله قصور عارضي، ووجدت فيه الضالة التي كنت أنشدها، والبغية التي كنت أبحث عنها ولا أجدها، ورأيت في فهمه العقيدة الإسلامية الشكل الوحيد الذي يرجى أن ينهض بالإسلام بعد أن آل إلى هذه الحال، وأن يقيل عثاره بعد أن ظن ضعفاء العقول أن عثرته لا تقال. وما زلت بعد أن عاد إلى وطنه مصر إلى أن أدركته الوفاة رحمه الله أجاذبه حبل المكاتبة، وأقف على رأيه في أكثر الأمور جزئيها وكليها، وأستطلع منه طلع الأحوال، وهو يبث ما لا يبثه إلى غيري من سوانج فكره، وذوات صدره، وبينما كان بعض حساده يتهمونه بمماشاة الدولة المحتلة ومواثقة اللورد كرومر كان يكتب إليَّ قائلاً: (الأحوال هي مما يتعاظم له الألم، ويعجز عن وصفه القلم) فكنت أعلم أنه ما أراد إلا تخفيف الداء، وتقريب أجل البلاء، وتمهيد طريق الجلاء، وما زال شأنه يعلو، وحقيقته تظهر وجوهره ينجلي بالحك، وعقيدة فضله تتمحص من الشك، إلى أن اتفق الناس على كونه أحد أفذاذ الشرق الذين قلما جاد بهم الدهر، وواسطة عقد المصلحين المجددين في هذا العصر، وظهر أن طريقته الإسلامية العصرية ستزداد مع توالي الأيام انتشارًا، وتكون هي طريقة المستقبل ومعول الآتي. ولقد كان جامعًا بين العلم والعمل، فلا تجد ما يساوي فضله وبلاغته وثقوب أفكاره، وقوة ملكته في الفلسفة، سوى علو مباديه، وبعد همته، وغزارة مروءته، وطهارة أخلاقه، وهيهات أن يأتي الزمان بمثله. ومن حسناته الكبرى، وأياديه التي ملأ بها طباق العالم الإسلامي برًّا، أخذه بيد الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا في نشر مجلة (المنار) التي هي لسان حال ذلك المصلح العظيم وترجمان أفكاره. فهي - والحق يقال - أحسن مجلة ظهرت في باب الإصلاح الديني وتطهير الإسلام من شوائب البدع، وأعادته سيرته الأولى في عهد السلف. وتأليفه مع المدنية الحاضرة. كما أن الأستاذ السيد رشيدًا المشار إليه هو الأولى بأن يخلف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مشروعه. الأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا ويطول العهد بعدُ بالأستاذ الأكبر السيد رشيد فسح الله في أجله حتى يقوم في العالم الإسلامي من يسد مسده، في الإحاطة والرجاحة، وسعة الفكر، وسعة الرواية معًا، والجمع بين المعقول والمنقول، والفتيا الصحيحة الطالعة كفلق الصبح في النوازل العصرية، والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة، مما لا شك أن الأستاذ الأكبر فيه نسيج وحده، انتهت إليه الرئاسة، لا يدانيه فيه مدان، مع الرسوخ العظيم في اللغة والطبع الريان من العربية، والقلم السيال بالفوائد في مثل نسق الفرائد، والخبرة بطبائع العمران، وأحوال المجتمع الإنساني، ومناهج المدنية وأساليبها، وأنواع الثقافات وضروبها، إلى المنطق السديد الذي لم يقارع به خصمًا مهما علا كعبه إلا أفحمه وألزمه، ولا نازل قرنًا كان يستطيل على الأقران إلا رماه بسكاته وألجمه. وأجدر بمجموعة (المنار) أن تكون (المعلمة الإسلامية الكبرى) التي لا يستغني مسلم في هذا العصر عن اقتنائها، كما أن التفسير الذي وفقه الله به لكشف أسرار كتابه العزيز هو من آياته الباهرة التي خلدت اسمه في هذه الأمة، وقرنته بكبار الأئمة، وله من المواقف الشريفة في النضال الديني عن الإسلام، والمراماة عن عقيدته الصافية، ومن الكتب الجدلية في رد شبهات أعدائه من أبناء الملل الأخرى، ومن الملاحدة والمعطلة، ما لا يقدر أحد في عصرنا هذا أن يدرك فيه شأوه، ولا يستطيع جهبذ من جهابذة الإسلام أن يبلغ فيه مُدَّه ولا نصيفه، إنه الرجل الذي لو دعا كل مسلم بإطالة حياته حبًّا بخدمة الإسلام والمسلمين لكان بذلك جديرًا. وليس في كلامنا هذا شيء من الإطراء ولا ثمة ما يدعونا إليه، وإنما أمرنا بأن لا نبخس الناس أشياءهم، وهو أمر إلهي صريح، كما أننا لسنا ممن يرى المعاصرة حجابًا عن تقدير الفضائل قدرها، بل نرى أن المنصف يجب أن يزن أقدار الناس في الحياة وبعد الممات بميزان واحد، وإن كان من ضرائب البشرية أن تقسو على الأحياء، وأن تحنو على الأموات، وأن لا تعطي الإنسان حقه غير منقوص إلا إذا فات. ولقد حرر السيد رشيد تاريخ أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في مجلدين كبيرين يزيدان على ألفي صفحة وسيعززهما بمجلد ثالث [١] فيكون من الفضول أن نقول: إنه لا تاريخ للشيخ محمد عبده غير هذا التاريخ وهو الذي فيه ترجمة حاله بتفاصيلها، وحياته من المهد إلى اللحد، مع ذكر منازعه بدقائقها، وعقائده بحقائقها، ومنشآته بنصوصها، وأخبار الحوادث التي خاضها، والمسائل التي راضها. وقد دخل في هذا الكتاب تاريخ السيد جمال الدين الأفغاني، وسير أعلام آخرين، وتلخيص الحوادث العرابية في مصر وروايات كثيرة عن الخديو السابق، ووثائق تاريخية لا توجد في كتاب آخر، ومباحث عقلية وشرعية وسياسية وأدبية ولغوية لا يعثر القارئ على مثلها في غير هذا الكتاب. وللفقير إليه تعالى راقم هذه الأسطر في الجزء الأول من هذا السفر الجليل فصل عن حياة الأستاذ الإمام أيام كان في بيروت وكنا متصلين به وهو نحو من ١٤ صفحة، ولهذا الفصل تتمة وعد الأستاذ الرشيد بنشرها في الجزء الذي لم يظهر بعد. ولما كان الأستاذ السيد رشيد من كبار المحدثين، وله في هذا الفن من الطول ما ليس خافيًا عن أحد، فقد امتزج خلق التمحيص بدمه ولحمه، وأصبح لا ينشرح صدره إلى الخبر إلا إذا وثق بأسانيده، وآمن بأمانة رجاله، وقد يسوق الرواية من جملة طرق إلى أن يثلج بها الصدر، ويطمئن لها الفكر، وهذه طريقة السلف عندنا لا يروون شيئًا لا من الأحاديث النبوية وأخبار الصحابة فحسب، بل لا يروون شيئًا من الأشعار والآداب، وسير البشر والحكايات، إلا عَنْعَنُوه مسلسلاً، وربما أشاروا إلى درجة رجاله، فَقَوُّوا ولَيَّنُوا كما لا يخفى على مَن طالع كتبهم، وكانت له ألفة بطريقتهم. وهذه الطريقة هي اليوم طريقة الأوربيين أيضًا لا يروون خبرًا ولا ينقلون جملة ولا أثرًا إلا وضعوا في الحاشية مأخذها والكتاب الذي أخذوها عنه مع ذكر الصفحة، ومع ذكر طبعة الكتاب وتعيين المطبعة أحيانًا، وكل ذلك توثيقًا للنقل، ونصحًا بالتبليغ، وتمهيدًا للحكم الصحيح، الذي لا يتهيأ للقارئ إلا بعد مقدمات صحيحة، وبينات رجيحة. ومن نفائس تآليفه السِّفْر الذي أخرجه مؤخرًا تحت عنوان (نداء إلى الجنس اللطيف) فيه بيان حقوق النساء في الإسلام وتحقيق مسائل اجتماعية تدور أكثر من كل المسائل في هذا العصر مثل تعدد الزوجات والتسري والحجاب والسفور والطلاق وما يتعلق بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام والحكم، وتكريم النساء، وبر الوالدين وتربية البنات، وغير ذلك قد جاء الأستاذ في هذا الكتاب بالآيات البينات على حكمة الشرع الإسلامي وغفلة المعترضين عليه جهلاً أو تجاهلاً، ولا يسعني إلا توصية الخلق بمطالعة هذا الكتاب؛ إذ ذاك أحسن ما يمكن وصفه به (إن الجواد عينه فراره) ولكني أورد شذرة واحدة من هذا الكتاب من قبيل التمثيل ليقيس القارئ عليه. اهـ نقل الأمير عبارة عن الكلام في التسري وحكم الاسترقاق، وقد سبق لقراء المنار الاطلاع على الموضوع كله في كتاب الوحي المحمدي بما هو أوسع مما في نداء الجنس اللطيف.