للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السخاء والبخل

خلق الله الإنسان يمقت الرذيلة بالطبع، ويُزري بالمتلبس بها، ويحب
الفضيلة ويلهج بإطراء صاحبها، وإذا استقرينا سجايا الإنسان وما قاله ويقوله الناس
في الفضلاء من الثناء والمدح، وما رموا به الرذلاء من سهام الذم والقدح، يتسنى
لنا أن نحكم بأن السخاء أرفع الفضائل منزلة في القلوب، وأعلاها وقعًا في النفوس،
وأبعدها طيرانًا في جو الخيال، وأبدعها افتنانًا في فنون السحر الحلال، وأكثرها
دورانًا في الشعر، وأقواها سلطانًا على الفكر، وأحسنها تصريفًا للأقلام، وتسخيرًا
للعقول والأحلام، وأن الأسخياء أشرف الناس عنصرًا، وأكرمهم جوهرًا، وأطيبهم
نفوسًا، وأضوأهم شموسًا، وأعزهم نفرًا، وأبقاهم أثرًا، وأوسعهم صيتًا وذكرًا،
وأسمعهم حمدًا وشكرًا، وإن شئت حكمت بأنهم أوسع الناس وجودًا، كما أنهم
أوسعهم جودًا، ونحكم بضد ذلك كله، وبضد ما لم نحكه من نعوتهم وصفاتهم،
وآياتهم وكراماتهم، على أضدادهم البخلاء، وبضدها تتميز الأشياء.
ما هو السخاء؟ وبم تعرف الأسخياء؟ وما هو البخل؟ وبم تتميز البخلاء؟
وهل يشتبه الضدان فنحتاج إلى التعريف والفرقة، أو يتشابه المتباينان فنزيل بينهما
بالإبانة والتفصلة؟ نعم إن أكثر الناس لا يفقهون تحديد صفة السخاء والجود،
وصفة البخل والشح، بل ولا يميزون بين الأسخياء والبخلاء تمييزًا حقيقيًّا، فكثيرًا
ما يَسِمُون السخي الكريم، بسمة البخيل اللئيم، وأكثر من هذا أنهم يُسَمُّون الأشحة
اللؤماء، أجاود كرماء، وهذا مما يثير دفائن العجب من النفوس، ويستخرج بقايا
الدهشة من أعماق القلوب؛ لأن المعهود في الإنسان أنه يغفل عما لا شأن له عنده،
ولا مكانة له من نفسه، ويحيط علمًا بدقائق الأمور، ويكتنه خفايا الشؤون، إذا كان
لها سلطان قوي على روحه، وتأثير مؤلم أو ملائم في وجدانه، حيث الداعية إلى
العلم، والباعث إلى الفقه والفهم، وقد أشرنا إلى مكانة الأسخياء الشريفة العليا،
ومنزلة البخلاء الدنيئة السفلى.
أستغفر الله: لقد ظلمت الإنسان؛ إذ ألصقت بمجموعه أو جميعه ما هو خاص
بالشعوب الجاهلة، والأمم التي ضعف في أفرادها معنى الإنسانية، ونزلت عن
مراتب المدنية، فامتلخت أحلامهم، وسادت أوهامهم، يحكمون بالنظرة الحمقى لا
يسبرون الأغوار، ولا يغوصون البحار، فأنى يظفرون بدرر الحقائق، ويقفون
على خفيات الدقائق.
من هو السخي عند هؤلاء؟ ، وبم يعرفون السخاء؟ ، السخاء عندهم هو
التمتع بالمال، ولو بما زاد على قدر الحال، أكل وشرب، ولهو ولعب، وأثاث
ورياش، وسرير وفراش، وخيول ومركبات، ومراكب ذهبيات، واستطابة
الألوان، للوجوه والأعيان، واستعداد في كل آن، لإطعام من يلمّ من الإخوان،
ممن على شاكلة السخي في وظائفه ورتبه، أو على مقربة منه في فضته وذهبه،
وفاتهم أن هؤلاء هم الذين قال في مثلهم القرآن: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم
مُّجْرِمُونَ} (المرسلات: ٤٦) والسخاء محمود عند الله، ممدوح عند الناس
فكيف يكون صاحبه مجرمًا؟
ومن الأسخياء، في عرف هؤلاء الأغبياء من يُهْدِي ليُهْدَى، ويُعْطَى أكثر مما
أعطى، إن لم يكن من نوع ما بذله وجنسه، فمما هو أنفس في نفسه، فإن لم
يتقاض طعامًا بطعام، ويتبادل مُدامًا بمدام، فهو يشتري الجاه العريض الطويل،
بالعرض النزر القليل، فدرهمه دينار، كما هو شأن دهاقين التجار، ومن يقول
فيمن يطعمك قليلاً من اللحم، أو يُهدِي إليك منًا أو منوين من السمن، ليستخدم
جاهك عند الحكام في الحصول على رتبة أو وسام، أو في دفع مظلمة نزلت به
بوادرها، أو الاستعانة على غنيمة ترجى غاياتها وأواخرها -: إن هذا جواد كريم،
وسخي عظيم؟ أليس قد قال تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: ٦) وهل
ينهى الله تعالى عن الجود والكرم وهو الجواد الكريم؟
أرأيتك هذا استسمنت وَرَمه، واستغزرت ديمه، هل أهدى وبذل، إلا لذلك
الأمل، فهو مكتسب يستدر أخلافًا، ودائن يأكل الربا أضعافًا، أما كان لولا هذا
العطاء، لهذا الجزاء، يبذل بدَرَ الدنانير، وهو صاغر حقير، يطيل مع التنفس
إحصاءها وعدَّها، ويرجو على الحرص قبولها ويخشى ردَّها، ويرى لآخذها -
وهي روحه - من الفضل عليه، مثلما رأى له بالهدية والدعوة من الفضل عليك،
نعم إنه دعا أو أهدى وهو يعلم أنه يربح بذلك امتلاك قلبك (أولاً) وامتلاك قلوب
الناس الذين يرونه بذلك جوادًا كريمًا (ثانيًا) وإعدادك لقضاء حوائجه (ثالثًا) وفي
هذا الثالث من التوفير ما أشرنا إليه آنفًا، فهو على كونه يمن ليستكثر ويأكل الربا
أضعافًا مضاعفة غاش طامع، وراشٍ مخادع، ولو علم حاجتك إلى صلة منه ليس
لها منك عائد، ولا تأتي بشيء من هذه الفوائد، لما قابلك إلا بالرد، ولما وصلك
إلا بالإعراض والصد، فما بالك إذا كان يَدُعُّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين،
ويمنع الماعون، ويشكو حرصه الجيران والأقربون، ولا يؤدي الزكاة الشرعية،
ولا يساعد الجمعيات الخيرية، ولا يعضد المشروعات العلمية والعملية.
ومن الناس من لا يَعُدّ مثل هذا في الأسخياء، ويرى أن السخي الكريم هو
الذي يرمي بالمال هكذا وهكذا، يضرب به في كل فج وينفقه في كل سبيل، في
سبيل الله تارة، وفي سبيل الشيطان تارة أو تارات، متبعًا في ذلك خطرات الوساوس
ونزعات الهواجس، ولا ينافي ذلك عندهم تعديه على حقوق الناس، وأكله
أموالهم بالباطل كأنواع الرشوة وضروب الضرائب إن كان حاكمًا أو زعيمًا، أو
صاحب مكانة من الأمراء المستبدين، والسلاطين الجائرين، وكأنواع الاحتيال
والتزوير إن كان من غيرهم، يقولون: فلان لا يُضام؛ لأنه من الكرام، لا يُرَدُّ
سائله، ولا يمنع أحدًا نائله، قد أغنى زيدًا، فصار له يدًا وأيدًا، (أي قوة) وعمر
بيت عمرو، بعدما هدمه الفقر، فجعله من أنصاره، يستعين به على أوطاره وتبرع
على جمعية كذا بمبلغ من النقود، في يوم احتفالها المشهود، وقد عيَّن لعدة من
الجرائد الوطنية والأجنبية، رواتب شهرية أو سنوية، إعانة لأصحابها على إذاعة
المعارف الرافعة، ونشر الأفكار النافعة، فهي دائمًا تعطر المشام بعرف نشره وتشنف
الآذان بحلي ذكره، فإن قيل: إنه إنما يبذل لجرائد الكدية التي ليس لها رأي ولا
مذهب، ولا لها مشرع ولا مشرب، إلا جمع المال بالإطراء والمدح، أو بالإزراء
والقدح، ولا يشترك بجريدة لا يرجو منها الثناء، ولا يخاف منها الإزراء يحار
المنصف فلا يحير جوابًا، ويكذب المتعسف في التشيع له كِذَّابًا، وقد يفضي السرف
والمخيلة بهذا الصنف من المغرمين بالإنفاق، لاقتطاف ثمار التعظيم والتبجيل من
جنات النفاق، إلى أسوأ حالات الفقر والإملاق، وذلك إذا قصرت يد سلطتهم،
وخضدت شوكة سطوتهم، أو كسدت أسواق حيلتهم، ونضب معين ثروتهم، ثم لا
يجدون ممن اصطفوهم صانع معروف، ولا باذل آحاد من تلك الألوف؛ لأنهم لا
يصطفون كريمًا شكورًا {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً} (الإسراء: ٢٧) .
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))