الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى. أما بعد: فقد تم لمنارنا بفضل الله تعالى سنة قمرية كاملة (إذ كان صدور أول عدد منه في ٢٢ شوال سنة ١٣١٥) أنبته صدق الخدمة فيها نباتًا حسنًا، وتقبله فضلاء الأمة بقبول حسن، ولا يزال في نمو تدريجي يبشر بالكمال، ولقد صدق الله تعالى إلهامنا، وحقق رجاءنا بمؤازرة الكرام ومعاضدة الأخيار، وها نحن أولاء نراهم يزدادون يومًا فيومًا، أما الرجاء الذي أشرنا إليه فهو ما جاء في آخر فاتحة الجريدة - بعد بيان منهاجها والإشارة إلى مشارب الناس في الجرائد، وأنه انتقاد الحكومة أو المدح والذم في الأشخاص أو النكت الهزلية والروايات الغرامية - وهو: (فإذا رأوا جريدة تفند أكثر أقوالهم، وتنعي على إسرافهم في أمرهم، وتسجل عليهم التقصير في العمل المفيد لعمارة بلادهم، بل التشمير للعمل على خراب أوطانهم، أو تسليمها لأيدي الأغيار من المهطعين إلى الاستعمار، يوشك أن يلفظوها لفظ النوى ويضربوا بها عُرْض الحائط، لكنني وطَّنت النفس على الاقتناع بمؤازرة الكرام ومعاضدة الأخيار، نعم، إن الكرام قليل ورجاؤنا أن يكونوا آخذين في النمو لما تقتضيه حالة العصر ويزعج الأمة إليه موقفها الحرج ... ) إلخ. كانت الجريدة تُرسَل إلى المشهورين من القراء فيردونها من غير أن يزيلوا غلافها وينظروا فيها، ثم يتفق لهم النظر فيها عند بعض أصحابهم، فيطلبونها، وأكثر الذين اشتركوا في أثناء هذه السنة - حتى في الشهرين الحادي عشر والثاني عشر - طلبوا الجريدة من أولها، حتى احتجنا لإعادة طبع ما نفد من أعدادها، ولو أن لنا وكلاء يسعون في نشرها لكان نموها أسرع وانتشارها أعم. أما رد الناس للجرائد الحادثة من قبل الاطلاع عليها فهو لِما رأوه من كدورة مشاربها وعدم ثباتها في الغالب: وذنب جرّه سفهاء قوم ... وحل بغير فاعله العقاب الانتقاد على المنار: قلنا: إن المنار نال رِضَى العلماء والفضلاء، ولكنه لم يسلم من الانتقاد، أما علماء الأزهر الكرام، فقد أنكر بعضهم علينا مسألة واحدة وهي ما جاء في (محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر) من وجوب العمل بالحديث الشريف دون قول الفقهاء المخالف له، ووعدناهم بأننا سنبسط الكلام في هذا الموضوع في مقالة نكتبها في (الاجتهاد والتقليد) وأشار علينا بعض الفضلاء والكُتاب بأن نقلّ من الألفاظ الغريبة والاصطلاحات العلمية، ونختار السهولة في الأسلوب ليتسنى لكل الطبقات أن تفهم ما يُكتب؛ ولذلك ترى أن الأعداد الأولى من المنار أرقى في الغالب أسلوبًا، وأكثر غريباً. وأما غوغاء الناس فقد قام جماعة من سفهائهم فسلقونا بألسنة حِدَاد في جرائد البذاء والنفاق لنبذة نشرناها في سبب الخلاف الذي كان وقع بين الرفاعية والقادرية، وإنما ساقهم إلى هذا حب التقرب من صاحب السيادة والسماحة أبي الهدى أفندي الرفاعي الشهير، وذلك أن عطوفة مخدومه حسن بك خالد كتبت مقالة في الموضوع ينهى أتباعهم فيها عن الرد على المنار، ولكن طاش سهمهم وخاب ظنهم، وقد علمت سماحته أننا لم نقصد بما كتبناه إلا خيرًا، وكتبت إلينا تقول بأن جميع ما كُتب في الرد علينا غير ما كتبه المخدوم، ولم يكن مرضيًّا عندها، وأنها اعتقدت إخلاصنا وحسن قصدنا. وانتقد علينا من مصادر مختلفة مقالات منكرات الموالد ومسألة نفي الواسطة بين الله تعالى وبين الناس إلا في الهدى والإرشاد، ومسائل في زيارة القبور وتعميمها والقراءة للأموات، وفي الاقتصار على الحث على التربية والتعليم دون الأعمال المادية، بل الإكثار من الأول والإقلال من الثاني، وفي تفضيل العلم على الحرب، وفتح المدارس على فتح البلاد، وقد أجبنا عن ذلك كله بما فيه مقنع. وعود المنار: جاء في أطواء الكلام وتضاعيفه وعود كثيرة، منها ما وفينا به، ومنها ما أرجأناه للفرص والنهز، ومن هذا الأخير الوعد بالكلام على القضاء والقدر والجبر، وعلى التربية الجسدية والنفسية والعقلية، وعلى أن الأصل في الأمم الترقي لا التدلي، خلافًا لما هو شائع عند المسلمين، وعلى تمثيل الروايات وموعدنا الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى، ويدخل في هذا ما كتبناه وقلنا أن له بقية، ولم نأتِ بها كمقالات (سلطة مشيخة الطريق الروحية) ورسالة (فكاهة العلوم) لمكاتبنا الإسكندري، أما تتمة مقالات مشيخة الطرق فقد منع من إكمالها مانع، وأما فكاهة العلوم فاستطلناها على غير فائدة. مستقبل المنار: علمنا أن أكثر المشركين يحفظون أعداد المنار لأجل تجليدها في آخر السنة، ومن ثم اقترح علينا كثيرون أن نجعله مجلة بشكل الموسوعات والهلال؛ لأن شكله الآن يخرج في التجليد كبيراً وورقه يخسر بالطي بعض حسنه ومتانته، واقترح علينا آخرون من الأفاضل أن نودعه نبذًا تعليمية للناشئين من البنين والبنات - تكون في غاية البساطة والسهولة؛ لأن هؤلاء يرونه أحكم معلم للآداب والفضائل الدينية والوطنية الخالية عن الشوائب ونزغات البدع، المسقمة للأخلاق الشريفة، المضنية للعقول، المكسلة عن العمل، الباعثة على الغلو في الدين من جهة، والضعف والتقصير فيه من جهة ثانية. واقترح آخرون أن نضرب صفحًا عن الكلام في جزئيات المسائل السياسية والجرح والتعديل فيها، ونكتفي بذكر الأخبار المهمة على الوجه الصحيح، كما هو شأن المؤرخ البعيد عن الأغراض، فإننا قد انحرفنا عن هذه الخطة في بعض المسائل انحرافًا، وقد صادفت هذه الاقتراحات عندنا قبولاً. وها نحن أولاء نجعل جريدة المنار في أول سنتها الثانية مجلة أسبوعية، ونجعل فيها - بعد المقالات الافتتاحية التي تبحث في جميع المواضيع - باباً مخصوصاً لمباحث التربية والتعليم، ويدخل في التربية والتعليم علم تدبير المنزل بجميع شُعبه وفي التعليم البحث في أساليبه ودروس مختصرة في فنون شتى، يسهل تناولها على الناشئين والناشئات من تلاميذ المدارس وغيرهم، ووراء ذلك باب الآثار العلمية الأدبية وتدخل فيه الأفاكيه والمُلَح، وبعده باب الأخبار التاريخية تُذكر فيه الجوائب (الأخبار الطارئة) الداخلية والخارجية، مع ما يرشد إلى الاستفادة منها والاعتبار بها من غير غميزة ولا إزراء بالحكومات أو بسواهم. ونرجو من إخواننا الأفاضل الذين استعذبوا مشرب الجريدة وراق في أعينهم ما تحلَّت به من صادق الخدمة - أن يشدوا أزرنا بتعميم نشرها، ونحن نعدهم ببذل الجهد في ترقية شأنها، واختيار ما نراه أفيد للأمة، وأنفع للوطن {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) . ... ... ... ... ... ... ... ... (محمد رشيد رضا)