(٣) حياته في المنفى لا تكمل تربية الرجال، إلا بمكافحة الأهوال، فمعادن النفوس لا تصفو من شوائب الضعف في الحق، وتتمكن من مقعد الصدق إلا بعد أن تعرض على نيران الفتن، وتذاب في بوادق المحن {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: ١٧) ولذلك يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده المصلحين بفتن المفسدين، ليعلم الصابرين والصادقين {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} (آل عمران: ١٤١) فالفتن والكوارث تمحص نفوس المؤمنين بالله السائرين على سننه فتزكيها وتعليها، وتمحق الكافرين بنعمه، والمنحرفين عن سننه؛ فتدسيها وتفنيها، وقد اتهم فقيدنا في الثورة بما هو بريء منه، وتفنن المنافقون يومئذ بأخبار السوء عنه، حتى أنذر بالإعدام، ثم استبدل ذلك بالنفي ثلاثة أعوام، فما حقد على واش ولا محتال، بل كتب من السجن إلى صاحب له يعجب من كيدهم ثم قال: (ولئن عشت لأفعلن المعروف، ولأغيثن الملهوف، ولأنقذن الهاوي في حفرة الغدر، ولآخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم، ولأتجاوزن عن السيئات، ولأتناسين جميع المضرات، ولأبينن لقومي أنهم كانوا في ظلمات يعمهون، ولأظهرن الصديق في أجمل صوره، ولأجلونه للناس في أبهج حلله، ولأثبتن لهم ببرهان العمل أنه فكرك الثاني في روحك الواحدة، وجسمك الآخر في حياتك المتحدة، وأنه صاحبك إذا طال ليل الكدر، ومصباحك إذا غسق دجى الهموم، تستضيء به في حل ما انعقد، وتستعين بقوته في تيسير ما عسر، وتذهب به إلى أوج المعالي، والناس من معجزات الصديق يتعجبون. إلى أن قال: لكني أقول لكم: إن هذه الحوادث المريعة سوف تنسى، وإن هذا الشرف سوف يرد، ولئن أبت طبيعة هذه الأرض بخسَّتها أن يكون لها من عوده نصيب فليعودن في بلاد خير منها، ولأجذبن إلى المجد أحبتي ومن إلى المجد ينجذبون، كل ذلك إن عشت وساعدتني صحة الجسم، ولا أطلب شيئًا فوق هذين سوى معونة الله الذي عرفه بعض الناس وبعضهم له منكرون) . والكتاب طويل وسننشره برمته في تاريخ الفقيد. وله قصيدة في الثورة نظمها في ظلمة السجن أيضا تزيد على مئة بيت، وقد عرض في آخرها بما أبانه في آخر كتابه هذا من صدق العزيمة والثقة بنفسه والاعتماد عليها في مغالبة الزمان بعد الاتكال على الله تعالى وكونه لا يخاف شيئًا يقطع عليه طريقه في عمله لوطنه وأمته إلا الموت قال: وأحفظ الدهر أني لا أشاكله ... فيما تبطن من غش وتمويه أحارب الدهر وحدي ليس ينفعني ... إلا الثبات وحسبي من أصافيه تعلم الدهر مني كيف يطعنني ... فخاب ظنًّا وخانته مزاكيه وليس يعجزني عن كسر فيْلَقه ... إلا المنايا تفاجيني فتحميه إن المنايا سهام الله سددها ... وليس يخطئ سهم الله مرميه أريت من كانت له هذه النفس العالية، والعزيمة الماضية، أيحط من قدره أن يتهم بالسياسة فيلقى في غيابة السجن، أم يطفئ نور استعداده الإخراج والنفي؟ كلا. عمله في أوربا لمصر والإسلام سافر رحمه الله تعالى إلى سوريا فأقام فيها نحو سنة، ثم سافر إلى أوربا على اتفاق بينه وبين أستاذه وصديقه السيد جمال الدين لأجل الاشتغال بما كان يسمى (المسألة المصرية) فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس حيث أصدرا جريدة العروة الوثقى، وكانا أسسا لها جمعية من مسلمي الهند ومصر والغرب وسوريا؛ غرضها السعي في جمع كلمة المسلمين، وإيقاظهم من رقادهم وإعلامهم بالأخطار المحدقة بهم، وإرشادهم إلى طريق مقاومتها. كان السيد جمال الدين مدير سياسة الجريدة والشيخ محمد عبده المحرر الأول لها؛ على أنه لم يكن لها محرر سواه إلا من كان يترجم بعض الأخبار من الجرائد الأوربية، ويلقيها إلى الشيخ يصححها وينفخ فيها من روح العبرة ما ينفخ. كان السيد منبع الأفكار والآراء السياسية التي تنشر في الجريدة لا سيما ما هو من سيئات الإنكليز في الهند وغيرها، وكان الشيخ يبرز هذه المسائل في صورة تروع الأبصار، وتحرك الأفكار ويتصرف فيها ما شاء. أما المقالات التي كان يكتبها في الاجتماع والوعظ، والأخلاق السياسة الإسلامية فقد كانت من الآيات البينات التي لا يكاد يوجد في كلام البشر ما يساهمها في البلاغة والتأثير حتى كان علماء المسلمين وعقلاؤهم في كل قطر يتوقعون أن تحدث تلك الجريدة انقلابًا عامًّا في المسلمين، حدثني الثقة عن السيد سلمان أفندي الكيلاني نقيب بغداد أنه كان يقول كلما قرأ عددًا من جريدة (العروة الوثقى) يوشك أن يحدث انقلاب في بعض بلاد الإسلام قبل أن يصدر العدد الذي بعد هذا. والسيد (سلمان) هذا كان من بقايا زعماء المسلمين يخضع له مئات الألوف من العرب والعجم. وسمعت شيخنا الشيخ حسين الجسر العالم الطرابلسي الشهير يقول: لو طال الزمان على جريدة العروة الوثقى لأحدثت نهضة جديدة للمسلمين، وانقلابًا عظيمًا. أقول: وهي هي التي نقلتني من طور إلى طور، وحَبَّبت إليّ صاحبيها حتى جذبني الحب إلى مصر، ووصل حبل ودي بالأستاذ الإمام، وحملني على نشر حكمته، وإعلان دعوته، فقد كنت مرة أبحث في أوراق والدي العتيقة وأتصفح ما فيها من الجرائد المطوية، فعثرت على أعداد من العروة الوثقى، فطفقت أقرأها المرة بعد المرة، وهي تفعل في نفسي فعلها، تهدم وتبني، وتعد وتمني، وما كان وعدها إلا حقًّا، ولا تمنيها إلا رجاء وأملاً، أحدث إصلاحًا وعملاً، فكانت هي أستاذي الثاني الذي أثر في نفسي، وأقيم عليه بناء عملي وأملي، وأما الأستاذ الأول فهو كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي الذي كان أول كتاب ملك عقلي وقلبي. أنشأت بعد أن ظفرت بتلك الأعداد أبحث عن أخواتها في طرابلس، فكنت أجد عند الرجل العدد، وعند الآخر العددين فأنسخ ما أجد، ثم علمت أن الشيخ (حسينًا الجسر) احتواها كلها ومن عنده أتممت استنساخها، وأكبر أثرها عندي أنها هي التي وجهت نفسي للسعي في الإصلاح الإسلامي العامّ بعد أن كنت لا أفكر إلا فيمن بين يدي، وأرى كل الواجب عليَّ أن أظهر في دروسي العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنفر عن المعاصي، وأنا لا أعلم سبب الفساد الذي فعل في العقائد والأخلاق ما فعل، ودفع المسلمين إلى مزالق الزلل، حتى هدتني العروة الوثقى إلى المناشئ والعلل. لم تكن خدمة الشيخين للإسلام في أوربا قاصرة على الوعظ والإرشاد، بل كان لهما سعي لدى فرنسا وإنكلترا نفسها في المسألة المصرية ومسألة السودان، وكان سعيًا - لو ظهر - غريبًا، وكان منه إقناع ناظر خارجية إنكلترا بعد فصل السودان عن مصر وحضر الأستاذ الإمام إلى بلاد كثيرة لتوثيق العروة والتهميد للعمل أن يترك السودان لأهله ويعدلوا عن محاولة فتحه، وكان لهما في ذلك آمال ومقاصد ذات بال، وقد كان تقرر هذا، وما حال دون إمضائه رسميًا إلا موت محمد أحمد مَهْدِيِّ السودان، ولو شرحنا الوسائل التي اتخذها الشيخان لذلك لحار في براعتهما الثقلان، لا أنكر أن هذا الأعمال السياسية كان السيد جمال الدين هو المفترع لها، ولكن كان فقيدنا عضده، وساعده، ولسانه، وقلمه ولولاه لما استطاع المضي فيها؛ على أن فقيدنا كان بما جرى له ولشيخه مع توفيق باشا في مصر قد ضعف أمله في الإصلاح السياسي، ووجه همه إلى الإصلاح القومي في التربية والتعليم. حدثني أنه قال للسيد في أوربا: إن هذه السياسة لا يأتي منها خير؛ لأن تأسيس حكومة إسلامية عادلة مُصْلِحة لا يتوقف على إزالة الموانع الأجنبية فقط فخير لنا أن نذهب معًا إلى مجهل من مجاهيل الأرض لا سلطان للسياسة فيه ونحاول تربية أفراد على ما نحب؛ فإذا تيسر لنا تربية عَشْرة رجال يبذلون أنفسهم لخدمة الأمة لا يصدهم عن ذلك الجثوم في وطن، ولا الإخلاد إلى الأهل والسكن، بل يكون همهم الأكبر الضرب في الأرض لتربية مثلهم على ما ربوا عليه، فلا يبعد أن يربي الواحد منهم عشرة فيكون لنا في زمن قريب مائة رجل يعملون للإسلام والرجال هم الذين يعملون كل شيء، فقال له السيد: إنما أنت مثبط قد شرعنا في عمل فلا بد من المضي فيه حتى يتم أو نعجز. كان لذلك السعي في إنقاذ مصر والسودان، أو السودان فقط طريق في ذلك الوقت لأن الاحتلال الإنكليزي كان في نظر أوربا كلها مؤقتًا، ولم تكن قدم إنكلترا راسخة في مصر. وبعد أن رسخت القدم وتمكنت السلطة من البلاد قام بعض الأحداث يكتبون، ويخطبون، ويقولون ما يعد أمام ما قاله وكتبه الشيخ في وقته لغوًا، وكانوا يعدون أنفسهم بذلك خدمة مصر ومنقذيها، ويرمون مثل الفقيد بالتقصير في خدمة الأمة والوطن على أنه هو المصري الوحيد الذي قدر على استخدام السلطة الإنكليزية في مصر لخدمة مصر والإسلام، بعد أن صارت الخدمة بمقاومتها من المحال، ولو كانت الخدمة النافعة هي مقاومة القوة بالكلام والكتابة لكانت العروة الوثقى أخرجت الإنكليز من مصر قبل أن يتمكنوا منها. مناظرة الفقيد لوزراء الإنكليز في المسألة المصرية ذهب الفقيد إلى لندن في تلك الأثناء وتكلم مع وزراء الإنكليز في المسألة المصرية ومسألة السودان وفي المالية المصرية وغير ذلك ونشرت الجرائد الأوربية بعض محادثاته معهم. نذكر هنا محادثة نشرت في العدد الرابع من العروة الوثقى الذي صدر في ٢٢ شوال سنة ١٣٠١-١٤ أغسطس سنة ١٨٨٤ تحت عنوان (هؤلاء رجال الإنكليز وهذه أفكارهم) . والكلام بلسان السيد قال: (تأخر صدور الجريدة أيامًا لضرورة ما مسنا من ضعف في المزاج مع مصادفة رداءة الهواء في البلاد الفرنساوية هذه الأيام، والحمد لله على زوال المانع، إلا أننا مع ذلك لم نقصر في أداء الواجب من العمل الذي قمنا به في المدافعة عن حقوق المسلمين، فقد خلقنا والشكر لله لهذا العمل، وطبعنا عليه ونرجو ديان السماوات والأرض أن نموت في هذه السبيل، وأن نبعث في زمرة السالكين فيها. رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده (المحرر الأول لهذه الجريدة) إلى لوندرا إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية مصالح المسلمين من رجال السياسة الإنكليزية، وليستكشف مناصب الفخاخ السياسية التي ما مرت عليها قدم شرقي إلا سقطت منها فيما يعسر الخلاص منه، وليسبر أغوار المطامع الإنكليزية التي لا يدرك منتهاها، تلك المطامع التي بعدما التهمت ثلث المسكونة، وطوقت كرة الأرض بالفتح والاستملاك لم تزل في مد لا جزر معه، ولا يزال رجال حكومة بريطانيا في قرم شديد لابتلاع ممالك العالم، وكلما أساغوا قطرًا طلبوا إليه آخر، وليستطلع خفايا المقاصد من أثناء الأفكار، وغضون الأقوال، وليقف على الطرق المألوفة بين أولئك السياسيين في التلوين ويتبين كيف يتمكنون من إبراز محاسن الأعمال في صفات رديئة يستنكرها كل ناظر إليها، وإظهار السيئات في ألوان بهجة تسعد الناظرين حتى يمكن بعد ذلك وضع ميزان قسط يتميز به الزيف من النضار الخالص كي لا يغتر الجاهل، ولا يزل العالم) . لاقى (محرر الجريدة) كثيرًا من رجال السياسة الإنكليزية وأنفذ الناس رأيًا فيها، وقد جرت بينه وبينهم محادثات طويلة في الأحوال المصرية، ومن محادثاته الابتدائية ما نشر في بعض الجرائد الإنكليزية كجريدة (البال مال كازيت) وجريدة (التروت) التي يحررها النائب الشهير مستر لابوشير وجريدة (التيمس) وسيذكر شيئًا مما جرى بينه وبين بعض الأكابر من رجال الحكومة الإنكليزية مما يستفيد منه الشرقيون عمومًا والمصريون خصوصًا، وستأتي جريدتنا على بعض ما استنبطه من فحوى أقوالهم، وأدركه من مرامي أفكارهم، أما الآن فنأتي على جملة واحدة من محادثة طويلة كانت بينه وبين اللورد (هرتنكتون) وزير الحربية الإنكليزية ليأخذ كل مصري منها حظه ويصيب كل شرقي سهمه ويقف جميعهم على مواقع الشرقيين من أنظار رجال الحكومة الإنكليزية. سأل اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنكليزية ألا يرضى المصريون أن يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنكليزية؟ أَوَلا يرون حكومتنا خيرًا لهم من حكومة الأتراك، وفلان باشا وفلان باشا؟ فأجاب الشيخ (محرر جريدتنا) كلا، إن المصريين قوم عرب، وكلهم مسلمون إلا قليلاً، وفيهم من محبي أوطانهم مثل ما في الشعب الإنكليزي، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلى الخضوع لسلطة من يخالفه في الدين والجنس، ولا يصح لحضرة اللورد، وهو على علم بطبائع الأمم أن يتصور هذا الميل في المصريين. فقال الوزير هل تنكر أن الجهالة عامة في أقطار مصر، وأن الكافة لا تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني، وأن ما ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب إنما يكون في الأمم المهذبة؟ فأخذت الشيخ حدة - تليق بمسلم لا يتهاون في أداء ما فرض الدين، وأوجبته حقوق الملة - وقال: أولاً - إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أودع في فطرة البشر وليس يحتاج للدرس والمطالعة، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد الأمم توحشًا كالزولوس؛ الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم. وثانيًا - إن المسلمين مهما كانوا وعلى أي درجة وجدوا لا يصلون من الجهل إلى الدرجة التي يتصورها الوزير؛ فإن الأميين منهم ومن لا يقرءون ولا يكتبون لا يفوتهم العلم بضروريات الدين، ومن أجلاها وأظهرها عندهم أن لا يدينوا لمخالفيهم فيه، وأن لهم في الخطب الجمعية، ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما يقوم مقام العلوم الابتدائية، وأن جميع ما يتلقونه من النصائح الدينية يحذرهم من الخضوع لمن لا يوافقهم، ويحدث فيهم من الإحساسات الشريفة الإنسانية ما لا ينحطون معه عن سائر الأمم خصوصًا المصريين الذين ينطقون باللسان العربي، ويفهمون دقائق ما أودع في ذلك اللسان وهو لسان دينهم. وثالثًا - إن أرض مصر من زمن محمد علي قد انتشرت فيها العلوم والآداب الجديدة على نحو ما هو موجود في بلاد أوربا وأخذ كل مصري نصيبًا منها على قدره ولا تخلو قرية من القرى الصغيرة من أن يكون فيها قارءون كاتبون والأخبار العمومية توصلها إليهم الجرائد العربية ومن لم يقرأ يستنبئ الأخبار من القارئين؛ فبهذا أضافوا إلى الشعور الطبيعي، والتقليد الديني محبة وطنية منشأها التهذيب العمومي قوي بها الميلان الأولان، ولا أظنهم يخالفون في ذلك سائر الأمم. اهـ أين العلماء الأذكياء؟ أين الجهلة الأغبياء؟ أين الأباة الأعلياء؟ أين السفلة الأدنياء ليرى كل واحد منهم منزلة الشرقيين عند رجال الحكومة الإنكليزية، كل ذي شكل إنساني وصورة بشرية يدرك ما وراء هذه الأسئلة وما تشف عنه هذه الظنون العجيبة. هذا اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنكليزية يظن أن الجهل يبلغ من المسلمين عمومًا، والمصريين خصوصًا إلى حد سلب عنهم كل إحساس إنساني وأنهم في حضيض من الجهل لا يميزون فيه بين الغريب والقريب، ولا بين العدو والحبيب. هذا دليل على أن الإنكليز- إلا من أنار الله بصيرته ووفقه لفهم الصواب - يعتقدون أن الأمم الشرقية والأمة المصرية في درجة الحيوانات السائمة والدواب الراعية لا تتألم إلا من الجوع، وفواعل الطبيعة المادية، وليس لها من الإحساس إلا نوع من الانفعالات البدنية، ولا تعرف من شؤونها إلا ما به تقوم حياتها الحيوانية؛ فتألف راكبها، والعامل عليها، ومستخدمها في أي عمل من الأعمال الشاقة ما دام يقدم لها طعامًا وشرابًا، وإنها تهش وتبش لرؤية من يقدم لها غداءها وعشاءها، وإن كان من أشد البلاء عليها بما يسومها من مشاق الأعمال؛ فإذا عجزت عن العمل ذبحها وتغذى بلحومها ... إلخ إلخ. ضاقت الحرية الإنكليزية الواسعة أن تسع جريدة العروة الوثقى، فمنعتها من الهند ومصر، واشتدت الحكومة الإنكليزية في إعنات من تصل إليهم، وفرضت الحكومة المصرية غرامة وعقوبة على من تُرى عنده؛ فكان ذلك مانعًا من الاستمرار في إصدارها، وقد كان صدور آخر عدد منها وهو الثامن عشر في ٢٦ ذي الحجة سنة ١٣٠١ - ١٦ أكتوبر سنة ١٨٨٤ ثم سافر الفقيد إلى تونس فأقام فيها أيامًا، ثم سافر إلى بلاد أخرى متنكرًا، فوثق عقود العروة السرية التي كان من أغراضها ما أشرنا إليه، ولو ذكرناه مرتبًا مفصلاً لكان مثارًا للعجب من ركوب هذا الرجل مع أستاذه الصعاب، واقتحامهما الأخطار في خدمة هذه الأمة التي كانت ولا تزال كالمريض الأحمق يأبى العلاج؛ لأنه علاج وإن كان سهلاً سائغًا، ويمقت حكيمه وطبيبه، وإن كان برًّا رحيمًا، فليحفظ القارئون هذا الإيجاز ليذكروه عندما يصلون في تاريخه إلى سلوكه الأخير في مصر إعلان رأيه بتحتيم مسالمة المحتلين، والاستفادة من حريتهم وحبهم للعمران ليعلموا أنه هو عين الحكمة التي اختيرت بعد مساع جليلة، وتجارب طويلة. عمله في البلاد السورية وبعد الإخفاق في ذلك العمل السري، دون ذلك الهدي النبوي، ألقى عصا السير في بيروت أعظم ثغور سوريا، وأقربها من العمران، فأقبل عليه أهل العقل والفضل، وأرباب الذكاء والنبل، ويستفيضون منه سماء الحكمة، ويتلقون هدي الحكماء والأئمة، فكانت داره مدرسة عامة يؤمها الأذكياء وعشاق المعارف من جميع الملل والطوائف، ومما كان يقرأ عليه فيها السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والتحية، وكان يقرأ التفسير في (الجامع الكبير) وفي جامع الباشورة لا يلتزم فيه كتابًا، وإنما يقرأ في المصحف ويلقي ما يفيض الله على قلبه، وكان الناس يقبلون على درسه إقبالاً لم يعرف في تلك البلاد لأحد من قبله حتى حسد النصارى عليه المسلمين؛ فكانوا ينسلون إليه زرافات ووحداناً، ويقفون بباب المسجد يمدون أعناقهم، ويشخصون بأبصارهم، ويصيخون بآذانهم لعلهم يلتقطون شيئًا من تلك الدرر. ثم إنهم استأذنوه في دخول المسجد والجلوس في ناحية من حلقة الدرس فأذن لهم {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} (التوبة: ٦) . وفي أول سنة ١٣٠٣هـ دُعِي إلى التدريس في المدرسة السلطانية لإحياء اللغة والدين فيها؛ فلبى ولم يكن في المدرسة من العلوم العربية إلا مبادئ النحو والصرف، وما تسميه الترك (علم حال) ، وهو ما يلقن للولدان من أحكام العبادات. فلما دخل المدرسة أدخلها في طور جديد، كما كان شأنه في عامة أعماله يدخل في العمل مرءوسًا؛ فيكون في الواقع رئيسًا، ذلك أنه أصلح إدارتها بالاتفاق مع مديرها، ووضع قانونًا جديدًا (بروجرام) للدروس، وزاد في العلوم التوحيد، ومعاملات الفقه، والتاريخ الإسلامي، والمنطق، والمعاني، والإنشاء زادها لنفسه، فكان هو الذي يدرسها حتى كانت دروسه تستغرق عامة النهار. وكانت دروسه كلها للتلاميذ على نحو ما ذكر في رسالة التوحيد (آمالي مختلفة تتغابر طبقاتهم ... في أسلوب لا يصعب تناوله، وإن لم يعهد تداوله) إلا معاملات الفقه فكان يقرأ فيه مجلة الأحكام العدلية التي يحكم بها في المحاكم العثمانية. وكان يكلف تلاميذ الإنشاء حفظ شيء من نهج البلاغة، وديوان الحماسة والألفاظ الكتابية ويشرحه لهم. وكان له هم عظيم، وعناية تامة بملاحظة آداب التلاميذ في المدرسة، حتى إنه كان يزورها ليلاً لأجل ذلك. وقد تخرج على يديه نابتة هي الآن تخدم البلاد بغيرتها واستقامتها وعرفانها ونباهتها. ثم إنه في سيرته كان مربِّيًا للجماهير الذين يترددون عليه؛ فقد كان يجلس إليه السني والشيعي والدرزي، والنصراني، واليهودي؛ فيوسع صدره للجميع ويعامل كل واحد بالأدب الذي يليق به لا يؤذي جليسًا، ولا يغمط فضل مذاكر، ولا مناظر على أنه لم يكن يقول غير ما يعتقد سواء كان القول في الدين أو في العلم أو في العادات والأمور الاجتماعية، فكان - رضي الله عنه - نسخة كاملة من رجال سلفنا، في التسامح، والتساهل، وجمع الكلمة واحترام العلم، وأهله كما وصف في كتاب - الإسلام والنصرانية - وقد أدهش أهل الفضل بعلمه وأدبه، وبلاغته لاسيما في الخطابة الارتجالية التي لم يكونوا يعهدونها. وكان هنالك يشتغل بالتأليف؛ فقد نقل إلى العربية رسالة الرد على الدهريين أو المقابلة بين الإيمان والكفر في العمران التي كتبها السيد جمال الدين باللغة الفارسة. وشرح كتاب نهج البلاغة، ومقامات بديع الزمان الهمذاني. وقد أقبل الناس على هذا الكتب، وانتفعوا بها حتى أنها طبعت مرارًا. وكان يكتب المقالات النافعة في الجرائد، وسننشر ما عثرنا عليه منها في تاريخه. ولم يكتف بهذا الإصلاح المعنوي، بل كان يسعى لدى الحكومة في إصلاح البلاد الإداري فوضع في ذلك لائحة قدمها للوالي، وسننشرها في تاريخه أيضًا، وكتب لائحة أخرى في الإصلاح الديني وقع عليها بعض الوجهاء وقدمت بواسطة الوالي إلى السلطان. وكان قد جال في أرجاء الولاية واختبرها أتم الاختبار. عودته إلى هذه الديار وما استفاده من الأسفار وفي سنة ١٣٠٦ عاد إلى القطر المصري وقد كمل تهذيبه بالأسفار، وركوب الأخطار؛ ولذلك كان يسافر بعد ذلك في أكثر السنين مختارًا، كما كان يكرر المطالعة والمدارسة عن رغبة، بعد أن ألزم بالدرس أولاً بالقوة، وقد كتب عن تأثير الأسفار في نفسه ما نصه: (أما الأسفار إلى البلاد العثمانية ومعاشرة كثير من المسلمين غير مسلمي مصر، فقد كان من نتائجها عندي أني عرفت حق المعرفة أن مرض المسلمين نشأ من أمرين: الأول - الجهل بدينهم، إبداع ما لم يكن منه وإلصاقه به واختلاط ما هو من الدين بما ليس منه حتى صار عليه دينًا أجنبيًّا عن أصل الدين الإسلامي الطاهر الرفيع. والأمر الثاني - استبداد الحكام الظالمين من المسلمين في جميع أقطار الأرض. وقد سافرت بعد ذلك مرات إلى أوربا وأفريقيا فكان أثر الأسفار في بلاد المسلمين زيادة البصيرة في ذلك الذي عرفته لأول الأمر، وأثر الأسفار في أوربا قوة الأمل في إصلاح أحوال المسلمين، فما من مرة أذهب إلى أوربا إلا ويتجدد عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها، وذلك بإصلاح ما أفسدوا من دينهم، وتشحيذ عزائمهم إلى معرفة شؤونهم، وامتلاك ناصيتها بأيديهم دون أفراد ظلمتهم. وهذه الآمال وإن كانت تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما ألاقي من العنت وشدة ما أصادف من المصاعب وسوء ما أرى من انصراف المسلمين عن النظر في منافعهم، وشدة عداوتهم لأنفسهم وقوة رغبتم في تمكين ظالميهم من رقابهم، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول، لكني متى عدت إلى أوربا ومكثت فيها شهرًا أو شهرين تعود إليّ تلك الآمال، ويسهل عليّ تناول ما كنت أعده من المحال، ولا تسألني عن السبب في ذلك فإني لا أستطيع تفصيله ولكن هذا ما تحدثه الأسفار في نفسي) اهـ. أقول: والمتبادر إلى الذهن أن السبب في ذلك هو ما يسمى في العرف الآن بتأثير الوسط أي البيئة من المكان والمكين؛ لأن كل إنسان يحل في مكان ويشاهد حال قوم لا بد أن يتأثر بشيء مما هم عليه بحسب استعداده، وما وجهت إليه نفسه. وبلاد أوربا قد ارتقت ارتقاء عظميًا في العلوم، والصناعات، والكسب، والسياسة وغير ذلك؛ فمن سافر إليها وكان من همه التجارة يزداد معرفة بطرقها، ونشاطًا في عملها، ومن كان همه غير ذلك يتأثر بارتقاء القوم فيه، فتنهض همته إليه وناهيتك بعلو كعب القوم في خدمة أمتهم، وإعلاء شأن ملتهم، وما يبذلون في هذه السبيل من الأموال، وما يركبون لها من الأهوال، فمن ير ما هم عليه من العزة والسيادة، وهو يعلم ما كانوا فيه من الضعة والمهانة، فهو جدير بأن يكبر أمله في قومه، ولا ييأس من غدة في يومه، وكان - تغمده الله برحمته - يقول لي عندما يريد السفر إلى أوربا: إنني أذهب لأجدد نفسي، أي فقد أخلقتها معاشرة الكسالى واليائسين. وقد توجهت همته في هذه السنين الأخيرة لزيارة الشعوب المسلمة فبدأ بزيارة تونس والجزائر وكان عازمًا على زيارة الهند وإيران وقزان والقوقاس في هذه السنة وما بعدها فصرفه المرض عن عزمه في هذا العام، ثم قطع آماله كلها الحِمام. *** سيرته في القضاء الأهلي لما عاد من سوريا إلى مصر تسابق العظماء إلى توفيق باشا في طلب العفو عنه فكان من الشافعين بعض الأسرة الخديوية ومختار باشا الغازي واللورد كرومر ولم يكن أحد منهم يعرفه من قبل معرفة شخصية، ولكنهم سمعوا بفضلِه فحفظ لكل منهم جميله وعفا عنه الأمير وهو يعلم أنه كان خصمًا للثورة العسكرية، وإن كان روحًا مدبرة لتلك الحركة الفكرية، وأن الحكم عليه لم يكن عادلاً؛ ولذلك قال كما روى الثقة للفقيد: ما عفوت عن أحد عفوًا كان أشبه بالاعتذار من هذا العفو. ولكنه كان يخاف أفكاره السياسية وميله إلى تربية مَلَكَة الاستقلال في الأمة، ولذلك أمر بأن يعين قاضيًا في المحاكم الأهلية فلما نمي الخير إلى الفقيد امتعض، وقال: إنني لم أخلق لأكون قاضيًا أقول: حكمت على فلان بكذا، وعلى فلان بكذا، وإنما خلقت لأكون معلمًا، وقد جربت نفسي في التعليم فنجحت، ثم طلب من ناظر الداخلية أن يشفع له عند الأمير باستبدال التدريس في مدرسة دار العلوم بالقضاء، وقال: إنني أعلم أنه لا ارتقاء في التدريس وإنني أرتقي في القضاء، ولكنني لا أحبه فلم يرض توفيق باشا، وقال: إنني لا أحب أن يربي لي التلاميذ على أفكاره السياسية فرضي الفقيد بالقضاء، وما زال يرقى فيه إلى أن بلغ أعلى درجة منه. وقد كان قاضي العدل والإنصاف لا قاضي القانون والرسوم، وإن شئت قلت القاضي المجتهد لا المقلد؛ ذلك أنه لم يكن يحكم بظاهر عبارة القانون وتطبيق الوقائع عليها بادي الرأي، بل كان يتحرى إظهار الحق وإصابة العدل في القضايا فإن انطبقت على القانون وإلا عمد إلى الصلح، وكأين من قضية خالف فيها القانون عمدًا، حتى وشيء به بعض حساده الواقفين على ذلك، وذكر شيئًا من مخالفاته هذه فسأله المستشار القضائي السباق مستر سكوت عن حقيقة ذلك، فقال: هل العدل وضع لأجل القانون أم القانون وضع لأجل العدل؟ قال المستشار: بل القانون وضع لأجل العدل، والعدل هو المقصود بالذات؛ فأنشأ حينئذ يشرح له القضايا، ويبَيّن أنه لم يحكم فيها إلا بالعدل فقنع المسترسكوت وسُرَّ منه سرورًا عظيمًا؛ لأنه كان منصفًا عارفًا بقيمة الرجال على أن هؤلاء الإنكليز أبعد الشعوب الأوربية عن الرسوم في القضاء، وأقربهم إلى اعتبار الإنصاف ووجدان القاضي، ولو كانت هذه البلاد محتلة من دولة أوربية أخرى لتعذر ارتقاء الفقيد فيها. ومما كان يحكم فيه باجتهاده واعتقاده مسائل الربا، فإنه كان إذا تعذر عليه الصلح يحكم برأس المال دون الربا؛ فيلجأ رب المال إلى الاستئناف؛ ليحكم له بالربا. ومما كان يخالف القانون فيه حبس الشهود الذين يظهر له تزويرهم؛ فإنه كان يخرجهم من الجلسة إلى الحبس، ثم إن الحكومة أقرت عمله هذا وأدخلته في القانون بالتعديل الأخير. وقد أساء الأدب بعض الأجانب مرة في الجلسة فأمر بحبسه فحبس، ثم جاء قنصله الجنرال إلى نظارة الحقانية شاكيًا من ذلك. وكلم المستشار القضائي الفقيد في ذلك، قائلاً: إن هؤلاء القناصل ليس لهم عمل يشغلهم في مصر فهم يفترصون شيئًا يماحكون به الحكومة، ونحن نحب أن لا نجعل لهم سبيلاً إلى القيل والقال. فذكر له الفقيد ما كان من ذلك الأجنبي في الجلسة مع رفع الصوت وعدم التزام الأدب المعروف، وقال: إنني ما دمت جالسًا على هذا الكرسي لتقرير العدل، فأنا لا أقصر في احترامه؛ إذ لا يمكن احترام القضاء إلا بذلك.. إلخ ما قال، وكان مستحسنًا عند المستشار. وقد كان يحكم على الأجانب وينفذ أحكامه، من ذلك أن كثيرًا من الفلاحين كانوا إذا حكم على أحدهم بنزع أرض من يده يلجأ إلى رجل أجنبي، أو رجل داخل في حمايتهم فيعطيه الأرض بعقد كاذب نكاية في خصمه، فيمنع الأجنبي الحكومة من تنفيذ الحكم، أو ترفع الدعوى إلى المحكمة المختلطة، فتحكم فيها وكان من المحكوم لهم من يترك الأرض للأجنبي لاعتقاده بعجزه عن انتزاعها منه في المحاكم المختلطة، ومنهم من كان يلقي بنفسه في مهاوي الدعاوى ويخسر فيها ما شاء الجهل أن يخسر. فعلى أمثال هؤلاء الأجانب كان ينفذ أحكامه بالقوة متحملاً تبعة التنفيذ لعلمه بأن ذلك الأجنبي المحتال لا يتجرأ على مقاضاة الحكومة في دعوى هو فيها مبطل يعجز عن إثبات دعواه. ذلك شأنه في القضاء، وقد كان فيه نسيجًا وحده، ولم يكن مشغولاً فيه عما خلق لأجله من تربية الأمة، فقد كان يعاقب المزورين، وشهداء الزور حتى طهَّر كثيرًا من البلاد من شرهم بعد أن استفحل وطغى سيله، وكان يجتهد في الإصلاح بين أهل البيوت وذوي القربي، ويبالغ فيحفظ حقوق اليتامى. وكان يطارد الفحش والفجور حتى كادت الزقازيق تطهر من رجس البغايا أيام كان قاضيًا فيها كما طهرت من التزوير. ذلك أنه كان يحكم بأشد العقوبة التي يسمح له القانون بها على كل بغي تبرجت في الشوارع وعلى أعين الناس، حتى كاد يجعلهن من ذوات الحجاب، وقد نقل إلينا من بعض الفساق هناك أنه قال مرة لبغي يعرفها: كيف الحال؟ قالت: (زي الزفت، وإذا بقي القاضي أبو عمة (ذو العمامة) هنا فإنه يقطع رزقنا من هذه البلد، عايز يرجَّع الدنيا لزمان سيدنا النبي) أو قالت ما معناه: إن النبي ظهر ثانية. وأما براعته في تحقيق القضايا، وفراسته في تمييز البريء من ذي الريبة فحدث عنهما ولا حرج، وقد كان مؤيدًا بالوجدان الصحيح والإلهام الصادق؛ فإن كان كغيره من البشر عرضة للخطأ في رأية فقد كاد لا يخطئ في وجدانه أو إلهامه. وسمعته يقول في بحث الكسب والاختيار: إنني كثيرًا ما أنظر في قضية فأستخرج من التحقيق الطويل وجوهًا كثيرة للحكم بالإدانة مثلاً، حتى إذا ما تمت المحاكمة وأردت النطق بالحكم تقوض كل ذلك البناء الذي كنت بنيته من وجوه الإدانة وظهر لي بغتة أن المتهم بريء حتمًا؛ فأحكم بالبراءة فسبحان مقلب القلوب. *** عمله في الأزهر كان أول حديث دار بيني وبين الأستاذ الإمام - قدس الله روحه - في مصر الحديث في إصلاح الأزهر. زرته في اليوم الثاني من وصولي إلى القاهرة بداره (في أواخر رجب سنة ١٣١٥) وبعد التحية والسلام، وما يتصل بذلك من كلام كاشفته باعتقادي واعتقاد من أعرف من العقلاء فيه، وأنه بقية رجاء المسلمين في السعي للإصلاح، وأنه بلغني إنه يعمل لذلك في الأزهر، فأفاض في كلام لخصته بعد مغادرة المجلس في عشر مسائل، قال: (١) إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، فإن إصلاحه إصلاح لجميع المسلمين، وفساده فساد لهم. (٢) وإن أمامه عقبات وصعوبات من غفلة المشايخ، ورسوخ العادات القديمة عندهم. (٣) وإن هذا الإصلاح لا يتم إلا في زمن طويل، وإنه إذا رأى حال الأزهر قد صلحت قبل موته؛ فإنه يموت قرير العين ويرى نفسه سعيدًا بل يرى نفسه ملكًا. (٤) وإنه لا يرى لدخوله في الحكومة فائدة إلا الاستعانة على إصلاح الأزهر؛ فإنه لولا مكانته عند الخديوي والحكومة لما كان يسمع له في الأزهر كلام، ولا يقبل له رأي. (٥) وإنه لم يحصل شيء من الإصلاح يذكر حتى الآن. (٦) إنه أراد أن يبدأ بأعمال عظيمة في الإصلاح اغتنامًا للفرصة، فأشيرعليه بوجوب التدريج، ولكن لا بد له من المسايرة، وإن كان يخشى أن تضيع الفرصة بما يسمونه التدريج. هذه ست مسائل في موضوع الأزهر أطال القول فيها، وانتقل منها إلى المسائل الأخرى، وأهمها تخطئة أذكياء المسلمين الذين يريدون خدمة الإسلام من طريق السياسة، وإلى يأس من يعرفه من كبراء المسلمين من نهضهم وتخطئتهم في ذلك. وقال لي في حديث آخر: إن نفسي توجهت لإصلاح الأزهر منذ كنت مجاورًا فيه بعد التلقي عن السيد جمال الدين، وقد شرعت في ذلك؛ فحيل بيني وبينه، ثم كنت أترقب الفرص فما سنحت إلا واستشرفت إليها، وأقبلت عليها، حتى إذا ما صدفت الموانع لويت وصبرت مترقبًا فرصة أخرى. وبعد أن عدت من النفي حاولت إقناع الشيخ محمد الإنبابي بشيء، فلم يصادف قبولاً. قلت له مرة: هل لك أيها الأستاذ أن تأمر بتدريس مقدمة ابن خلدون في الأزهر؟ ووصفت له من فوائدها ما شاء الله أن أصف، فقال: إن العادة لم تجرِ بذلك، فانتقلت به في شجون الحديث إلى ذكر الشيوخ، وسألته: منذ كم مات الأشموني والصبان؟ قال: منذ كذا، قلت: إنهما حديثا عهدٍ بوفاة، وهذه كتبهما تقرأ بعد أن لم تجر العادة بذلك. فسكت، ولم يدخل في الحديث. وقال لي مرة أخرى: إن بقاء الأزهر متداعيًا على حاله في هذا العصر محال فهو إما أن يعمر، وإما أن يتم خرابه، وإنني أبذل جهد المستطيع في عمرانه؛ فإن دفعتني الصوادف إلى اليأس من إصلاحه، فإنني لا أيأس من الإصلاح الإسلامي، بل أترك الحكومة وأختار أفرادًا من المستعدين فأربيهم على طريقة التصوف التي ربيت عليها؛ ليكونوا خلفًا لي في خدمة الإسلام، ثم أؤلف كتابًا في بيان حقيقة الأزهر أمثل فيه أخلاق أهله، وعقولهم، ومبلغ علومهم، وتأثيرهم في الوجود وأنشره باللغة العربية، ولغة إفرنجية حتى يعرف المسلمون وغيرهم حقيقة هذا المكان التي يجهلها الناس حتى من أهله. لما جلس عباس باشا حلمي على كرسي الخديوية تجددت للبلاد المصرية آمال، وتوجهت إلى أعمال كان الغرض منها إزالة الاحتلال، ولو كان هذا الغرض مما ترجى إصابته بسهام المصريين لكان الفقيد يكون في طليعة العاملين؛ لأنه كما نعلم أنفذهم رأيًا، وأقواهم عزمًا، وأخلصهم قلبًا، ولكنه كان يعتقد بعد ذلك السعي الذي أشرنا إليه أن المسألة لا يمكن أن تحل إلا بإتفاق الدول العظام، وأن الرجال في اتفاقهم بعيد كما تبين، فأراد أن يكون حظه من حب الأمير الجديد للعمل السعي في إصلاح الأزهر بنفسه، وإقناع الأمير بالسعي في إصلاح المحاكم الشرعية والأوقاف؛ لأن هذه المصالح الثلاث إسلامية محضة لا مقاومة في إصلاحها للقوة المحتلة، ولا منها، فاتصل بالأمير وحظي عنده وكاشفه برأيه كما كاشف الحكومة بأمله في الأزهر، وجاء بما جاء من آيات الإقناع به حتى توصل إلى إنشاء قانون تمهيدي للإصلاح يديره مجلس مؤلف من أكابر علماء المذاهب في الأزهر ينتخبون انتخابًا، وقد جعل هو وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان من أعضائه على أنهما من قبل الحكومة لا رأي لشيخ الأزهر، ولا للمجلس في انتخابهما، ولا في استبدالهما، وكان الشيخ محمد الأنبابي الذي هو شيخ الأزهر لذلك العهد مريضًا، وقد كثرت شكوى الشيخ من إدارته فعين الشيخ حسونة وكيلاً له بعد أن أخذ عليه العهد بإقامة النظام، والاتفاق مع الفقيد على الإصلاح. عين الشيخ حسونة وكيلاً لمشيخة لأزهر مأذونًا بإدارة شؤونه لسبع خلون من جمادى الثانية سنة ١٣١٢ وصدر الأمر العالي بتشكيل مجلس إدارة الأزهر لست خلون من رجب من تلك السنة -أي في الشهر الثاني -، ثم كان سعى في إقناع الشيخ الأنبابي بالاستقالة يكاد يكون أمرًا حتمًا فاستقال، وصدر الأمر العالي بتولية الشيخ حسونة شيخًا للأزهر في ٢ المحرم سنة ١٣١٣هـ. كان الأستاذ الإمام - رَوَّحَ الله رُوحه في دار السلام - يحب أن يجري الإصلاح في الأزهر بإقناع كبار مشايخه ورضا أهله؛ فبدأ باستمالتهم بتكثير رواتبهم فسعى لدى المستشار المالي الأسبق، وطلب تعيين مبلغ من خزينته المالية لمساعدة الأزهر الذي يخرج للحكومة كذا رجالاً من القضاة الشرعيين، والمفتين والمأذونين؛ فأجيب الطلب، وعين في ميزانية سنة ١٨٩٥ م مبلغ ألفا جنيه للأزهر على أن تصرف بنظام معلوم لا برأي شيخ الأزهر وميله على ما كان يعهد في الأزهر مع الوعد بالزيادة على هذا المبلغ في فرصة أخرى؛ إذا جاء بفائدة فكان هذا حجة للفقيد على وجوب صنع قانون للمرتبات في الأزهر؛ ليكون لكل عالم حق معلوم يتناوله في وقته من غير تزلف إلى شيخ الجامع أو غيره. وتلا هذا القانون قانون كساوي التشريف، ومرتباتها، وكان الرأي فيها من قبل الشيخ الجامع يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، فصارت تعطى لمستحقها من غير سعي ولا تزلُّف فسر الشيوخ بذلك سرورًا عظيمًا. بعد هذا وجه الفقيد عنايته في المجلس إلى نظام التدريس والامتحان، وبيان وسائل العلوم ومقاصدها، وجعل التدريس فيها على طريق توصل إلى الغاية منها وبعد اجتماع ومذكرات طويلة وضع القانون لذلك، واحتيج في تنفيذه إلى المال فلجأ الفقيد إلى أريحية الأمير؛ فصدر الأمر لديوان الأوقاف بصرف ٣٣٧٤ جنيهًا للأزهر بينت مصارفها ومنها ٤٦٤ جنيهًا لإنشاء دار الكتب الأزهرية، ثم وضع نظام آخر لتوزيع الجرايات بالعدل. أما نظام التدريس واختيار كتب العلوم فهو الذي أحب الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أن يجعله برأي كبار الشيوخ؛ ليسهل تنفيذه بالرغبة، ولا يثقل عليهم إلزامهم به من جانب القوة، وليتعود أهل هذا المكان على البحث في الأمور المهمة والتعاون على ما ينفع الأمة، فوضع مشروع نظام التدريس، واختيار الكتب واقترح أن تؤلف لجنة من كبار الشيوخ للبحث فيها، وإقرار ما يرونه نافعًا فألفت اللجنة من أكثر من ثلاثين عالمًا، وجعل الشيخ سليم البشري أحد أعضاء مجلس الإدارة رئيسًا لها. ثم انتخب منها لجنة للبحث في كل فرع من المشرع وإبداء رأيها فيه للجنة الكبرى، وكانت هذه اللجنة مؤلفة من بضعة نفرٍ هم أكابر شيوخ الأزهر، وضم إليهم الأستاذ الإمام من قبل مجلس الإدارة، وبعد أن أتمت هذه اللجنة عملها قدمته إلى اللجنة الكبرى فأفرته هذه بعد تحوير قليل لا يذكر. وكانت مشيخة الأزهر قد أسندت يومئذ إلى الشيخ سليم البشري الذي أوقف كل ما كان المجلس شرع فيه فأوقف أيضًا مشروع إصلاح التدريس، بل كان المجلس يقرر الشيء بالاتفاق مع رئيسه الشيخ سليم، ثم إنه لا ينفذه، ولم يكن القصد من ذلك إلا إحباط سعي الأستاذ الإمام وإبقاء القديم على حاله، ولقد كان قادرًا على الإلزام بالتنفيذ بطلبه رسميًّا من الحكومة ولكنه لم يكن يجب أن يكون للحكومة تصرف في الأزهر، بل أن يبقى مستقلاًّ يصلح أهله برضا واقتناع، وهل يبقى كذلك بعده؟ الله أعلم والأيام تظهر ما يعمل، وكان من الإصلاح الذي تم في الأزهر بسعيه -رحمه الله- تعيين طبيب للأزهر وصيدلية (أجزاخانة) خاصة به في نفس الجامع، وإنارة المسجد بالغاز البخاري، وإنشاء الميضأة على الأصول الصحية، وتجديد مبانٍ صحية في الأروقة وغير ذلك مما نفصله في التاريخ. ومن شاء أن يطلع على ذلك بالتفصيل التام، فليرجع إلى كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) الذي طبع في في هذا العام [١] . وقد انتقل الأزهر بهذا الإصلاح من خلل عام إلى شيء من النظام، ومن حالك الدَّيْجُور، إلى بصيص من النور، ولم يتم عمل من الأعمال على ما كان يحب رحمه الله تعالى. ولكن الإصلاح الحقيقي الذي كان روحًا محييًا ونورًا مبصرًا؛ فهو ما كان يلقيه من دروس التوحيد والتفسير والبلاغة والمنطق، فهذه الدروس هي التي حولت نفوسًا كثيرة عن السبل المتفرقة إلى سبيل الله وصراطه وهي محل الرجاء في هذا المكان. (للسيرة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))