للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المطبوعات الحديثة

(المسوَّى من أحاديث الموطَّأ)
(طُبع الجزء الأول منه بالمطبعة السلفية بمكة سنة ١٣٥١ على نفقة ناشريه
الشيخ عبد الوهاب الدهلوي، والشيخ محمد صالح نصيف الحجازي، ونُشِرَ في
سنة ١٣٥٢) .
هذا الكتاب من مصنفات الشيخ أحمد ولي الله الدهلوي الهندي وطنًا، العمري
الفاروقي نسبًا، مجدد القرن الثاني عشر للهجرة في الهند بدعوته وإرشاده وتربيته
وتدريسه ومصنفاته، وبمن ترك من العلماء الأعلام من أبنائه وتلاميذه ومريديه،
فقد كان جامعًا بين العلوم النقلية والعقلية والفلسفة والتصوف كما يُعْلَم من كتابه
المشهور (حجة الله البالغة) الذي وضعه لبيان مقاصد الشريعة، وحكمها وأسرارها،
وإن أشهر علماء الهند من بعده إلى يومنا هذا يتصلون بسلسلته، ويجرون على
طريقته رحمه الله. سمعت هذا منهم في مدرسة ديوبند.
والمشهور أن كتابه (المسوَّى) هذا شرح لموطأ الإمام مالك بن أنس رحمه
الله، فهو بهذا يوصف ويعرف، وليس الأمر كذلك، فهو ليس بشرح للموطأ،
واسمه لا يدل على أنه شرح له، وإنما هو نوع جديد من أنواع الإصلاح والتجديد
لم ينسج بعده أحد على غراره، ولا قفَّى تلاميذه بمثله على آثاره، بل لم يفهموا
مراده منه لإجماله واختصاره، وقد وصفه هو بقوله في مقدمته:
(وقد شرح الله صدري - والحمد لله - أن أرتب أحاديثه ترتيبًا يسهل تناوله،
وأترجم على كل حديث بما استنبط منه جماهير العلماء، وأضم إلى ذلك من القرآن
العظيم ما لا بد للفقيه من حفظه، ومن تفسيره ما لا بد له من معرفته، وأذكر في
كل باب مذهب الشافعية والحنفية؛ إذ هم الفئتان العظيمتان اليوم، وهم أكثر الأمة،
وهم المصنفون في أكثر الفنون الدينية وهم القادة الأئمة) .
ثم قال: وفهمي الحق أن في ذلك فتحًا لأبواب الخير، وجمعًا لشمل الأمة
المرحومة، وهزًّا لطبائع جامدة طالما ركدت، وإرشادًا إلى طرق من العلم طالما
تُرِكَتْ.
وأرجو من فضل الله ورحمته أن يكون هذا الكتاب جامعًا لخمسة أنواع [١] من
الأحكام هي العمدة لمن أراد أن ينتهج مناهج الكرام: ما أُخِذَ من نصوص الكتاب،
وما أثبتته الأحاديث المستفيضة أو القوية المروية في الأصول في كل باب، وما
اتفق عليه جمهور الصحابة والتابعين، وما استنبطه مالك وتابعه جماعات من
الفقهاء والمحدثين. اهـ.
(أقول) فكتاب (المسوَّى) ترتيب جديد لكتاب الموطأ بتصرف زيادة
ونقصان مع تعليق وجيز على مسائله، وذكر مذهب الشافعية فيها منقولاً بالاختصار
من شرح الجلال المحلي على منهاج النووي، ومذهب الحنفية منقولاً عن الفتاوى
العالمكيرية بالاختصار أيضًا، وهو يعزو إليهما في الغالب، وقد يذكر المذهبين
بغير عزو، وقد يعزو إلى غيرهما، وأما آيات القرآن التي زادها في بعض
الأبواب فمنها ما يفسرها تفسيرًا وجيزًا ولو ببيان معنى مفرداتها، ومنها ما يسكت
عنها، وهو يذكر أولاً رواية مالك للحديث أو الأثر، ويقفي عليه بقوله (قلت كذا)
يشير به إلى الوفاق والخلاف وما عسى أن يكون فيه من معارضة أو تعقب بحديث
آخر، ويقول في الاتفاق: وعليه أهل العلم، وأما الاختلاف فهو ما يحكيه عن
الحنفية والشافعية.
وليس فيما رأيته منه شرح لعبارات الروايات، ولا بحث في أسانيدها ولا في
متونها غير ما ذكرت، فالمسوَّى لا يصح أن يسمى شرحًا، وأما الشرح الحقيقي
للموطأ، فهو ما كتبه المصنف باللغة الفارسية، وقد طُبع في الهند، وقد أحسن
متولي طبع (المسوَّى) بترجمة مقدمته بالعربية، ونشرها هنا قبل الشروع في
طبع المسوَّى، وقد عُلِمَ منها أن مراده رحمه الله تعالى بذلك الشرح هداية السبيل
للخروج من ظلمات التقليد والاختلاف في الدين إلى نور الاستقلال والفهم الاجتهادي
المطلق الذي أجمعت الأمة على وجوبه في كل عصر؛ لتقوم به حجة الله على أهله
بما يقتضيه ما يتجدد لهم من العلم والشبهات والقضاء، وليس في كتاب المسوَّى
شيء من الإعداد لسلوك هذا السبيل، وإنما هو لطبقة دون هذه الطبقة في علم الدين
هي طبقة العامة، وتلك طبقة الخاصة.
فإذا أردنا أن تكون عامة المسلمين اليوم على منهاج عامة السلف الصالحين
في الاستنارة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه
جمهور الصحابة والتابعين فحسبهم أن يقرأ لهم هذا الكتاب، الذي هو الأساس الأول
لكتب الصحاح والسنن والينبوع الأول لكتب الفقه، لا يكادون يحتاجون إلى غيره،
فعسى أن يكون طبعه سببًا لما نعتقد أنه أُلِّف لأجله.
وهذه التعليقات للإمام الدهلوي عليه تُعَلِّمهُم بالجملة ما اتفق عليه جمهور أهل
الصدر الأول مما لا يسعهم مخالفتهم فيه، وما اختلف أشهر المجتهدين فيه، ولهم
السعة في تقليد أيهم شاؤوا من غير حجر ولا جرح، ولا التزام ولا تعصب، ولا
خلاف ولا شقاق في الدين، كالذي لا نزال نراه بين المسلمين بجهلهم وتعصبهم
لأهوائهم، وأشده في بلاد الهند، فقد حدث منذ أشهر شقاق بين أهل مسجد في
(بمباي) بتعيين إمام حنبلي له، ولولا تدخل شرطة الحكومة الإنكليزية وشحنتها بين
الفريقين المتعصبين له، والمتعصبين عليه لوقع في المسجد الجامع من سفك لدماء
المسلمين، ما لا يجوز أن يقع بين أهل القبلة المصلين، ووقع مثل ذلك في بنارس
زارها سائح مسلم؛ فأنزله إمام مسجد للحنفية فيه، فبلغ الأهالي أن هذا السائح
مالكي المذهب؛ فهجموا عليه لقتله فسافر منها ليلاً هاربًا بدمه المالكي من استباحة
أخيه الحنفي له، والله تعالى يقول في المشركين: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: ١١) .
إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأئمة المذاهب كلهم رضي الله عنهم
بُرَآء من هؤلاء المسلمين الجاهلين، فكلهم متفقون على عدم تكفير أحد من أهل
القبلة، وعلى جواز الصلاة مع الفاسق والمبتدع غير الكافر، وإن إمحاء هذه
المذاهب التي يدعونها خير لهم من بقائها مع هذا الشقاق، ولو كانوا يلقنون في
مدارسهم ومساجدهم مثل كتاب المسوى، لعلموا أنه لا ينفرد مذهب من مذاهبهم
برأي اجتهادي هو واجب على أحد من المسلمين؛ فإن جميع الآراء تسقط حيث
يوجد نص للشارع في المسألة، وتتساوى بالنسبة إلى العامي العاجز عن الترجيح
بينها، فهل يجوز أن يتعادوا ويتقاتلوا لأجلها؟ والتعادي والتقاتل في هذا محرم
بالإجماع؟ وكذا ما دون ذلك من السباب والهجر:
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم ... وأنتم يا عباد الله إخوان