محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني (٣)
كلمة المنار في المحاضرة (الشاهد السادس) (من العدد السابع من العروة الوثقى المؤرخ في أول مايو سنة ١٨٨٤) . موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد (عقيدة القضاء والقدر) ذكر فيها أنها من أصول عقائد الدين الإسلامي التي ارتقى بها المسلمون، وكانوا من أعظم الفاتحين، وأنه لولا ما طرأ عليها من الالتباس ببدعة الجبر لَما حل بالمسلمين من الضعف والفقر ما حل بهم، وزعم من زعموا أنها هي التي كانت سبب ضعفهم وتقهقرهم. وهاك بعض عباراتها في ذلك: (أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشؤه هذه العقيدة ولا غيرها من العقائد الإسلامية، ونِسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه؛ بل أشبه ما يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار. نعم حدث للمسلمين بعد نشأتهم نشوة من الظفر، وثمل من العز والغلب، وفاجأهم وهُم على تلك الحال صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة التتر من جنكيز خان وأحفاده، وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوروبية بأسرها على ديارهم. وإن الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي وتوجب الدهشة والسبات بحكم الطبيعة، وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة، ووسد الأمر فيهم إلى غير أهله، وولي على أمورهم مَن لا يحسن سياستها، فكان حكامهم وأمراؤهم من جراثيم الفساد في أخلاقهم وطباعهم، وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم، فتمكن الضعف من نفوسهم وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز لذته الآنية، وأخذ كل منهم بناصية الآخر يطلب له الضرر ويلتمس له السوء من كل باب، لا لعلة صحيحة ولا داع قوي، وجعلوا هذه ثمرة الحياة فآل الأمر بهم إلى الضعف والقنوط، وأدى إلى ما صاروا إليه) . (ولكني أقول وحق ما أقول: إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم، ورسومها تلوح في أذهانهم، وحقائقها متداولة بين العلماء الراسخين منهم. وكل ما عرض عليهم من الأمراض النفسية والاعتلال العقلي فلا بد أن تدفعه قوة العقائد الحقة ويعود الأمر كما بدأ، وينشطوا من عقالهم، ويذهبوا مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم، وإرهاب الأمم الطامعة إليهم وإيقافها عند حدها) . اهـ. (الشاهد السابع) (من العدد الثامن المؤرخ في ٢٢ مايو سنة ١٨٨٤) . موضوع المقالة الاجتماعية في هذا العدد المقابلة بين ماضي المسلمين وحاضرهم في العلم والعرفان، والسيادة والسلطان، والقوة الحربية البرية والبحرية، وبيان سبب ما كان من الارتقاء الماضي، وتنازعهم الذي فرق الكلمة، حتى شغلوا بأنفسهم عن أعدائهم ثم صاروا ينصرون أعداءهم على أنفسهم، استعانة بهم على استبقاء سلطانهم والتفوق على أقرانهم من إخوانهم. قال في هذا السياق: (أما وعزة الحق وسر العدل، لو ترك المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم، وائتلفت آحادهم، ولكن واأسفاه، تخللهم أولئك المفسدون الذين يرون كل السعادة في لقب أمير أو ملك، ولو على قرية لا أمر له فيها ولا نهي) . (هؤلاء هم الذين حولوا أوجه المسلمين عما ولاهم الله وخرجوا على ملوكهم وخلفائهم، حتى تناكرت الوجوه واختلفت الرغائب) . ثم قال في الخاتمة: (إن القرآن حي لا يموت، ومن أصابه نصيب من حمده فهو محمود، ومن أصيب بسهم من مقته فهو ممقوت، كتاب الله لم ينسخ فارجعوا إليه وحكموه في أحوالكم وطباعكم، وما الله بغافل عما تعملون. ولعل أمراء المسلمين قد وعظوا بسوء مغبة أعمال السالفين، وهموا بملافاة أمرهم قبل أن يقضى عليهم، بما رزئ به المفرطون من قبلهم) إلخ. (الشاهد الثامن) (من العدد التاسع المؤرخ في ٥ يونيه ١٨٨٤) . موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد، ما يجب من التعاون على طلب السيادة والغلب واتقاء سوء المنقلب، ومما جاء فيها: (إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة، وصدق الرغبة في حفظ حَوْزَة الإسلام، كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبة، ولكن دهاهم ما أشرنا إليه في أعداد ماضية. فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم) إلخ. (الشاهد التاسع) (من العدد العاشر المؤرخ في ١٩ يونيه سنة ١٨٨٤) موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد: الأمل الذي يبعث على العمل، وطلب المجد المؤثل، واليأس المميت للهمم، والقاتل للأمم، وفيها الحجج من آيات القرآن ومن العقل والوجدان، على أن اليأس لا يجتمع مع الإيمان في قلب إنسان، وحث المسلمين عامة والعلماء خاصة على الرجوع إلى هداية الكتاب والعمل بها وهي الضامنة لهم إعادة ملكهم، واسترجاع مجدهم. وفيها مقال آخر عنوانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: ١١٨) ولا يخلو من شاهد ولكننا نود الاختصار. (الشاهد العاشر) (من العدد الخامس عشر المؤرخ في ١١ سبتمبر سنة ١٨٨٤) في هذا العدد عدة مقالات اجتماعية إصلاحية إسلامية في كل منها شواهد على ما نحن بصدد بيانه من حصر السيد جمال الدين كل ما يبغيه المسلمون من عز ومجد وحضارة وسيادة في هداية دينهم، نكتفي منها بالكلمة الآتية التي نجعلها خاتمة الشواهد وهي: (لو تدبرنا آيات القرآن واعتبرنا بالحوادث التي ألمت بالممالك الإسلامية لعلمنا أن فينا من حاد عن أوامر الله وضل عن هديه، ومنا من مال عن الصراط المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدنا إليه، وبيننا من اتبع أهواء الأنفس وخطوات الشيطان {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: ٥٣) فعلى العلماء الراسخين وهم روح الأمة وفؤاد الملة المحمدية أن يهتموا بتنبيه الغافلين عما أوجب الله، وإيقاظ النائمة قلوبهم عما فرض الدين، ويُعلّموا الجاهل، ويزعجوا نفس الذاهل، ويذكِّروا الجميع بما أنعم الله به على آبائهم، ويستلفتوهم إلى ما أعد الله لهم لو استقاموا، ويحذروهم سوء العاقبة لو لم يتداركوا أمرهم بالرجوع إلى ما كان عليه النبي وأصحابه، ورفض كل بدعة، والخروج من كل عادة سيئة لا تنطبق على نصوص الكتاب العزيز، ويقصوا عليهم أحوال الأمم الماضية وما نزل بها من قضاء الله عندما حادت عن شرائعه ونبذت أوامره {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الخِزْيَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٢٦) . (على العلماء أن يزيلوا اليأس بتذكير وعد الله - ووعده الحق - في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور: ٥٥) هذه وظيفة العلماء الراسخين وما هم بقليل بين المسلمين ولا نظنهم يتهاونون فيما فوَّض الله إليهم ووكَّل إلى ذمتهم، وهم أمناء الدين وحملة الشرع ورافعو لواء الإسلام وأوصياء الله على المؤمنين، أعانهم الله على خير أعمالهم، ونفع المؤمنين بإرشادهم) . *** (خلاصة الكلام في السيد جمال الدين) قد علم من هذه الشواهد صحة ما حقَّقْنَاه من أن السيد جمال الدين الأفغاني كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإسلام هو الذي أحيا الأمة العربية الأمية التي كانت بعيدة عن الحضارة وجعلها بإرشاد القرآن المنزل، وهدى النبي المرسل، وسيرة السلف الأول، أرقى أمم الأرض علمًا وحكمة وحضارة، وأن كل ما يذمها به رينان اليوم فسببه محصور في تركها لتلك الهداية، لا من العمل بها، ولا غرو فإن بقاء الشيء ببقاء سببه وعلته، وإن الأمة العربية هي التي أحيت كثيرًا من الشعوب الأعجمية وأنقذتهم من الذل والمهانة التي كانوا يُسامونها من ملوكهم وكهنتهم، وأن هؤلاء الأعاجم هم الذين تغلبوا على الحضارة العربية بالقوة الوحشية حتى هدموها، وأنه لا يمكن أن يعود للمسلمين مجدهم وحضارتهم وعلمهم وحكمتهم إلا برجوعهم إلى هداية دينهم. فسقط بهذا كل ما قاله رينان وعلم به خطأ استنتاج الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق مما فهمه من كلام السيد أنه تطور بعد زيارته لباريس في أواخر سنة ١٨٨٣ وتغير رأيه في الإسلام فصار يعتقد أنه مناف للعلم والحضارة. *** الرد على رينان بعد هذا نلخص ما أورده الشيخ مصطفى من طعن رينان في الإسلام نفسه ونُبين بطلانه بغاية الإيجاز، من غير خروج عن الموضوع ولا استطراد فنقول: (١) (بدأ رينان محاضرته بالنظر فيما عليه المسلمون في هذا العصر من الانحطاط في العلم والمدنية وملاحظة اتصال ذلك بالدين) كما قال صاحب المحاضرة، ثم نقل عنه أنه زعم أن هذه الدول الإسلامية المنحطة في هذا العصر لا تستقي معارفها وآدابها من غير الدين، وأن الذين زاروا الشرق استرعى نظرهم ما يجعل المؤمن الصادق الإيمان لا ينجو من ضيق العقل، وأن الطفل الذكي النبيه إذا لُقِّن دينه في سن العاشرة أو الثانية عشرة انقلب متعصبًا يملؤه زهو طائش بما يزعم أنه الحقيقة المطلقة. والجواب عن هذا أننا لا ننكر أنه يغلب على المسلمين الجهل وضيق العقل في هذا العصر، وإنما ننكر أن سبب هذا ما لُقنوه من أصول دينهم وآدابه، بل سببه الحق عدم تلقين عامتهم إياه ولا تربيتهم على ذلك وحمل طلاب العلم منهم على التقليد الذي أجمع أئمة دينهم على أنه ينافي العلم، وعبروا عنه بالجهل، واختلفوا في إيمان المقلد فبعضهم قال: إنه لا يُعْتَدُّ به، وهم أكثر المتقدمين، وقال بعض آخر: إنه يصح إذا اتفق أنه لقن الحق وجزم به، واحتج مَن لا يقول بصحة إيمان المقلد ولا يعتد بدينه بما شنع القرآن على التقليد والمقلدين وجعل التقليد منافيًا للعلم والعقل بمثل قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتبعوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: ١٧٠) . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة: ١٠٤) . دع الآيات الكثيرة الناطقة بالمطالبة بالبرهان وبالعلم وبعدم الاعتداد بالظن في الحق. وسواء كان إيمان المقلد صحيحًا أو غير صحيح، فإن الجاهلين من رؤساء المسلمين لم يجنوا عليهم جناية أضر عليهم في دينهم ودنياهم من نسخ ما شرعه الله وفرضه من العلم بالبرهان، واستبدالهم إياه التقليد الأعمى الذي ألزمهم قبول كل قول ينتسب صاحبه إلى المذهب الذي ينتمي إليه قوم الناشئ أو عشيرته؛ إذ أدى ذلك إلى أخذ السواد الأعظم من المسلمين وهم الأميون بالرغم من بعثة رسولهم لإبطال الأمية بقول آبائهم وأمهاتهم وما هم عليه من الجهل والخرافات بل غلب عليهم التقليد في علوم الدنيا وفنونها وصنائعها حتى صاروا عالة على غيرهم في كل شيء. إن فلسفة رينان، وعلمه النزر بالتاريخ وتعاليم الأديان، وجهله المطلق بالقرآن، تحول دون فهمه لهذه الحقيقة - حتى بعد تنبيه السيد جمال الدين إياه لها - كما فهمها غوستاف لوبون وسديو من علماء قومه وكثير من علماء الشعوب الغربية الأخرى. (٢) شتمه للمسلمين ونبزهم بألقاب الزهو والطيش والحمق والغرور والتعصب لاعتقادهم أن دينهم هو (الحقيقة المطلقة) (قال) : هذا الغرور الأحمق هو أكبر عيوب المسلم وما يلوح من بساطة دينه يلهمه احتقارًا لسائر الأديان غير وجيه. وجوابنا عن هذا: هل جهل الفيلسوف أن كل ذي دين يعتقد أن دينه هو الحقيقة؟ أم بلغ من عقله وفلسفته أن يظن أن المؤمنين بالأديان ينظرون إليها بالعين التي ينظره بها أمثاله من المعطلة فيرون أنها كالعادات القومية تحترم كلها مجاملة، ويستهجن منها كلها ما يستهجن فلسفة؟ وإذن يجب أن يكون الناس كلهم فلاسفة مثله! ولكن من يرى هذا فأجدر به أن يكون جاهلاً غبيًّا لا فيلسوفًا. هذا وإن المسلمين أعلى أهل الملل كلها آدابًا في مخاطبة المخالفين لهم في الدين، ومراعاة لشعورهم في التعبير عن دينهم، وأصدقهم في النقل عنهم، فإن كابرنا في هذا أحد فليأتنا بأنكر ما ينكرونه على علمائنا في الرد على المخالفين لهم عامة، وعلى النصارى منهم خاصة، ونحن نأتيه بأمثلة مما كتب أعظم رجال الدين ورجال الدنيا من الأوروبيين في الكذب والبهتان على الإسلام والإيذاء لأهله بأشنع المطاعن البذيئة، يعلم بها الفرق. لقد بلغ من علو آدابنا الدينية وتنزهنا عن التعصب المذموم- دون المحمود - أن أفتى بعض فقهائنا بتحريم مخاطبة الذمي والمعاهد بلقب الكافر إذا كان يتأذى به؛ لأن الله تعالى حرم إيذاءهم؛ ولأن وصف القرآن إياهم بالكافرين لم يكن سبًّا ولا شتمًا بل بيان لعدم إيمانهم بما شرعه من تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم بأنزه الألفاظ في اللغة وهو لفظ الكفر المرادف للتغطية والستر، كما سمى الزراع كفارًا في قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: ٢٠) لأنهم يَكفرون الحب الذي يزرعونه بالتراب، ويطلق لفظ الكافر في لغتنا على الليل وعلى البحر. ((يتبع بمقال تالٍ))